الحرب بما هي شكل من أشكال تغيير الواقع سواء لجهة فرض هيمنة وتسلط ونهب استعماري، أو لجهة تحرر شعب من الاستعمار وظفره بالحرية.
انطلاقاً من تلك الأهداف فإن الحرب تناقش من مختلف الجوانب ومن المنطقي أن يتم التوقف عند تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة القريبة والبعيدة.
التدقيق في قضايا الحرب يؤخذ به أثناء الحرب بغية التقليل من آثارها السلبية الحادة وتقليل الأخطاء والمغامرات. وغالباً ما يتم التدقيق بعد نهاية الحرب من أجل استخلاص الدروس وعدم تكرار الأخطاء والحماقات.
في الجانب العربي والفلسطيني وأمثاله في دول أخرى، يظهرون وكأنهم غير معنيين بتدقيق تأثيرات الحرب على مجتمعاتهم المقصية في الحرب بمثل ما هي مقصية في اللا حرب. العنصر الأهم غير المكترث به في حالنا هو الصدمات والحالة النفسية أثناء وبعد الحرب. وكي تتضح الصورة من المفيد المقارنة مع الدولة والمجتمع الذي أعلن علينا حرب إبادة.
مع أن كثيرين يرفضون المقارنة وهذا جزء من رفض التقييم والتدقيق والنقد وجزء من ثقافة التبرير ومقولة «ليس بالإمكان أفضل مما كان».
تقول البروفيسور ميراف روث الإسرائيلية المتخصصة في الصحة العقلية ومعالجة الصدمات النفسية في مقابلة مع صحيفة هآرتس 27/6 إن مجتمعها الإسرائيلي لديه رغبة في الانتقام من جميع الفلسطينيين، إذ يتصور شعباً آخر شريراً بالكامل ويجعل منه كتلة واحدة، لا يميز بين طفل في غزة وقوة النخبة التابعة لحماس. مقابل شعب إسرائيلي يهودي طيب تماماً..وتضيف: نحن نعيش في لحظة بدائية لا عقلانية وفوضوية، وحكومتنا تتمتع ببنية ذهنية مضطربة للغاية، مريضة وغير قادرة على رؤية التعقيدات.
وترى ميراف أن الخسائر في الانتقام لا تقتصر على الآخر – الفلسطينيي – وإنما تطال المنتقِم الإسرائيلي فمن يسعى إلى الانتقام يجب أن يحفر قبرين: القبر الأول للمنتَقَم منه والآخر للمنتقِم، فأنت كمنتقِم تدفن نفسك وأخلاقك وقيمك وقدرتك على حل المشاكل. ولا تستطيع في أحسن الأحوال إعادة البناء والنهوض من السقوط، ولا تستطيع الانتقال من النفس البدائية إلى النفس الناضجة.
تتوقف الأخصائية عند الصراع بين الرغبات المتضاربة أو التوترات التي تشكل النفس. كالتوتر الناجم عن الحقيقة ورفض الحقيقة، وثنائيات الذاكرة والنسيان، الأخلاق واللا أخلاق، والمعرفة والرغبة في عدم المعرفة، وعدم مواجهة العالم كما هو، ورفض الاعتراف بالواقع. والتوتر بين الكشف والإخفاء، والتوتر بين الرغبة في الحياة والرغبة في الموت، وصولاً إلى التشويه الجماعي للواقع.
هذا يفسر السيكولوجية الإسرائيلية التي تملك الحقيقة عن التاريخ وحدها ولديها ذاكرة قاطعة منفصلة عن العلوم والمكتشفات، وتملك جيشاً «أخلاقياً جداً»، سيكولوجية ترفض الاعتراف بوجود شعب آخر له حقوق وطنية وإنسانية وله ثقافة تضم مبدعين. سيكولوجية تنكر حق الفلسطيني بالحياة وبوطن، وتنكر أن العالم يعترف بالحق الفلسطيني. اتسم الخطاب الرسمي وغير الرسمي الإسرائيلي بالدعوة إلى نزع إنسانية الفلسطيني المقترن بالدعوة إلى الإبادة الجماعية. ففي شهر واحد بعد 7 أكتوبر دعا 18 ألف منشور إلى محو غزة، ونشر خلال 8 شهور 7،8 مليون خطاب كراهية وتحريض على مهاجمة الفلسطينيين والانتقام منهم جميعاً.
أما نحن فإن وضعنا أكثر صعوبة، والصعوبة ناجمة أصلاً عن حرب الإبادة الماضية في تدمير مجتمع وجزء من وطن الشعب الفلسطيني، ومتأتية أيضاً من سياسات درء المخاطر والأهوال المحيقة بـ 2.3 مليون فلسطيني خاصة وبعموم الشعب الفلسطيني من قبل أصحاب قرار الحرب.
