رغم المشاهد الاحتفالية والشماتة المعلنة، تواصل إسرائيل محاولاتها، منذ مساء أمس، النأي بنفسها عن عملية اغتيالها للشهيد صالح العاروري في بيروت، وسارعَ رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو لأمر وزرائه بعدم التحدث في الإعلام في هذا الموضوع، فيما رفض الناطق العسكري دانئيل هغاري التطرّق للعملية، في إحاطته اليومية، وكل ذلك يندرج ضمن مساعيها لتحاشي وضع الإصبع بعيون “حزب الله”، وتحاشي اندلاع حرب متزامنة في الشمال.
إسرائيل، كما كان متوقعاً، لم تصادق على اغتيالها للعاروري، ولم تنفِ، لكنها رفعت درجة الجهوزية في عدة جبهات، ونشرت المزيد من بطاريات القبة الحديدة في حيفا والجليل، خاصة أن “حزب الله” و”حماس” وجّها إصبع الاتهام لها بارتكاب جريمة جديدة، وانتهاك السيادة اللبنانية مجدداً.
ورغم مزاعم وتلميحات إسرائيلية حول العلاقة بين الاغتيال الآن وكون العاروري الأكثر رفضاً لصفقة التبادل (العالقة) قبل إنهاء الحرب، يبدو أن لا معنى لتوقيت جريمة الاغتيال، فإسرائيل كانت ستنفّذها قبل أسبوع وقبل شهر، وفي كل وقت تأتي المعلومة الاستخباراتية والقدرة العملياتية على تنفيذها، وسبق أن هدّدَ نتنياهو، قبل شهر، باغتياله ذاكراً إياه بالاسم، فيما قال وزير الأمن في حكومة الاحتلال يوآف غالانت إن قادة “حماس” في البلاد والخارج، بما في ذلك لبنان، يعيشون “زمناً مستعاراً”، وهناك تساؤلات إسرائيلية أيضاً عن مقدار تدابير الحيطة والحذر التي انتهجتها القيادة الفلسطينية في بيروت، خاصة أنها شهدت جرائم اغتيال مشابهة في الماضي.
اعتراف نائب إسرائيلي
وبعدما بادرَ مقدم برنامج في القناة 13 العبرية غاي ليرر بتقديم البقلاوة لضيوفه داخل الاستوديو، احتفاءً بجريمة القتل في بيروت، كان عضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست النائب داني دانون (الليكود) قد سارع لإصدار تهنئة باركَ فيها للجيش والشاباك والموساد على اغتيالهم صالح العاروري في بيروت. وتابعَ مهدداً في تغريدته في شبكة “إكس”: “كل من كان متداخلاً في السابع من أكتوبر، عليه أن يعلم أننا سنصل له ونسدّد الحساب”. وأثارت هذه التغريدة موجة انتقادات في إسرائيل التي قرّرت عدم الاعتراف رسمياً بالاغتيال كي لا تصبّ الزيت على النار، خاصة في الجبهة الشمالية.
تجلّى الحرص الإسرائيلي للتعامل بحذر شديد مع جريمة الاغتيال في جواب الناطق العسكري هغاري؛ حينما سئل عنها، أمس، اكتفى بالقول: “إننا مستعدون لكل الاحتمالات، ونحن متركزون في الحرب على حماس”.
لجانب احتفالية الشماتة في الأوساط الإسرائيلية غير الرسمية استذكرت وسائل إعلام عبرية مسيرة الشهيد العاروري، الذي تجند للعمل من أجل فلسطين منذ كان طالباً في جامعة الخليل، وتوقفت عند ندرة قيادته وشخصيته الكاريزماتية، ضمن الحديث عن “الإرهابي الخطير” الذي توقع استشهاده في عدة مقابلات صحفية، في السنتين الأخيرتين.
شهادة عدو
وفي هذا السياق، قال الباحث في الشؤون الفلسطينية في جامعة تل أبيب دكتور ميخائيل ميليشتاين إن العاروري عمل مع يحيى السنوار، في العقد الأخير، على صياغة وتصميم هوية “حماس” كحركة راديكالية، قدما من الذراع العسكري، بخلاف مشعل وهنية القادمين من الدائرة السياسية.
ميليشتاين، وهو ضابط كبير في الاستخبارات سابقاً، يشير لأهم أفعال ومسؤوليات العاروري: تحريك ساحة الضفة الغربية، (نتنياهو ألمح لاغتياله في آب الماضي على هذه الخلفية) التنسيق مع محور المقاومة، بناء جبهة لبنان كـجبهة قتالية (أطلقت صواريخ نحو الجليل منذ عام ونيف)، بناء القدرات العسكرية لـ “حماس”.
