وقفات إنسانية: التكايا شريان حياة النازحين..

الأحد 14 يوليو 2024 12:59 م / بتوقيت القدس +2GMT
وقفات إنسانية: التكايا شريان حياة النازحين..



كتب المستشار د. أحمد يوسف:

في ظلِّ غياب ملحوظ للمؤسسات الرسمية الحكومية، وإغلاق معبر رفح لأكثر من شهرين، تعطلَّ الجهد العالمي لتقديم المساعدات والمعوناتاللازمة للنازحين، والذين اقتصرت حياتهم على ما تقدمه التكايا (العثمانية) في مراكز الإيواء والمخيمات من وجبات غذائية يومية.

إنَّ هؤلاء النازحين، والذين تجاوزت أعدادهم المليون ونصف المليون، وتنتشر خيامهم على طول الشريط الساحليولمسافة قد تصل إلى ثلاثين كيلومتر، وبعرض حوالي خمس كيلومترات، تتكدس فيها الخيام بشكل مأساوي غير متجانسوحزين، حيث لا يبعد بعضها عن شاطئ البحر أكثر من أربعة أو خمسة أمتار.

هؤلاء النازحين يعتمدون حالياًعلى ما تقوم به هذه التكايا من طهي للطعام لآلاف النازحين الذين يفتقر أكثرهم للمال وأدوات الطبخ والغاز، وهو ما يجعلهم يعتمدون كلياً في توفير قوت يومهم على ما تقدمه هذه التكايا من طعامٍ بسيطٍ يُقيم الأوَد، وهو بمثابة شريان الحياة لهم ولأولادهم.

من خلال تجربتي التي بدأت مع هذه الحرب العدوانية على قطاع غزة قبل عشرة أشهر، أقمنا تكيِّة في حي تل السلطان غرب مدينة رفح، وقد بدأنا في تقديم الطعام للنازحين في مخيم (منتزه النخيل) بالحي والمنطقة المجاورة له، وكان الفضل في دعم تلك التكيِّة إلى هيئة الإغاثة التركية (IHH)، وأيضا إلى مساعدات أخرى قدمها (تيار فتح الإصلاحي) والنائب محمد دحلان بتمويلٍ إنسانيمن دولة الإمارات، وكذلك من مؤسسة التنمية الاجتماعية والصليب الأحمر.

وبعد اجتياح مدينة رفح قبل شهرين، اضطر قرابة المليون وربع المليون نازحٍ إلى مغادرتها إلى منطقة المواصي المحاذية لشاطئ البحر، مما تسبب في حالة اكتظاظ غير مسبوقة، مع غياب لكافة مرافق الحياة ومقومات العيش الآدمي فيها.

بناءً على هذا الواقع الجديد، صرنا وعائلاتنا نازحين نبحث عن مكان يصلح للإيواء، فأقمنا إلى جانب الآلاف الآخرين الذين جاورونا في مخيمنا الجديد. وهكذا، بدأنا التأسيس ونقل إمكانياتنا من التكيِّة السابقة بحي تل السلطان إلى منطقة النزوح الجديدة في مواصي خانيونس، والتي تعود ملكيتها إلى أحد الأقرباء من عائلتي.

كان علينا في سياق واجبنا الديني والوطني والأخلاقي،العمل على توفير متطلبات التكيِّة الجديدة، وقد بدأنا بجهودٍ ومساعدةٍ من أهل الخير ممن عرفناهم في سنوات اغترابنا الطويل في أميركا وبعض الدول العربية، والذين لم يبخلوا علينا بما تجود به جيوب الكرماء من أبناء شعبنا خارج جغرافيا الوطن الحبيب.

في منطقة النزوح الجديدةبمواصي خانيونس، أقمنا مع من نزح معنا من المخيم القديم مخيماً آخر، تجاور مع عددٍكبير من عشوائيات مراكز الإيواء بالمنطقة، وأسميناهمخيم "منتزه النخيل للنازحين(2)"، باعتباره امتداداً لمخيمنا القديم.

وعليه؛ عادت التكيِّة تواصل عملها بطاقةٍ متواضعةٍ فيالبداية ثم أخذت تتوسع في خدماتها الإغاثية يوماً بعد يوم.

لم يبخل علينا إخواننا الأتراك في الهيئة الإنسانية (IHH) من الوعد بالمساعدة، مما مكَّننا من الاستمرار في تقديم خدمة التكيِّة بدون انقطاع.

هذه التكية التي أقمناها أولا في حي تل السلطان ثم انتقلت معنا إلى مواصي خانيونس؛ هي ملاذ لآلاف من النازحين وهي إلى جانب العشرات مثلها محط أنظار هؤلاء النازحين لسد حاجاتهم من الطعام، وهو الحد الأدنى في ظل تقييد إسرائيل لعمل المؤسسات الدولية للصليب الأحمر وبرنامج الغذاء العالمي.

لا شك أن هذه التكايا اليوم تقوم بعمل إنساني ضخم نظراًلحجم الكارثة التي لحقت بالفلسطينيين في قطاع غزة في ظل سياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في حربها العدوانية والهمجية على قطاع غزة.

ومن باب الإنصاف لهذه التكايا التي تعتمد بالدرجة الأولى على جيوب أهل الخير من الجمعيات والمؤسسات الخيرية في العديد من الدول العربية والبلاد الأوروبية، حيث الجاليات المسلمة هناك، وبين هؤلاء من يقدم صدقته في السرِّ حتى لا تعلم شماله ما قدَّمت يمينه، وهم كثير.

إنَّ قيام إسرائيل تدمير معبر رفح وإغلاقه منذ أكثر من شهرين، هو محاولة إسرائيلية لتجويع النازحين وقتل كل بارقة أملٍ في أن يعودوا إلى ديارهم والتمتع بالأمن والاستقرار الذي كانت عليه حياتهم قبل السابع من أكتوبر.

إنَّ سياسة التجويع الإسرائيلي هذه، هدفها توطين القناعة لدى هؤلاء النازحين بصعوبة البقاء والعيش الكريم لهم في قطاع غزة، وأنَّ عليهم التسليم بأن الهجرة سواء الطوعية أو القسرية ينبغي أن تكون ضمن حساباتهم المستقبلية.

ختاماً.. إنَّ ما تقوم به التكايا(العثمانية) وبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية والدولية الداعمة لها، إنما هي الشريان الذي يمنح الكثير من هؤلاء النازحين الحياة.

فشكراً لكلِّ من قدَّم يدَّ المساعدة والإغاثة على المستويين الشعبي والرسمي، فشعبنا لا ولن ينسى من وقف إلى جانبه،وكان له سنداً وعوناً في كارثة النزوح، ولن ينسى أيضا من خذله وتنكب به الطريق.