حقيقة التصريحات الأميركية الأخيرة..

الخميس 21 مارس 2024 04:51 م / بتوقيت القدس +2GMT
حقيقة التصريحات الأميركية الأخيرة..



الكاتب: سنية الحسيني:

في اليوم الـ ١٧٧ من أيام حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على الفلسطينيين في غزة، تسجل إسرائيل على نفسها أطول حروبها وأصعبها والأشد تكلفة عليها. ويبقى الجرح الفلسطيني نازفاً بغزارة في غزة، تحت أنظار العالم "الحر"، دون وجود مؤشرات تلوح في الأفق تشير إلى موعد ينهي معاناة أكثر من مليوني فلسطيني. واعتبر مراقبون أن الخطاب الأخير الذي ألقاه زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك تشومر، وتصريحات لمسؤولين أميركيين آخرين، على رأسهم الرئيس جو بايدن نفسه، تعكس خلافات مع إسرائيل، وتحولات في مواقف إدارة بايدن تجاه حرب الإبادة على الفلسطينيين، بل إن التصريحات الأوروبية أيضاً يمكن أن تشير إلى نوع من التطور في المواقف تجاه الفلسطينيين، فإلى أي مدى يبدو ذلك صحيحاً، وهل من الممكن أن تضغط الولايات المتحدة على حكومة نتنياهو لإنهاء شلال الدماء في غزة، في ظل التفاعلات السياسة في إطار ائتلاف نتنياهو المتطرف وحكومة الحرب التي يقودها؟

خلال حرب الإبادة لا تبدو الخلافات بين إدارة بايدن ونتنياهو بالجديدة، فطالما شددت الإدارة على حكومة الحرب بضرورة حماية حياة المدنيين الفلسطينيين، وتوصيل الاحتياجات الأساسية لسكان غزة، إلا أن الجديد خلال الأيام الأخيرة تمثل في خروج تلك الخلافات من الغرف المغلقة، وارتفاع صوت تلك الخلافات لتصل إلى العلن، والتصريح المقصود بها. والحقيقة أنه رغم وجود تلك الخلافات منذ بداية ارتكاب إسرائيل للمجازر بحق الفلسطينيين، لم تبذل الولايات المتحدة أدنى مجهود يذكر لثنيها عن قتل المدنيين بالقصف أو بالتجويع أو بالحرمان من أبسط الاحتياجات الآدمية. فهل يمكن أن يساهم هذا التصريح الأميركي المعلن والمقصود بإظهار الخلاف مع حكومة نتنياهو اليوم بتشكيل ضغط حقيقي على هذه الحكومة، لمراعاة حياة المدنيين، وتوصيل احتياجاتهم الأساسية، والذهاب لهدنة؟ تشير جميع المعطيات إلى أن نتنياهو لا يريدها. وقد يكون على رأس تلك المعطيات المحددة لهذا التغيير في اللهجة الأميركية البحث عن أسباب هذا التغيير الأخير، والغوص قليلاً في تصريحات كبار المسؤولين الأميركيين المحدثة، وواقع التطورات السياسية في إسرائيل.
قد تكون أهم ما يلفت النظر في هذا التطور المهم المعلن في الموقف الأميركي، أو المسرحية، نتائج استطلاعات الرأي المتعددة في الولايات المتحدة حول الانتخابات الرئاسية القادمة في شهر تشرين الثاني القادم. فقد أدى دعم بايدن لحرب الإبادة لانقلاب في الرأي العام الأميركي على شخصه وإدارته، لم تشهد البلاد مثلها من قبل، خصوصاً من قبل شريحة الشباب والعرب والمسلمين. وجاءت نتائج الانتخابات التمهيدية في ولاية ميتشيغان نهاية الشهر الماضي، لتعكس طبيعة هذه التطورات في الشارع الأميركي. وتعني خسارة بايدن لأصوات الهيئات الانتخابية في ولايتي ميشيغان وجورجيا، التي تراجعت فيها أيضاً شعبية بايدن، وولاية أخرى ثالثة، خسارته للانتخابات الرئاسية القادمة دون مواربة. ولم يكن من قبيل الصدفة، بعد أسبوع واحد من نتائج الانتخابات التمهيدية في ميتشيغان، أن دعت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس إلى "وقف فوري لإطلاق النار"، تبعها العديد من التصريحات المشابهة لمسؤولين أميركيين آخرين، على رأسهم بايدن نفسه. فلم يحدث في أي وقت من تاريخ الولايات المتحدة أن هيمن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على تطورات السياسة الداخلية للولايات المتحدة، وامتد تأثيرها على الانتخابات فيها، على هذا الشكل العميق الذي نشهده اليوم في البلاد.