ونوّه ميليشتاين أن العاروري تنقّل بين عدة دول حتى استقر في بيروت لوجود حضانة “حزب الله”، وعدم وجود ضغوط دبلوماسية من قبل الدولة المضيفة.
وعلى غرار ميليشتاين، أشار ضابط سابق في “الشاباك” غاي حين لقدرات العاروري في فهم إسرائيل بصورة عميقة، ولإجادته العبرية بفعل السجن 18 عاماً في السجون الإسرائيلية. في حديث للقناة 13 العبرية، قال حين إنه حقق مع العاروري، وجالسه عدة مرات داخل السجن، وإن الحديث معه دائماً كان مثيراً وممتعاً بفضل شخصيته النادرة وثقافته.
ويرجح ميليشتاين وحين أنْ تحاول “حماس” الثأر لاغتيال العاروري من خلال عمليات في الضفة الغربية، أو من خلال إطلاق صواريخ أو عمليات اختراق للحدود من جنوب لبنان، مثلما يرجّحان أن لا يسارع “حزب الله” لإشعال حرب واسعة بسبب الاغتيال، رغم وقوعه على الأرض اللبنانية وفي قلب الضاحية.
ردود “حزب الله” المحتملة
ولا يستبعد خبير الشؤون الاستخباراتية في صحيفتي “يديعوت أحرونوت” و”نيويورك تايمز” دكتور رونين بيرغمان أن يؤدي الاغتيال لردّ يستدعي رداً إسرائيلياً يدفع لتصعيد جوهري محتمل، وفتح جبهة إضافية، وفي ذات الوقت ربما يشكّل شارة إنذار لمحور المقاومة من مثل هذه الجبهة.
يشار إلى أنه منذ اغتيال قاسم سليماني كرّر حسن نصر الله تحذيراته بأن اغتيالاً إسرائيلياً في لبنان يعني تجاوزاً للخط الأحمر، وهذا ما قاله مجدداً عندما هدّدَ نتنياهو بقتل العاروري، قبل شهر ونيّف.
وقال بيرغمان إن هذه التصريحات، التي قوبلت بحذر إسرائيلي، تفسّر عدم التزام قدر كاف من الحيطة والحذر لدى قادة “حماس” في لبنان وغيره، ظانين أنهم في مأمن، فتحركوا بدون حراسة كافية، ولم يهتموا بتغيير أنماط تحركاتهم ونشاطهم اليومي، معتبرين أن وجود مسار مفاوضات لصفقة تبادل يحول دون قيام إسرائيل بمثل هذه العملية.
ويتابع: “الآن، يقف نصر الله أمام مفترق طرق؛ هل يحافظ على الخطوط الحمر التي حدّدها وأعلنها، أم يترك الحادثة، هل يرد بشكل واسع والمغامرة برد إسرائيلي، أم مواصلة الحفاظ على مستوى النار، الذي يلتزم به منذ السابع من أكتوبر.
ويقول بيرغمان إن تقديرات معظم الجهات المعنية في إسرائيل والولايات المتحدة تفيد بأن
نصر الله لن يكون جاهزاً لجرّ لبنان كله لخراب كي يتضامن مع “حماس”، أو الدفاع عنها وهي خرجت لحرب دون إطلاعه مسبقاً”.
ويشير لوجود آمال في إسرائيل بأن يؤدي الاغتيال لمنفعة تكمن بدفع دول الغرب وحكومة لبنان لبناء نظام سياسي بين إسرائيل و”حزب الله” يعيد الواقع في جنوب لبنان والجليل لما كان قبل “طوفان الأقصى”.
ويتفق المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل مع التقديرات بأن الثأر سيقع في الضفة الغربية، موضحاً أن هذه أول مرة تنجح فيها إسرائيل باغتيال أحد قادة “حماس” رغم مساعيها الكبيرة منذ بدء الحرب، ويقول إن ردّها سيكون متوقعاً، والسؤال إذا ما سيردّ “حزب الله”، زاعماً أن نصر الله سبق وهدد برد قاس على عمليات إسرائيلية في الماضي، لكن رفع سقف الرد سيقلّص هامش مناورته.
