الكتاب: الهوية والحركية الإسلامية -المؤلف: عبد الوهاب المسيري -تحرير: سوزان حرفي -عدد الصفحات:192 -الناشر: دار الفكر، دمشق الطبعة: الأولى/ 2009 ثلاث سنوات كانت رحلة هذه السلسلة حتى اكتمالها، وقد صدرت قبل أسابيع في أربعة أجزاء، والسلسلة هي عبارة عن تجميع للحوارات التي أجراها صحفيون وإعلاميون ومتخصصون عبر محاضرات أو ندوات أو لقاءات إعلامية مع المفكر العربي الراحل عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- وأشرف عليها بنفسه ولكن مشيئة الله حالت دون أن يراها مطبوعة. وقد جاء أسلوب الحوارات الذي بني على صيغة السؤال والجواب ليمثل صورة مثلى لمسعى الدكتور المسيري الدائم إلى تبسيط القضايا ما يساعد على سهولة انتشارها ووصولها إلى القاعدة العريضة. فالمسيري كان شغوفا بتقديم مسيرته الفكرية ورؤاه لأكبر عدد من الناس من غير المختصين أو المهتمين، وكانت إحدى رسالاته توسيع قاعدة المعرفة، لأنها اللبنة الأساسية لتوسيع قاعدة المشاركة. كما أن هذا العمل يبلور شخصية الدكتور عبد الوهاب المسيري الموسوعية المتعددة الاهتمامات من فكر ومعرفة إلى تاريخ وفلسفة مرورا بالثقافة والفن والسياسة، فمع غزارة إنتاج المسيري ظل اسمه مرتبطا بموضوعات اليهود واليهودية والصهيونية وما يطرحه من إشكاليات. ويجهل غالبية الناس ما للمسيري من إسهامات فكرية وفلسفية في حقول أخرى متنوعة، ولذلك فإننا في هذا العرض نستكشف بعض الأفكار والمبادئ التي انطلق منها المسيري لتشكيل فكره الموسوعي الذي مازال حاضرا بقوة في واقعنا العربي والإسلامي من خلال التعرض لموضوع الجزء الثالث من هذه السلسلة. الخوف من الإسلام والصراع مع الغرب في هذا الفصل محاولة للإجابة عن بعض الأسئلة التي بات يتعرض لها الإسلام خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول التي وضع فيها "الإسلام تحت الحصار" كما يرى المفكر الباكستاني أكبر أحمد، حيث يرى المسيري أن مسألة العداء مع الغرب مسألة قديمة لكنها ليست أزلية. وفي تناول مثل هذه القضية الخلافية يجب أن نشير إلى أن ثمة عناصر تؤدي إلى الصدام بين الإسلام والغرب، ولكنها في الوقت نفسه وهنا تكمن المفارقة يمكن أن تشكل هي نفسها أساسا للتفاهم والتعاون والحوار، فمن بين العناصر التي تشكل أساسا للتصالح والحوار مسألة الجوار، حيث يلاحظ أننا نقتسم مع الغرب حدود البحر الأبيض المتوسط لدرجة أن مفكرا مثل طه حسين كان يتحدث لا عن حضارة عربية وإنما عن "حضارة حوض البحر الأبيض المتوسط". كما أن وجود الأقليات يمكن أن يكون جسرا بين الغرب والعالم الإسلامي، ولكن ما حدث هو العكس، فهذه الأقليات يتزايد عددها يوما بعد يوم كما أنها أقليات متماسكة يصر كثير من أعضائها على ممارسة شعائرهم الدينية، وكذلك التعبير عن هويتهم الإثنية بوضوح ما يزيد من حدة التوتر، خاصة مع تزايد معدلات العلمنة في الغرب التي تقوض العقائد والهويات، ما يجعل الإنسان الغربي غير قادر على إدراك دوافع أولئك الذين يحتفظون بعقائدهم وهوياتهم. ومن ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول فزادت من التوتر ومن عمق الإحساس بالخطر الأخضر داخل العالم الغربي. ولكن العنصر الحاسم الذي أجج الصراع برأي المسيري هو الحداثة الغربية الداروينية التي لا ينظر من خلالها الغرب لنا باعتبارنا كيانا مستقلا لنا طموحاتنا المشروعة وأهدافنا المختلفة، وإنما على أننا مادة استعمالية لا بد من تنميطها حتى ندخل في القفص الحديدي قفص الإنتاج والاستهلاك، دون هدف أو غاية سوى المنفعة واللذة، وذلك بخلاف العقل المسلم الذي لا يعد معدلات الاستهلاك هي النقطة المرجعية