بعد اغتيال فؤاد شكر وسط الضاحية الجنوبية في قلب بيروت وإسماعيل هنية في قلب طهران تسود المنطقة حالة ترقب بانتظار الرد على تلك الحوادث. وبينما يستمر استنزاف قطاع غزة، واستهداف المدنيين وتدمير بنيته، يبقى عدوان الاحتلال على القطاع دون تحقيق نتائج، ولا يبدو ذلك قريباً، فلا المحتجزون خرجوا من غزة، ولا حماس هزمت.
ويصعد الاحتلال من ممارساته في الضفة، إذ جعلها جبهة مفتوحة تشهد تصعيداً للاستيطان واعتداءات المستوطنين والاجتياح والإغارة اليومية على المدن والقرى الفلسطينية لممارسة القتل والتدمير والاعتقال.
وعلى الجبهة الشمالية يتأجج وهج النيران في كل ساعة، ويفتح آفاق خروجها عن قواعد التفاهم الضمني للردع المتبادل.
يبدو واضحاً أن إسرائيل عندما أقدمت على عمليتي الاغتيال الأخيرتين تنتظر الرد. فعدم الرد أو الرد الضعيف يعكس ضعف إيران وحزب الله، ما يعني مواصلة ضغط إسرائيل على لبنان، في ظل عدم تدخل إيران، بينما يوجب الرد المزلزل من قبل الحزب وإيران رداً أقوى، ما يعني الدخول في دوامة الردود المتبادلة وتوسيع دائرة الحرب.
جاءت جريمتا الاغتيال اللتان أقدمت عليهما إسرائيل نهاية الشهر الماضي في ظل رسالتين لإدارة بايدن، الأولى أرسلتها من داخل الولايات المتحدة ومن قلب الكونغرس، تؤكد على المضي قدماً بمخططاتها بمواصلة الحرب وتوسيعها ولا سبيل للضغط على إسرائيل بخلاف ذلك، والرسالة الثانية رسّختها باغتيال هنية لتعكس عدم نيتها مواصلة المفاوضات حول أي صفقة تبادل.
في العام ٢٠١٥، عندما زار نتنياهو الكونغرس عكس ذلك انتقاده لسياسة أوباما بعد توقيع إدارته على الاتفاق النووي الإيراني، لكنه عندما قام بزيارته الأخيرة للكونغرس أعلن تحديه لتوجهات إدارة بايدن الرافضة لتوسيع الحرب. وها هي الأساطيل البحرية الأميركية تنسحب من المحيط الأطلسي والهادي، وتصل لمياه الشرق الأوسط، ناهيك عن التحشيد العسكري الجوي والبحري والاستخباري، فحماية إسرائيل لها أولوية على إستراتيجيات ومصالح الولايات المتحدة، وبات الحديث صريحاً، بأن الولايات المتحدة قد لا تكتفي بالدفاع عن إسرائيل فقط، إذ قد يمتد الأمر للهجوم أيضاً.
لا يرغب حزب الله بحرب مدمرة لبلاده، ولا ترغب إيران بحرب واسعة مع إسرائيل، وطالما اكتفت بحروب الظل معها، خصوصاً أنها تعلم علم اليقين أن إسرائيل لن تكون وحدها فيها. ولا ترغب الولايات المتحدة بالانخراط بحرب جديدة في المنطقة، وطالما قاومت محاولات إسرائيل لتوريطها فيها، خصوصاً في ظل إستراتيجيتها بالالتفاف بعيداً عن الشرق الأوسط. إسرائيل وحدها من تريد الحرب، فالحرب تضمن بقاء الحكومة الحالية على رأس الحكم، وعدم التعرض للمساءلة عن إخفاقات السابع من أكتوبر. وبقاء هذه الحكومة في حالة حرب موسعة يجعلها تعتقد أن تحقيق أهداف كبرى لإسرائيل، تتعلق بفلسطين المحتلة وحزب الله والملف النووي الإيراني، قد يرفع عنها عبء المحاسبة عن تقصيرها في التصدي لهجوم ٧ أكتوبر، وقد يسمح لنتنياهو بالتهرب من عواقب محاكمته. ولا تأبه حكومة نتنياهو، في سبيل تحقيق تطلعاتها بتوريط الجبهة الإسرائيلية الداخلية المستنزفة على مستويات عديدة، بشرياً ومجتمعياً وعسكرياً واقتصادياً، على مدار قرابة العام.
ولا تخفي هذه الحكومة رغبتها المحمومة بإشعال الحرب، فقد روجت لضربة استباقية، ضد حزب الله أو إيران أثناء انتظارها لردهما.
قد يكون الرد، الذي قد يشكل مخرجاً مؤقتاً بعدم تأجيج حرب تتدخل فيها الولايات المتحدة، الإقدام على عمليات اغتيال مشابهة لتلك التي جرت في بيروت وطهران، رغم أن إسرائيل منذ اللحظات الأولى كثفت تركيزها على حماية الشخصيات لديها. وقد يكون المخرج لردع توجهات إسرائيل بتدمير المنطقة شبيهاً بما اتخذته مصر، التي أعلنت رسمياً للولايات المتحدة بأنها لن تكون طرفاً في أي حرب، إذ قد يشكل ذلك ضغطاً جماعياً من قبل دول المنطقة على الولايات المتحدة يأتيها من دول الخليج العربي ومن العراق ومن الأردن، بالإضافة لمصر.
