أسئلة الحرب (18)..

الثلاثاء 09 أبريل 2024 06:16 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسئلة الحرب (18)..



الكاتب: حسن خضر:

نبدأ مع هذه المقالة معالجة بعض الأفكار الشائعة، التي ترسم إطاراً عاماً للحرب، ومن المرجّح ألا تتأثر بطريقة راديكالية، سواء توقفت الحرب غداً، أو بعد عام. وفي سياق كهذا، نفكّر، اليوم، في عبارة "اليوم التالي للحرب"، التي صارت قيد التداول منذ يومها الأوّل قبل ستة أشهر مما تعدون. فرضيتي الرئيسة، في هذا الشأن، أن لا وجود لشيء واضح المعالم اسمه "اليوم التالي للحرب" حتى الآن.

ولنقل، قبل التفصيل، إن "اليوم التالي" وإن كان وثيق الصلة بأهداف الحرب (مطلق حرب) فهو، أيضاً، ما ينجم من واقع أنتجه القتال في الميدان. لذا، ثمة مسافة، دائمة، بين أهداف الحرب، ونتائج القتال. والنتائج، حتى وإن بدت متطابقة مع الهدف في المدى المنظور، قد لا تكون كذلك في المدى الإستراتيجي البعيد.
ولنفكر، دائماً، في الفرق بين الحرب والقتال. فقد تستمر الأولى وتستعر بوسائل أُخرى بعد صمت المدافع. ولعل في هذا كله ما يفسّر لماذا لا يُؤتمن الجنرالات على تحديد أهداف الحرب، أو رسم ملامح يومها التالي، كما في عبارة الفرنسي جورج كليمنصو الشائعة: "الحرب أخطر من أن تترك للجنرالات".
ومع هذا في الذهن، تكون فكرة "اليوم التالي" قد اكتسبت ما تستحق من أهمية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بموضوعنا فإن فرضية "عدم وجود سيناريو اليوم التالي" حتى الآن، تستمد ما يبررها من عدم التطابق بين الأهداف المعلنة والنتائج الفعلية، بمعنى أن سيناريو "اليوم التالي" ينفتح على احتمالات مختلفة طالما أن القتال لم يتوقف بعد.
هذا لا يعني الكلام عن هزيمة إسرائيلية في غزة، ولا عن انتصار "حماس". وبقدر ما أرى، يبدو أن فكرة إسرائيل نفسها قد تضررت وجودياً، في هذه الحرب، بما يتجاوز المعايير العسكرية للنصر والهزيمة. وأما "حماس" الإخوانية، فلم تُلحق بالفلسطينيين نكبة ثانية وحسب، بل وأغلقت الباب، من حيث لا تدري ولا تحتسب، في وجه الإسلام السياسي، أيضاً. ولعل هذا وذاك من علامات مكر التاريخ، وميله إلى المزاح الثقيل.
على أي حال، هذا كله لا يعني عدم وجود تصوّرات بشأن سيناريوهات "اليوم التالي" لدى الإسرائيليين. ثمة سيناريوهات مختلفة، لكنها ليست موحّدة، وما زالت محط صراع بين قوى وأيديولوجيات وحسابات فئوية، إضافة إلى خضوع مدها وجزرها لمعادلات إقليمية ودولية، أيضاً. ففي الأشهر الأولى، مثلاً، طغى احتمال تهجير العدد الأكبر من السكّان إلى سيناء. وفي الوقت الحاضر، يتجلى شطر قطاع غزة إلى نصفين، وإنشاء منطقة عازلة على امتداد المنطقة الحدودية مع القطاع، كاحتمال قائم.  
وفي سياق متصل، جرى تداول سيناريوهات إدارية من نوع إنشاء إدارة محلية عشائرية، على غرار الصحوات العراقية، وروابط القرى، للعمل كوسيط بين سلطة الاحتلال والسكّان، مع رفض مطلق لبقاء جماعة "حماس" في حكم غزة، أو عودة السلطة الفلسطينية.
ومع ذلك، ثمة ما يستدعي التفكير والتدبير في أمور من نوع الفرق بين الأهداف المُعلنة والأهداف غير المُعلنة. فعلى الرغم من التقاطع بين أهداف الحرب في الحالتين، إلا أن إدارة العمليات في الميدان، ورهانات صنّاع القرار المهنية والسياسية، قد تسلّط الضوء على أهداف غير مُعلنة أكثر أهمية وخطورة من الشائع والمتداول في العلن.
وبهذا المعنى، لا ينبغي إسقاط دوافع كالانتقام بطريقة غير مسبوقة، ولا رهانات جامحة من نوع "استعادة غزة" وبناء المستوطنات، من الأهداف غير المُعلنة. ففي الحالتين ما سيمكن الساسة الإسرائيليين، والجنرالات، من العثور على طوق للنجاة من القاع التي ارتطموا بها في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي.
وعلى الرغم من حقيقة أن استعادة الردع لا تندرج في باب الأهداف غير المعلنة للحرب، إلا أن أحداً من الإسرائيليين لا يقول لسكّان الشرق الأوسط انظروا كم نبدو قساة إذا أُصبنا بالجنون. وبالقدر نفسه، لا يقول أحد منهم للإبراهيميين: نحن نحميكم، أيضاً. والقول في الحالتين من الأهداف غير المعلنة للحرب.
والمفارقة أن الإفراط في التمثيلات والترجمة العملية في الميدان للأهداف المعلنة، وغير المُعلنة، قد حد من قدرة الإسرائيليين على التصرّف، وترجيح كفة سيناريو بعينه لليوم التالي، كما أن التباين بين الأهداف المعلنة، والنتائج الفعلية قد ألحق الضرر بفكرة الإسرائيليين عن أنفسهم، وفكرة العالم عنهم.
فقد أدت ممارسات من نوع جنون الانتقام، واستخدام الفلسطينيين كوسيلة إيضاح لعنف غير مسبوق (يرقى إلى حد الإبادة الجماعية بلغة محكمة العدل الدولية)، وإطالة أمد القتال خدمة لأهداف غير معلنة، إلى ردة فعل غاضبة، وصحوة بطيئة ولكن واضحة، في العالم، وأحرجت النخب السياسية في الديمقراطيات الغربية، التي سارع ممثلوها للتعبير عن التضامن مع الإسرائيليين في الأيام الأولى للحرب. والنتيجة الفعلية لكل هذه التحوّلات، أن سيناريوهات اليوم التالي الإسرائيلية لم تعد شأناً داخلياً بين نتنياهو وسموتريتش والجنرالات، بل صارت شأناً دولياً، أيضاً.
وفي السياق نفسه، أدى التباين بين الأهداف المُعلنة، والنتائج الفعلية، إلى إعادة النظر في كفاءة وبراعة القوّة الإسرائيلية في الميدان. ولننتظر حتى توقّف القتال لنرى كم من أصابع الاتهام سترتفع، وكم من الشتائم، والاستقالات، والاتهامات، ستقبض على عنق الحقل السياسي، وعلى العلاقات العسكرية - المدنية في الدولة الإسرائيلية.
القصد لا ينبغي استبعاد سيناريو بعينة لليوم التالي. فكل السيناريوهات محتملة، ومع استمرار القتال صارت مأزومة، في آن. فاصل ونواصل.