المسكوت عنه بعد 300 يوم من الحرب على غزة

الإثنين 05 أغسطس 2024 12:35 م / بتوقيت القدس +2GMT
المسكوت عنه بعد 300 يوم من الحرب على غزة



بقلم ميساء جيوسي:

 

تتشعب فصول المعاناة في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في حرب شارفت على نهاية عامها الأول، ستون يوما يفصلوننا عن شهر أكتوبر، وفي مثل هذا الشهر من العام المنصرم اندلعت الحرب إثر هجمات السابع من أكتوبر التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية حماس على مواقع مختلفة في إسرائيل نتج عنها أسر عدد كبير من الإسرائيليين لا زال المئات منهم في يد فصائل فلسطينية في غزة والعدد الأكبر منهم في حوزة حماس. توالت فصول الدمار وتشعبت وصعدت اعداد الضحايا بشكل متواتر لم يتم حصره بشكل دقيق حتى يومنا هذا بسبب كم الدمار وصعوبة عمليات الإنقاذ والتعرف على العديد من الجثث وتقييدها بأرقام دون أسماء لكن الاحصائيات تشير إلى يشارف على 40 ألف شهيد ممن تم التعرف عليهم وإحصائهم.

 

ومنذ بداية الحرب تردد بشكل متكرر عن مسؤولين فلسطينيين وعمال إغاثة دوليين بأن أسر كاملة تم شطب أسمها من السجل المدني، عدد لا حصر له من المشردين، والمفقودين والمصابين في مشهد دامي لازالت فصوله السوداء تتكرر إلى يومنا هذا. لكن وإن كان كل ما مر هو مما يمكن حصره وتعداده ووضعه في إطار احصائي وأرقام، فإن المسكوت عنه وغير القابل للإحصاء الرقمي هو ما يتعرض له المدنيون بعيدا عن الموت المباشر ألا وهو الموت البطيء الصامت بكل أشكال التعذيب النفسي والتعرض للأزمات المتصلة بالخوف والاضطراب والتعرض للتحرش الجنسي وغيرها من الحوادث المتصلة بشكل مباشر بمناطق النزاع الصراعات والحروب وغزة في هذا ليست استثناءا.

 

فقد رأينا مسنة ينهشها كلب مدرب من قبل قوات الاحتلال ورأينا معاقين جسديا وعقليا ينكل بهم، ورأينا معتقلين يعتدى عليهم جنسيا وغيرها مما لم نستطع رؤيته أو السماع به لهول المواقف. كما أن التقارير الإنسانية الصادرة عن الجهات العاملة في القطاع تشير إلى أن اكثر من مليون طفل هم عرضة للمجاعة والموت بسبب نقص المواد الغذائية وعدم تمكن اسرهم من توفير ابسط مقومات الغذاء اليومي الذي يمكنهم من الاستمرار على قيد الحياة. حيث تقول مؤسسة انقاذ الطفل بأن الأطفال الذين نجوا من نيران القنابل سيموتون جوعا وعطشا ومرضا في حال استمرار استخدام المساعدات كسلاح.". [1] وإن لم تشير هذه المنظمات الدولية بشكل واضح بأن هذا السلاح يستخدم من قبل إسرائيل في الضغط على حماس وبقية الفصائل الفلسطينية في القطاع في محاولة لجعل المدنيين ورقة ضغط لصالح إسرائيل في محاولة حسم نتائج الحرب وهو ما لم يحصل إلى اليوم وبقي المدنيون ولا سيما الأطفال والنساء والمسنين هم الحلقة المفقودة في صراع دموي وصف من قبل المؤسسات الدولية ومؤسسات الإغاثة على انها أبادة جماعية ممنهجة وغير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.

 

فوفقا لتقرير انساني مشترك أصدرته مجموعة من المؤسسات الاغاثية العاملة في قطاع غزة فإن " المدنيون يخضعون باستمرار لأوامر إعادة التوطين من المناطق التي كانت تعتبر آمنة في السابق مع عدم كفاية الوقت لإخلائها. وقد هجر أكثر من 190,000 فلسطيني خلال أربعة أيام في دير البلح وخان يونس. وقالت الأمم المتحدة إن أكثر من 80٪ من غزة قد وضعت تحت أوامر الإخلاء أو صنفتها القوات الإسرائيلية على أنها "مناطق محظورة"، مما حصر 1.9 مليون نازح داخليا في حوالي 17٪ من القطاع.[2]

ما لا يمكن لكاميرات الصحافة ولا للتقارير الواردة من القطاع تصويره ليس كم الدمار المادي الذي أحال القطاع إلى مكان لا يمكن العيش فيه حتى وإن وضعت الحرب أوزارها صباح الغد، فغزة التي اختفت مستشفياتها ومدارسها وجامعاتها وجوامعها وكنائسها وتحولت معالم شوارعها إلى أثر بعد عين. هذا الدمار الظاهر يقابله ويوازيه دمار نفسي ومعنوي أحال أهالي غزة إلى أشباح يريد من يحبهم أن يراهم أبطالا صامدين فوق مستوى البشر، ويريد من يكرههم أن يراهم أشلاء متناثرة على حواف الشوارع تنهشها الكلاب بلا ملامح يمكن التعرف إليها.

 

ينسى العالم بأسره بأن اهل غزة اتفقنا أم اختلفنا على ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر وابتعدنا عن النقاش الغوغائي بين من يرى في الهجمات دفاع شرعي عن النفس ومقاومة وبين من يراه مقامرة غير محسوبة العواقب من حماس. كل هذا وأكثر يحيد من الصورة يوما بعد يوم ما يمر به المدنيون من مأساة تجردهم من إنسانيتهم وتحيلهم بلا اختيار امام مرأى ومسمع من العالم إلى "حيوانات بشرية" كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي في التاسع من أكتوبر المنصرم بحيوانات بشرية. في خطاب دموي يجعل لإسرائيل أمام العالم حق محاربة "حيوانات" تجردهم من إنسانيتهم بكل نواحيها.

 

لكن من المهم ان لا ينسى أحدا بأن في غزة بشر هم مثلنا ومثل كل البشر حول العالم من حقهم العيش ومن حقهم الحصول على كل مقومات الحياة بعيدا عن استخدامهم من أي طرف كورقة في الحرب. أطفال حرمت لعام من التعلم واللعب والطعام والحياة، نساء جردت من آدميتها وجز بها في خيام تنام في العراء تتلحف السماء بلا أدنى مقومات الحياة, بشر جردوا بشكل ممنهج من انسانيتهم وتحولوا بفعل الشراسة الإسرائيلية إلى خيالات تنتظر الموت في أي لحظة على مرآي ومسمع من عالم يلبس نظارة ترى فقط إسرائيل ومصالحها وغير ذلك لا مكان له في الحسابات، عام من العذابات ليس الأول ولن يكون الأخير في عذابات الشعب الفلسطيني ولا سيما أهل غزة الذين بذلوا الغالي والرخيص وعاشوا ولازالوا عقودا من الحصار الظالم والحروب المتكررة ان لم تبدأ في السابع من أكتوبر ولن تنتهي بهذه الحرب.