يتكلم الخيال العلمي عن عوالم موازية لعالمنا، فنحن موجودون في هذه العوالم الموازية لكن “نحنُ” نختلف في طبيعة الحياة من أسرة و أعمال و صفات من عالمٍ لعالمٍ. إنفصامٌ جسديٌّ و نفسيٌّ يعيش في حقيقةِ كل شخص بكل عالم. الخيال العلمي فيه متعة القراءة و تنبؤات المستقبل. ربما فعلاً سنصل لمعرفةِ تلك العوالم و نلتقي بنا بها! لِمَ لا ونحن اليوم نرى من الاكتشافات ما لم يكن معقولاً من قبل.
لكن لا نذهب بعيداً فإن العوالم المنفصمة تعيش فينا اليوم، حقيقةً هكذا. كلنا منفصمين في تناولنا لما يحدث معنا وحولنا.
قليلٌ جداً من قَرَّرَ أن لا يكون مذبذباً في اختيار هذا التناول. فهو إما اختار أن يتفاعل بكل قوة أو يتجاهل. نضع في الفئة المتفاعلة النُسَّاكَ و المجاهدين. و في الثانية ذوي النعمة المتولدة من الفجور. هذا ترتيبٌ سهلٌ و واضحٌ. بينهما نقعُ نحن شرائحَ وجودٍ تتمايزُ و الحالة، فإما نكون أقربَ للناسك والمجاهد أو للفاجر ذو النعمة. دعونا نرى تطبيق هذا علينا.
في البدءِ، في ٧ أكتوبر المجيد، احتسينا كؤوس الشجاعة وتحدينا وقاطعنا ونَهَرْنا وتظاهرنا وكتبنا وبكينا و لعنَّا و دعونا. بعد عشرة شهور تبخرت هذه الصفات و الأفعال للقعرِ. صار فيلم رعب غزة لا يحركنا. ولكن حتى في البدايات الدامعات كانت الأرواح التي نملك تراوحُ بين حديِّ الصفات المطلوبة للتحدي و تلك المتهاونة المزروعة فينا بحكم التعود. كالمفطر في رمضان ويجاهر بالصيام! و لأننا سرعان ما اكتشفنا أن أنواع التحدي التي مارسناها لم تتمخض عند حكوماتنا عن مواقف تشفي الغليل الشعبي، فلا الحصار انفك و لا أُنزلت مع المعلبات رصاصةَ صمودٍ واحدة، فقد خارت بالتالي قوى التحدي فينا و انتصرت قوى التعود. صرتَ إن لم تحتمل رُعبَ غزة المنهمر من محطات الأخبار تُحَوِّلَ نفسك المتألمة لتتابع ما يُسَّري عنك. وهكذا نحنُ. أكياسٌ آدميةٌ تميلُ من وزن الوزر الذي يملأها فتميلَ لملأِ أحشاءها بما يُنسيها هذه الأوزار لتزداد ثقلاً وتقل وزناً. نحن لا نملكُ أن نكونَ إلاّٰ كذا الوصف. أكياسٌ ثقيلةٌ بدون وزنٍ.
تحتفلُ العواصم العربية (أهي عواصم أم قواصم؟) بليالي الفرح: أغاني ورقصات و أفلام في مهرجانات. صفعة فنان لمعجب تسبق في الأخبار صفعة صهيوني أو جنجويدي لفلسطيني أو سوداني. والأعجب أننا نتذكرها كما أفعل الآن. لا تفارقني غزة و الفاشر لكنني مَغْزُوٌ بالإعلام الفاجر ومن يريده فاجراً. هل نستطيع تفسير هذه السعادة العربية في اختراع أشكال المسَّراتِ والدم يسيل أنهاراً في فلسطين والسودان؟ هل نستطيع تفسير وجود جيوش عربية؟ لا نستطيع إلا أنها العادة أن يكون هناك جيش لدولة. ما وظيفته؟ ولا حتى التلميح ضد إسرائيل. لم نعد نصدق حتى تاريخنا فهل من المعقول أننا أتينا من أصلاب من قاد الفتوحات؟ ما هو الإكسير الذي تجرعته أسلافنا ليلِدوا أكياساً من الخيبات هي نحن؟ أستثني بالطبع الناسك والمجاهد فهم الذين يمتلكون النطفة السليمة.
هذا هو الحال المفصوم لعوالمنا الحقيقية المتوازية أمام أعيننا التي فيها يخرج الأسير مذهولاً مكسوراً يتكأُ على زميلٍ هو فَقَدَ ولده شهيداً، ويتمخطر في الشارع المخنث واللاهي باسم الحرية، ونسير نحن نرى النموذجين فلا هذا نصرنا ولا ذاك نهينا. هو عالمنا الذي نرى فيه خيالاً بعيداً هو أفواج فلسطينيين و سودانيين يهربون من جحيمٍ لجحيمٍ تلاحقهم لعنات وطعنات الجنجويد و قنابل أمريكا العملاقة ونضرب الأكف لأن رونالدو أضاع ضربة جزاء. و لا من معين، لا للأسير ولا للهارب. ولا من خجلٍ. هذا هو نحن الذين نُصَلِّي صلاة الغائب لشهداء غزة ولا عزاء لشهداء لبنان. فهل من تفسيرٍ لهذه الظاهرة الناكسة؟
اللحظة القاصمة كانت عندما اقتنع العرب واحداً تلو الثاني أن الاستسلام مع بهرجات العظمة أفضل من القتال. هكذا ارتدى الفريق والمشير والزعيم أفخم بدلةٍ عسكرية ليفاوض على السلام، و السلام قادَ سريعاً لطبقاتٍ من الاستفادة المادية للفئات المتزلفة. في كل بلاد العرب تحولت الحياة لحياتين واحدة يقودها متزلفةٌ وواحدةٌ للباقي الغثاء الذي هو نحن. وكان الحبل على الجرار في كل زاوية من الحياة. نحو التردِّي. نحن الآن في دوامة التردِّي ندور فيها لنغرق بملئِ الإرادة. هل يا ترى نحن في العوالم الموازية كنحنُ في التردي أم أننا من نسلٍ منتصر؟ يا ليتني أعلم.
دبلوماسي أُممي سابق
الأردن