حول محاكمة إسرائيل دولياً..زياد بهاء الدين

السبت 20 يناير 2024 10:07 ص / بتوقيت القدس +2GMT



أبطال الأسبوع الماضي كانوا أعضاء الفريق القانوني لدولة جنوب إفريقيا، التي فاجأتنا جميعاً، خصوصاً في الوطن العربي، برفع دعوى ضد إسرائيل لإثبات ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية ضد أهل غزة بالمخالفة لالتزاماتها الدولية، والمطالبة بوقف العدوان فوراً.
السؤال الذي طرحه العديد من الأصدقاء، وأتصور أنه كان على بال الكثيرين: ما الجدوى من المحاكمة؟ وهل يمكن أن تسفر عن إدانة إسرائيل؟ وهل لدى المحكمة سلطة تنفيذ حكمها بشكل ملموس وعملي، أم أن المسألة كلها لا تعدو أن تكون سجالاً سياسيّاً أقصى غاياته تسجيل موقف إعلامي وأخلاقي ضد إسرائيل، بينما العدوان والقتل مستمران؟
وللرد على هذه الأسئلة، قد يكون من المفيد توضيح بعض الحقائق الرئيسة عن محكمة العدل الدولية وما لديها من صلاحيات كي تكون توقعاتنا في محلها، فلا نمعن في التفاؤل، ولا نهدر قيمة المحاكمة بالكامل.
محكمة العدل الدولية الواقعة في مدينة لاهاي بهولندا هي الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، وقد أُنشئت بموجب ميثاق الأمم المتحدة الموقع في ٢٦ حزيران ١٩٤٥، وبدأت العمل في العام ١٩٤٦، وعُرضت عليها أول دعوى في أيار ١٩٤٧. ومنذ نشأتها حتى الأسبوع الماضي، لم يُقيّد أمامها إلا ١٩٢ دعوى.
وأهم ما يميز هذه المحكمة أمران: الأول أنها تختص بالدعاوى المرفوعة بين الدول فقط وليس الأفراد، ولهذا فلا يكون المسؤولون الحكوميون أو الأفراد عموماً أطرافاً في الدعاوى المرفوعة أمامها، بل الدول المتهمة بخرق قواعد القانون الدولي والمعاهدات الدولية. أما الأمر الثاني الذي يميزها فكونها بمثابة محكمة مدنية وليست لها أي ولاية قضائية جنائية، (هذا الاختصاص لمحاكم أخرى، أشهرها المحكمة الجنائية الدولية).
الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا تنسب لإسرائيل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية (Genocide)، وهي أخطر جريمة في القانون الدولي. وقد صك المصطلح المحامي اليهودي البولندي رافاييل لامكين العام ١٩٤٣ - ويعنى حرفيّاً "القتل الجماعي" - لوصف مذابح النازية لليهود. وقد أسفرت جهوده عن صدور اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالإبادة الجماعية العام ١٩٤٨، (والنافذة من كانون الثاني ١٩٥١)، والتي عرفت في مادتها الثانية هذه الجريمة بأنها "الأفعال التي تُرتكب بنيّة القضاء الكلي أو الجزئي على مجموعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو دينية في حد ذاتها".
ولأن المحكمة كما ذكرنا ذات طبيعة مدنية لا جنائية، فإن جنوب إفريقيا لا تدّعي على إسرائيل جنائيّاً، بل تنسب إليها مخالفة التزاماتها الدولية وفقاً للاتفاقية التي تحظر الإبادة الجماعية، وتطالب المحكمة موضوعيّاً بإصدار حكم بذلك، وفي شق عاجل بإصدار قرار بوقف العدوان على أهل غزة. ووفقاً للمتعارف عليه، فإن الأرجح أن صدور الحكم الموضوعي قد يستغرق سنوات أمام المحكمة. أما الطلب العاجل بوقف العدوان، فمن الممكن أن يصدر القرار بشأنه خلال أسابيع قليلة. ولكن حتى في حال صدور الحكم العاجل بوقف العدوان، فلن يكون له أثر فعلي على الأرض لأنه لا يوجد ما يلزم إسرائيل باحترامه، كما حدث مثلاً مع الحكم الصادر من ذات المحكمة في كانون الثاني ٢٠٢٢ بوقف العدوان الروسي على أوكرانيا، وتجاهلته روسيا كأن لم يكن.
إلى هنا ينتهي الوصف المختصر للوضع القانوني للمحكمة، وأشكر الزميلة الدكتورة رنا القهوجي، المدرس بقسم القانون الدولي بجامعة الإسكندرية، على مساهمتها في تبسيط الموضوع.
ولكن هل معنى ما سبق أن محكمة العدل الدولية لا قيمة لها، وأن هذه المبادرة من جنوب إفريقيا مجرد استعراض تلفزيوني؟ بالتأكيد لا، بل لها قيمة وأثر كبيران، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: لأن مجرد انعقاد المحكمة وطلب إثبات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وتقديم الملف والمرافعات المؤيدة له، أفسح المجال لطرح الموضوع وتوثيقه رسميّاً وعرض الأدلة المؤيدة على العالم بشكل يتجاوز في مصداقيته ما للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
ثانياً: لأن إسرائيل ذاتها واعية بأهمية وخطورة الموضوع لما له من أثر سياسي وإعلامي خطير. ويدل على ذلك مثولها أمام المحكمة، دون تحفظ، واستعانتها بأحد عمالقة القانون الدولي (مالكولم شو)، وتقديم الدفوع لإثبات عدم مخالفتها الاتفاقية الدولية الخاصة بالإبادة الجماعية، إدراكاً منها أن هذه لحظة فارقة في تحديد المسؤولية الأخلاقية والسياسية، حتى لو لم تكن لها أبعاد عملية.
ثالثاً: لأن ثبوت حكم مدني ضد إسرائيل يمكن أن يدعم موقف ضحايا عدوانها المتقدمين بدعاوى أخرى جنائية - أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي يمثل أمامها الأفراد لا الدول - وللمطالبة بتعويضات لاحقاً.
خلاصة الكلام أن المحاكمة الجارية لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وإن كان لا يُرجح إطلاقاً أن تؤثر على الواقع الأليم الذي يتعرض له أهل غزة أو أن توقف العدوان الإسرائيلي، إلا أنها قد تكون خطوة فارقة في تثبيت حقيقة أن إسرائيل، التي تعتبر نفسها ممثلة لضحايا أكبر جريمة إبادة في التاريخ قامت بها النازية، صارت بعد ستين عاماً المرتكب الأكبر لذات الجريمة، فشكراً يا جنوب إفريقيا!