التي يستخدمها في الحكم على الأمور، فمرجعيته هي مقدار تحقيقه لقيمه الإسلامية. ولذلك فإن المسلم إنسان مقاوم للاستهلاكية العالمية ومن ثم لا بد من سحقه بنظر الغرب، الذي بات ينظر لنا باعتبارنا مخلوقات متعصبة لا عقلانية، وهذا ما يفسر كيف أن الهجمات الفدائية لتحرير الوطن أصبحت بنظر الغرب هجمات انتحارية وعبادة للموت. وبرأي المسيري فإن حرب العالم الإسلامي ضد الاستعمار الغربي هي حرب ذات مرجعية دينية، فالدين هنا ليس مجرد شعائر وعقائد وإنما هو مكون أساسي للرؤية الكونية والسياسية، وأي محاولة لفصل الدين عن السياسة بشكل قاطع وكامل تجعل من العسير على الدارس أن يفسر ما يحدث في فلسطين وفي العالم، فالسياسي من صميم الديني والديني من صميم السياسي، ذلك إذا عرّفنا الدين تعريفا صحيحا باعتباره رؤية للكون وليس باعتباره مجموعة من الشعائر. ملامح الخطاب الإسلامي الجديد يرى الكاتب في هذا الفصل أننا إن لم نطور خطابا عربيا إسلاميا يعبر عن رؤية العرب لواقعهم وللعالم بأسره، وإن لم نعبر عن هذه الرؤية بمصطلحات منفتحة مستمدة من تراثنا ومستفيدة من لغة العلم الحديث، إن لم نفعل ذلك فإن الأخر سيقوم بتطوير هذا الخطاب بالنيابة عنا، عندها سنتبناه بوعي أو دون وعي. إلا أننا نجد أن الخطاب العربي المعاصر ليس في معظم الأحيان عربيا إسلاميا، فمنذ عصر النهضة، أي منذ دخول الغازي الأجنبي، نجد أن الخطاب العربي الليبرالي قد تبنى الخطاب الغربي كما هو تحت شعار "اللحاق بالغرب". ومما لا شك فيه أن الخطاب العربي الماركسي جاء ليرفض الخطاب الليبرالي ولكنه لم يختلف عنه في النموذج الكامن الذي هو نموذج مادي متمركز حول الغرب، ثم جاء الخطاب الإسلامي ليتوهم أن الماضي يتضمن الحاضر والمستقبل، ومن ثم لا داعي للتوجه للأسئلة التي تطرحها الحداثة الغربية، فتبنى آراء القدماء دون بذل أي محاولة جادة للتطوير والتعديل، باستثناء بعض المفكرين الذين بدؤوا في الظهور في الثلاثينيات وبعدها مثل حسن البنا. لكن ما يبشر بالخير برأي الكاتب أننا نعثر منذ عدة سنوات على خطاب إسلامي جديد يتميز بأنه لا يقتنع باستيراد الإجابات الجاهزة عن الأسئلة التي يطرحها عليه الواقع، كما يتسم بأنه خطاب شامل، فهو على المستوى الجماهيري يطرح شعار "الإسلام هو الحل" وعلى المستوى السياسي والاقتصادي يطرح شعار"الإسلام هو العدل" وعلى المستوى الفلسفي يطرح شعار "الإسلام هو رؤية للكون". وهو يصدر عن رؤية معرفية شاملة، كما هو مدرك للطبيعة المدمرة للحداثة الغربية. فهذه الحداثة برأي هذا الخطاب لا تبني العلم والتقنية والعقل وحسب كما يزعمون، وإنما تبني العلم والتقنية والعقل المنفصلين عن القيمة ولهذا فهي معادية للإنسان. لكن مع مراعاة أن بوسع المسلمين نقل بعض مزايا الحداثة الغربية. إضافة لذلك فإن هذا الخطاب الجديد يؤمن بالديمقراطية والتداول والتعددية على عكس جميع أنواع الخطابات القديمة، دينية كانت أم علمانية التي كانت تؤمن بالاستيلاء على الدولة المركزية التي هي الوسيلة للإصلاح وتحقيق التغيير المنشود. ولذلك نجد أن ثمة إيمانا عميقا لدى الجيل الجديد من الإسلاميين بأهمية العمل الأهلي أو المدني وهو إيمان نابع من أن الإصلاح لا بد أن يتم من الأسفل إلى الأعلى، أي من المجتمع إلى الدولة. بعد هذا التوضيح لأهم سمات الخطاب الإسلامي الجديد يرى المسيري أنه لا بد من الكف عن التفسير الاختزالي لظاهرة الإسلام السياسي وكأنه رجس من عمل الشيطان لا بد من تجنبه، وذلك لكون الإسلاميين دخلوا معترك السياسة كي يغيروا المجتمع، وقد يتفق معهم المرء أو يختلف، لكن ذلك لا يبرر تصنيفهم على أنهم طائر غريب