قافلة الشهداء تسير
تنطوي جريمة اغتيال العاروري على استبعاد صفقة تبادل في المدى المنظور، وعلى خلاصة مفادها أن استعادة المحتجزين ليست هدفاً حقيقياً لدى حكومة الاحتلال، بعكس ما تزعمه. كما تنطوي على ضربة موجعة للجانب الفلسطيني في المعركة على الوعي، خاصة أن إسرائيل متعطّشة لـ “صورة انتصار”، أو أي مكسب يحمي ماء وجهها، وهي في اليوم الثامن والثمانين من الحرب على غزة.
جريمة اغتيال العاروري سبقتها مئات الجرائم المماثلة في تاريخ هذا الصراع، ويبدو أنها ليست الأخيرة، لأن إسرائيل لا تبحث عن تلبية شهوة الانتقام، وعن استعادة الردع والهيبة، وعن مفعول نفسي وعيوي معنوي فحسب، بل تراهن على أن اغتيال هذا القائد أو ذاك سيضعف أعداءها، من منطلق أن القائد لا ينبت على الشجر، بل هو ثمرة مسيرة طويلة تستجمع فيها المعرفة والتجربة والاختصاص والنضج بالتدريج وبجهد النملة. ولذا انتهجت إسرائيل، منذ انطلاق الثورة الفلسطينية، إستراتيجية “جزّ العشب” اغتالت فيها قيادات فلسطينية من أجل زعزعة البيت والتنظيم بضرب أحد أركانه، كما فعلت مع الشهداء أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، صلاح شحادة، أحمد جعبري، ومحمود المبحوح. وقبل ذلك اغتالت خليل الوزير وصلاح خلف وأبو علي مصطفى، ومعهم اغتالت كتاباً ومثقفين حملوا الرواية الفلسطينية والكلمة التعبوية المقاتلة، أمثال غسّان كنفاني وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجّار وغيرهم، وهم أيضاً استشهدوا في بيروت نفسها.
وتدلل التجارب أن المقاومة الفلسطينية لم تتوقف عن العمل، حتى عندما أدى اغتيال هذا القائد أو ذاك لضرر إستراتيجي لا تكتيكي فحسب، وحتى عندما تكون عملية استبدالهم بقادة جدد مهمة صعبة.
في المدى الواسع البعيد أدى اغتيال القيادات الفلسطينية واللبنانية لتعزيز قوة المقاومة ولتأجيج عملياتها بشكل أقوى أحياناً، خاصة أن قادة المقاومة يأخذون مسبقاً بالحسبان استشهادهم وهم متصالحون مع ذواتهم بأن نداء الدفاع عن الوطن والحقوق هو جهاد مبارك. وهناك أمثلة أخرى على مثل هذه النتائج، كما حصل بعد اغتيال قائد “الجهاد الإسلامي” فتحي الشقاقي، عام 1995، في مالطا، والذي قاد لسلسلة عمليات استشهادية موجعة.
قبل ذلك، وظفت إسرائيل بحراً من الجهود لعملية قتل الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس، عام 1988، في محاولة لإطفاء نار الانتفاضة التي زادت لهباً بعد الاغتيال، الذي شارك فيه، وفق اعترافات إسرائيلية، نحو ثلاثة آلاف إسرائيلي، بين موظف وجندي، ولاحقاً شككت جهات إسرائيلية بجدوى وحكمة هذا الاغتيال، باعتبار أن الوزير شخصية فلسطينية قادرة على اتخاذ قرارات تاريخية نحو إنهاء الصراع.
باب الفداء والاقتداء والاستلهام
وهكذا في لبنان، شقّ اغتيال زعيم “حزب الله” عباس موسوي، في 1992، الطريق لظهور زعيم جديد أكثر قوة وتصميماً وكاريزماتية وخطراً على إسرائيل، حسن نصر الله.
لكن إسرائيل ظلت تعتمد سياسة الاغتيالات، طامعة أن الضرر اللاحق بالعدو فادحٌ، وأن الأخير سيحتاج لجهد ووقت للعثور على بديل، وربما لا يجده، كما تعتقد في حالة قاسم سليماني في العراق، عام 2020، وعماد مغنية في سوريا، عام 2008.
كيف يؤثّر اغتيال الشهيد صالح العاروري على “حماس” الآن في ذروة الحرب على غزة؟ هذه ضربة قوية عملياتية ومعنوية للمقاومة، لكن “حماس” تنهض منها كما نهضت من اغتيالات سابقة لقياداتها المسلحين بالعقيدة العميقة الراسخة، وهم من فصيل “رجال عاهدوا الله”، كما أشار في نعيه رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية، ليلة أمس، خاصة أن الاستشهاد فتح ويفتح باب الاقتداء والاستلهام والسير في طريق الجها