إن الولايات المتحدة، وفي ظل تطورات الأحداث لديها داخلياً وخارجياً، تثبت يوماً بعد يوم أنها لم تعد القوة العظمى الأهم في العالم. فتعامل الولايات المتحدة مع طلابها لقمع حراكهم الأخلاقي المدافع عن الفلسطينيين الذين يتعرضون للموت بأدوات قتل تُدفع أثمانها من أموالهم، والتغطية على معارضة سياسيين لزيارة نتنياهو الأخيرة للكونغرس، وهو ما بات يسمع صداه من جهات وشخصيات أميركية عديدة، ما يجعل الديمقراطية الأميركية التي طالما تغنت بها الولايات المتحدة في الميزان. كما أن الدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل بات يشكل عبئاً مكلفاً للولايات المتحدة، سواء في الأروقة المؤسساتية الدولية التي تدور فيها مدافعة عن إسرائيل، أو لدى شعوب العالم التي انكشف لديها الدور الخبيث الذي تلعبه دولة عظمى في التغطية على أفعال كيان محتل، والدفاع عنه وحمايته.
ولا شك في أن انحسار دور ومكانة الولايات المتحدة لدى الشعوب العربية والإسلامية خصوصاً في ظل تطورات حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة، والتصعيد في الضفة سيكلف الولايات المتحدة حلفاء مهمين لها فيها. فرغم التحالف الأميركي مع العديد من دول المنطقة، إلا أن ثورة الشعوب ضد جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ستجعل حكومات تلك الدول محرجة في التماهي مع توجهات وسياسات واشنطن، وهذا ما بدأنا نشهده اليوم، خلال تعدي إسرائيل المسعور على الفلسطينيين في فلسطين المحتلة وعلى دول المنطقة.
لقد بات من المحرج لأي حكومة عربية، حتى وإن كانت حليفة للولايات المتحدة، التصدي لصواريخ إيران الموجهة لإسرائيل، وكانت تجربة شهر نيسان الماضي، مثالاً حياً على ذلك. فسياسة إسرائيل لم تتسبب فقط في إحراج الولايات المتحدة مع حلفائها في المنطقة، بل أيضاً باتت عاملاً لتقويض استراتيجيتها وسياساتها التي طالما رسمتها لضمان توجهات دول المنطقة.
قد يفسر ذلك زيارة وزير الخارجية الأردني لإيران قبل أيام، والرسائل الإيجابية المتبادلة التي تم تبادلها خلال الزيارة، وكذلك موقف مصر الإيجابي الأخير خلال حرب محتملة بين الاحتلال ودول المنطقة. كما أن القوى العظمى الصاعدة البديلة عن الولايات المتحدة موجودة ومستعدة للإحلال مكانها لدى دول المنطقة، والتي باتت لا تخفي استعدادها للبحث عن بديل، عند الحاجة والمصلحة. ولعل لجوء المملكة العربية السعودية إلى الصين لتطوير مشروعها السلمي النووي، في ظل تردد الولايات المتحدة، دليل على أن العالم يتغير، ولا يقف عند دولة أو مكان واحد.
يأتي ذلك في ظل عدم استعداد الصين وروسيا للتورط في حروب إسرائيل المفتعلة، التي تتورط فيها الولايات المتحدة حد الشراكة، والتي لا تزال متورطة في حرب أوكرانيا.
لا تأتي الرياح دائماً بما تشتهي السفن. ليس كل ما تخطط له إسرائيل سينجح.
فشلت مخططات إسرائيل في غزة، فلا التهجير ممكن، ولا القضاء على حماس يلوح في الأفق، ولا إخراج المحتجزين في غزة أحياء أمر واقعي دون صفقة.
وعلى حكومة الاحتلال الآن التفاوض مع السنوار بدل هنية، الذي حل مكانه في قيادة الحركة بعد اغتياله، ما يجعل الوصول لصفقة، لا ينشدها نتنياهو، أشد تعقيداً.
ويبقى الوضع في فلسطين على ما هو عليه، مقاومة وصمود في غزة وفي الضفة، فلا مكان للفلسطينيين إلا الصمود في أرضهم، وهو ما أثبتته الأيام والتجارب، وليس من سبيل أمامهم إلا التحدي والمقاومة والمواجهة لجرائم الاحتلال بحقهم. كما أن توسيع إسرائيل لدائرة الحرب في المنطقة ليس في مصلحتها، فحرب طويلة، وهو ما عليها أن تتوقعه، في ظل خروج نمطها عن الحروب التقليدية، باعتمادها على الهجمات الإلكترونية والمسيرات والصواريخ الموجهة، وإحاطتها ومن داخلها بالاعتداء، سيجعل نتائجها تأتي على غير التوقعات، تماماً كما حدث في غزة.