وشاذ، فهم يخضعون للقواعد نفسها التي تخضع لها كل الحركات السياسية الأخرى، ويقومون بتجنيد الجماهير في إطار خطاب إسلامي يعد بالعدل لا بالاستهلاك، يعد بمجتمع فيه قيم ثابتة لا بفتاة جميلة داخل سيارة حديثة. رمزية الحجاب يرد الكاتب في هذه السلسلة على بعض الأسئلة المتعلقة بظاهرة انتشار الحجاب التي فسرها البعض بوصفها رمزا للتخلف، حيث يرى أن من جعل من الحجاب رمزا للتخلف قد قام بنزعه من سياقه الاجتماعي والتاريخي والإنساني، واستقى مؤشرات التقدم والتخلف من النموذج الغربي، ولذلك فإن المسألة ليست بهذه البساطة والسذاجة. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر فتاة متبرجة متحررة ومستنيرة لا ترتدي الحجاب ترتاد ناديا ما وتلعب التنس بالشورت وتلبس المايوه وترتاد قاعات الديسكو، مثل هذه الفتاة التي تتمتع بمستويات استهلاكية عالية ونادرا ما تشترك في أي حركة سياسية، وبالتالي فهل هي أكثر تقدما من فتاة محجبة تعيش في مصر الحقيقة مثلا بين أهلها وتعرف همومهم ولا تتمتع بمعدلات الاستهلاك الشيطانية ونجدها تشارك في العمل السياسي والمدني. ولذلك من الأحرى بالمتحدثين عن الحجاب باعتباره علامة تخلف أن يلاحظوا الوجود الكثيف للمحجبات في المظاهرات، وأن يشاهدوا الصورة التاريخية لبعض المحجبات وهن يصعدن على السلم الخشبي للوصول إلى لجنة الانتخابات وصندوق الاقتراع. وبرأي المسيري الحجاب إنما هو تعبير عن التمسك بالهوية، وهو كذلك تعبير عن مقاومة الاستعمار الأجنبي. وثمة رمزية اقتصادية لهذا الوشاح لكونه تعبيرا عن رفض النموذج الاستهلاكي الذي هو نموذج الموضات، ولذلك فإن اختزال الحجاب في البعد الديني ثم عزل البعد الديني عن الإبعاد الاجتماعية والإنسانية الأخرى هو دليل على القصور التحليلي لمن حولوه إلى مؤشر على التخلف. الخصوصية والهوية إن الخصوصية التي يراها المسيري هي تلك التي تدعو إلى ضرورة الانفتاح على كل الحضارات الإنسانية والعالمية لا على الحضارة الغربية وحدها، التي تنهل من معين كل الحضارات، وذلك على عكس ما يردده دعاة القانون العام والعولمة الذين ينكرون الخصوصية لكونهم يدورون في محيط الحضارة الغربية وحدها. وبرأي الكاتب فإن الانفتاح الحقيقي على العالم لا يعني فقدان الخصوصية بل هو داعم لها، لأننا حينما ندرك تنوع النماذج الحضارية سنكتشف مدى تهافت خضوعنا للنموذج الغربي وسنكتشف مدى إمكانية أن تكون لنا لغتنا الحضارية الخاصة. أما عن الآراء بأن جميع المجازر التي وقعت أخيرا تندرج ضمن ملف الهويات فهي برأي الكاتب مبالغة غير مقبولة، وأوضح دليل على ذلك حربا العراق وأفغانستان التي شنت لأسباب لا صلة لها بالفتنة بين الهويات. بل على العكس فإن ظهور الهوية في القرن العشرين مسألة لها دلالة لكونها حماية للإنسان ضد عمليات التنميط الزاحفة وضد العولمة التي كانت توجد بشكل جنين في بداية القرن وأصبحت الآن مسيطرة ومهيمنة، فمن هذا المنظور الهوية هامة لكونها في الواقع شكلا أساسيا من أشكال المقاومة بشرط ألا تتحول إلى غيتو يدخل فيه الإنسان ويتخندق. فالإسلام قبل التنوع داخل إطار شامل من الوحدة، ولكن وحدة ليست عضوية، وإنما فضفاضة وهو تنوع سمح للجماعات الدينية والإثنية المختلفة بأن تبدع من خلاله مثل إبداع الأكراد والعرب المسيحيين واليهود. أخيرا ما نود قوله أن المسيري كان بفكره وسيبقى أحد المصابيح التي تنير العقل العربي وهو يسير في رحلته بحثا عن مدينته العربية الفاضلة، كما أنه أوجد لنفسه إنجازا معرفيا وتركة ثقافية وسؤالا على كل مثقف أن يجيب عليه ممن كانوا ينتقدونه، وهو هل على المثقف أن يرتهن للغرب حتى يكون تقدميا؟!