لا شك أن هناك تبدلاً في اللهجة والتصريحات الأميركية تجاه حكومة نتنياهو وحرب الإبادة التي يشنها على المدنيين في غزة، إلا انه من المفيد تحليل جانب من تلك التصريحات والتطورات الأميركية، لتصبح الصورة بينة جلية لا تتأثر بإضاءات مضللة. ركزت تصريحات شومر، اليهودي الذي طالما دعم إسرائيل بكل جوارحه، على ضرورة تبديل نتنياهو، والذهاب لانتخاب رئيس وزراء جديد لإسرائيل، وهو ما تقاطع مع تصريحات بايدن، بأن نتنياهو يضر بمصلحة إسرائيل، ونائبته هاريس التي ميزت بين تصرفات نتنياهو وحكومته والشعب الإسرائيلي. إلا أن ذلك التوجه الأميركي غير عملي في ظل الواقع السياسي الحالي في إسرائيل، والمعروف لدى تلك الإدارة.
والحقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال شريكة مع نتنياهو، فقد تحدث بايدن ونتنياهو قبل أيام، بعد انقطاع لأسابيع، طلب خلالها الرئيس بايدن إرسال مسؤولين كبار لواشنطن لمناقشة الخطط العسكرية المحتملة في رفح، وهو ما وافق عليه نتنياهو، ليبدو الأمر للناخبين الأميركيين أن نتنياهو يناقش خطط الحرب مع الولايات المتحدة، في ظل تأكيد الولايات المتحدة على ضرورة عدم السماح ببقاء حركة حماس، وأهمية وجود استراتيجية متماسكة للقضاء عليها. ورغم اعتبار الإدارة أن غزو رفح خط أحمر، إلا أن التصريحات لا تزال تشدد على ضرورة عدم الأضرار بالمدينين، وتوفير ملاذ آمن لهم.
وأصدرت إدارة بايدن مذكرة تتعلق بالأمن القومي تلمح لإمكانية الحد من الأسلحة التي ترسلها إلى إسرائيل، إذا لم تلتزم الأخيرة بشروط محددة. إلا أن طلب ميزانية البيت الأبيض للسنة المالية القادمة، التي صدرت يوم الاثنين، تضمنت ٧.٦ مليارات دولار لإقامة شركات اقتصادية وتنموية وأمنية مشتركة مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نصفها تقريباً مع إسرائيل، وهو الأمر الذي ينسجم مع مذكرة التفاهم الموقعة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بالإضافة إلى أنه تم في تلك الميزانية بالمبلغ التكميلي الذي طلبته الإدارة لإسرائيل في تشرين الأول الماضي.
وأرسل الحزبان في الكونغرس رسالة شكر للمستشار الألماني أولاف شولز على إعلانه نية بلاده التدخل نيابة عن إسرائيل لدعم "حقها في الدفاع عن النفس" في محكمة العدل الدولية، في القضية المرفوعة ضدها من قبل جنوب أفريقيا. كما دعا بيان صدر عن الحزبين في مجلس الشيوخ قطر لرفض استضافة المكتب السياسي لحركة حماس وأعضائها، إذا رفضت شروط اتفاق الهدنة المؤقتة، للضغط على الحركة. وفي إطار استحسانها على تبديل رئيس الوزراء الفلسطيني، اعتبرت الولايات المتحدة أن إصلاح السلطة الفلسطينية يمهد الظروف لحدوث الاستقرار في الضفة وغزة، في تجاهل تام لواقع الاحتلال في الضفة الغربية، وفي ظل إصرار إسرائيل على استكمال حربها التدميرية على غزة، ومماطلتها في الوصول لتهدئة في القطاع المنكوب.