يقول خالد مشعل: «إن غزة تدمرت ولا جدال في ذلك، وهذا ثمن المقاومة التي لا بديل عنها وإن على الجميع أن ينخرط في القتال».
يقدم مشعل موقفاً متناقضاً ينطوي على إنكار الواقع، هل لا يرى أن آلة الحرب الجهنمية تواصل تدمير المكان بمن فيه، وتهجر الناس مرات ومرات بين الأنقاض في شروط قاهرة ومذلة وغير إنسانية.
ورغم ذلك يرى خالد مشعل أن السيناريو الأقرب للتحقيق هو انهيار هذا الكيان وفقدانه لمبررات وجوده، ويدعو إلى انضمام الجميع للمقاومة التي لا بديل عنها. مع أن أبو حمزة الناطق باسم الجهاد الإسلامي يقول إن» المعركة غير متكافئة على كل المستويات، عدونا مدعوم من أقوى دول العالم، ما مكنه من إطلاق يده ليقتل ويدمر مستبيحاً الشجر والحجر والبشر، ونحن لا نملك إلا القليل من العتاد والعديد»، نمتلك عناصر معنوية وأيديولوجية ملهمة سمحت لنا بالصمود. ثم أعلن أبو عبيدة الناطق باسم حماس بعد يومين من إعلان أبو حمزة، عن تجنيد آلاف المجاهدين ووجود آلاف تحت الطلب وأن القدرة على القتال والصمود باتت أقوى وأعظم. وأن الكتائب الـ 24 تقاتل من أقصى الشمال حتى جنوبه».
كلام مشعل وأبو عبيدة ينطوي على التباس الحقيقة، وطغيان عدم المعرفة، ورفض الاعتراف بالواقع، والتوتر الناجم عن ثنائية الكشف والإخفاء.
لماذا لا نعترف بأن الشعب الفلسطيني ومقاومته يستطيع أن يقاوم عشرات السنين، وهو يقاوم منذ قرن ونيف، هذه حقيقة، ولكن المقاومة لا تستطيع الاستمرار في حرب طاحنة لمزيد من الوقت دون أن تكون النتائج مدمرة للمجتمع كما تقول الوقائع على الأرض. ويستطيع الشبان المسلحون مقاومة الاحتلال في الضفة طالما بقي الاحتلال، لكنهم لا يستطيعون الاستمرار في المقاومة بصيغة كتائب علنية وبصيغة ظاهرة مسلحة مكشوفة للاحتلال دون أن يتعرضوا لاستهدافات قاتلة.
الحلقة المفقودة في كل خطابات - مشعل والسنوار وأبو مرزوق وهنية وأبو عبيدة وأبو حمزة وعديد المحللين والخبراء - هي إنكار محنة 2.3 مليون مواطن هي الأخطر والأبشع في تاريخ الشعب الفلسطيني، هي إنكار الثمن الباهظ الذي يدفعونه، من أرواح ومنازل ومدارس وترويع الأطفال ومستشفيات ومزارع وافتقادهم للحد الأدنى من الطعام وأقل القليل من الدواء والعلاج، إنكار تفكك العائلات والمجتمع وتشوش المستقبل.
إزاء ذلك لا توجد مواساة ولا حتى تضامن ولا شرح كيف سيهزم العدو ولا كيف سيستمرون في الحرب، كيف ترتفع المعنويات وكيف يحصلون على الغذاء وفيما إذا كان التعليم سيستأنف ؟ وماذا يعني النصر؟ وماذا تعني الهزيمة؟ هل وظيفة المجتمع فقط دفع الثمن دون أن يعرف ما هو مصيره ؟
تعرض آلاف الإسرائيليين في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر بين 16 - 20 ساعة عصيبة من موت ورعب وأسر وانكسار كما تقول البروفسور ميراف روث. بينما دخل 2.3 مليون فلسطيني على مدار 277 يوماً أي ما يساوي 6648 ساعة في جحيم حرب إبادة.
كيف تعامل كل طرف مع ضحاياه؟ رعاية فائقة من دولة العدوان لمعظم مواطنيها الذين عاشوا الحدث حيث أرسلوا إلى منتجعات وفنادق وخضعوا لخدمة الرعاية النفسية المجانية المفتوحة على طول الأمد.
حراكات شعبية منتظمة بمئات الآلاف وأقلها عشرات الآلاف للمطالبة بعقد صفقة للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين يوم 7 أكتوبر. مقابل تجاهل فلسطيني فائق لمحنة أبناء جلدتهم.