ولعله من الضروري ربط تلك التطورات في التصريحات الأميركية الأخيرة بحقيقة المشهد الإسرائيلي المعقد، والذي تعرفه الإدارة الأميركية حق المعرفة. ففي ظل تطورات نتائج استطلاعات الرأي لغير صالح حكومة نتنياهو وائتلافه، ورغبة نتنياهو في البقاء في الحكم، في ظل تفاعلات محاكمته، وعدم رغبته الصريحة بالذهاب للانتخابات، والتي يعتبر الذهاب اليها غير وارد في ظل استمرار الحرب، تبدو الحرب مستمرة. كما أنه من الصعب إسقاط الحكومة أو الكنيست والدعوة لانتخابات جديدة، في ظل تماسك ائتلافه في الكنيست، الذي يمتلك الأغلبية اللازمة لاتخاذ مثل تلك القرارات. ويظهر أن التشدد في مجريات هذه الحرب، في ظل شراكة نتنياهو مع حلفائه في الأحزاب اليمينية الدينية والمتطرفة الأقرب إلى الواقع. ورغم الخلافات بين أقطاب حكومة الحرب حول مجرياتها، وتصاعد الأزمة بين اليمينيين واليساريين حول قانون تجنيد المتدينين، وزيادة المعارضة على عدم إخراج المحتجزين من غزة، تبدو أحزاب المعارضة مشتتة، وغير قادرة على مواجهة نتنياهو، خصوصاً في ظل استمرار الحرب.
يبدو جلياً أننا أمام حرب إبادة مستمرة، بتواطؤ أميركي أوروبي، رغم التصريحات التي تأتي لخداع الرأي العام. فقد أكد نتنياهو أن مكانة إسرائيل الشعبية عالمياً في تراجع، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحاربها الولايات المتحدة، وتعمل على اغلاق ما لا يقع تحت سلطتها. فهذا العالم الذي تديره القوى الغربية، يشهد على الجرائم اليومية المستمرة في غزة دول أي تحرك فعلي. كما أن ذلك العالم الذي يدعو لادخال الحاجات الأساسية للغزيين، لتجنب حرب التجويع، يتابع بصمت عملية اغتيال ممنهجة لرجال حفظ الأمن ورجال العشائر في غزة، الذين تعهدوا بالمساعدة لتنظيم وصول المساعدات في شمال غزة، ليكشف ذلك عن الواقع الذي يرسمه الاحتلال للقطاع. فالاحتلال لا يكتفي بشن حرب الإبادة على غزة، بل يريد إسقاطها في براثن الفوضى الداخلية، باستهداف قيادات العمل الوطني. وحتى التصريحات الأوروبية بنيتها فرض وقف لإطلاق النار في غزة، اعتبر قادة الاتحاد أن ذلك يحتاج لإجماع في المجلس، وهو ليس بالأمر اليسير. كما أن الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية لايزال غامضا، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي بأنه يمكن أن يفعل ذلك من خلال مجلس الأمن، الأمر الذي يعيد المسألة للرغبة الأميركية. وتأتي تصريحات نتنياهو بدعوة الغزيين لترك وطنهم من خلال الميناء الأميركي، الذي تشارك دولة الاحتلال مع الولايات المتحدة في تأمينه، لتؤكد مخاوف الغزيين. في النهاية، ورغم تحالف هذا العالم الغربي مع إسرائيل، ودعم احتلاله لفلسطين، طوال العقود الطويلة الماضية، وذلك بتقويض أي تحرك فلسطيني سياسي أو دبلوماسي أو مقاوم للاحتلال تشرعه القواعد الدولية، صمد الفلسطينيون في أرضهم ورفعوا راية قضيتهم دون كلل أو ملل، رغم كل القهر الذي تعرضوا له. واليوم أنتجت حرب الإبادة على غزة، من قبل حكومة يمينية متطرفة اكتشاف شعوب العالم أجمع بما فيها العالم الغربي حقيقة الاحتلال، والذي حاولت قيادة الغرب تزوير حقيقته، فوقفت شعوب تلك الأمم داعمة لحق الفلسطينيين في الوجود وحقهم كشعب محتل للدفاع عن نفسه، وتصدت لحكوماتها. إن قضية الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تموت، في ظل وجود الشعب الفلسطيني الصامد على الاحتلال والعدوان والمؤمن بقضية العادلة وحقه الثابت.