هل يبدأ انحسار الحرب من القاهرة؟ رجب أبو سرية

الجمعة 22 ديسمبر 2023 10:38 ص / بتوقيت القدس +2GMT
هل يبدأ انحسار الحرب من القاهرة؟ رجب أبو سرية



2023-12-


شيئاً فشيئاً، وبعد أن اقتربت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من إقفال شهرها الثالث، بدأت تتحدد ملامح بعض الحقائق ارتباطاً بتلك الحرب، وبالصورة التي ظهرت عليها منذ اليوم الأول، أي ليس ارتباطاً لا بالتخمينات ولا بالأمنيات، وليس وفقاً للحرب في جانبها الإعلامي، حيث تتناقض الروايات والتصريحات، والتهديدات، أول تلك الملامح التي يمكن لحظها، هي أن الحرب فعلاً وكماً تنبأ بعض مطلقيها، يحتاج حسمها إلى فترة طويلة، وليس أياماً، حيث يستحيل وفعلاً استحال حسمها مبكراً بالضربة القاضية، والفترة الطويلة هذه، ليست أياماً بالطبع ولا أسابيع ولا حتى أشهراً، وكما أشرنا في مقالاتنا من قبل، ومنذ الأيام الأولى للحرب، فإن مآلها ونتيجتها ستتحدد إلى حد كبير ارتباطاً بأمرين، أولهما صيرورة المعركة ميدانياً، وثانيهما التطورات الإقليمية والدولية المرافقة لها، حيث إن الحرب هي محصلة صراع تاريخي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ عقود طويلة، وتتداخل فيه مصالح دول الإقليم المتعارضة والمتناقضة، كذلك تتداخل فيه مصالح الدول العظمى، والتي احتد الصراع فيما بينها في السنوات الأخيرة، إن كان على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، أو في البر الصيني فيما يخص ملف تايوان.
ميدانياً، ظلت إسرائيل تشن غاراتها الجوية ثلاثة أسابيع متواصلة، مستهدفة المباني السكنية والأحياء والمدن، ومتعمدة إلحاق الأذى بالمدنيين، لدرجة ارتكاب جرائم الحرب ومتّبعة تكتيك حرب الإبادة، لأن هدفها لم يكن لا سحق القوة العسكرية لحماس، ولا إسقاط نظام حكم حماس في غزة، ولكن تهجير سكان القطاع لتفريغه ومن ثم إعادة احتلاله، بل وضمه، بما يعني أن لدى إسرائيل الآن هدفاً أسمى وهو التوسع الجغرافي، على حساب أرض فلسطين أولاً، وربما إن استطاعت على حساب أراضٍ عربية لاحقاً، وهذا يعني أنها باتت تطمع - خاصة في ظل اليمين المتطرف العقائدي، اللاهوتي - ربما في جنوب لبنان، وحديث ما وراء الليطاني قد عاد مجدداً، بعد سنوات طويلة، بصرف النظر عن الكيفية التي يقال فيها، فإبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني شمالاً، يعني تحول الجنوب اللبناني إلى منطقة منزوعة السلاح، أو إلى حزام أمني إسرائيلي، كذلك عاد الحديث عبر أفيغدور ليبرمان وبعض الحاخامات اليهود عن أهمية سيناء لدولة إسرائيل استراتيجياً، رغم أن سيناء في معظمها منزوعة السلاح، وهي مقسمة لثلاث مناطق، بل إن تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق «أ ب ج» جاء صورة عن سيناء بعد كامب ديفيد، والأخطر من كل هذا أن الطموح الإسرائيلي في أرض شرق الأردن، بعد الضفة الغربية، يداعب المخيلة المريضة للإسرائيليين المتطرفين.
على كل حال، مجرد أن أعلنت إسرائيل هدفها متمثلاً بالتهجير، جاء رد فعل مصر والأردن عليه عنيفاً، كذلك ورغم الدعم الأميركي اللامحدود، لدرجة إدارة الحرب من قبل العسكريين الأميركيين، الذين باتوا جزءا من كابينيت الحرب، إلا أن واشنطن ومنذ اليوم الأول كانت تسأل باستمرار عن أهداف إسرائيل العسكرية والسياسية من الحرب، وكان بنيامين نتنياهو وأركان حكومته يتلعثمون في البداية، معلنين أهدافاً تتوافق واشنطن معهم فيها، وهي تبديد قوة حماس العسكرية، وسحق الحركة وإسقاط حكمها لغزة، ولكن حين كانت واشنطن تسألهم عن اليوم التالي لتحقيق هذا الهدف، كان يظهر الخلاف بينهما، وكذلك فإن طبيعة الحرب التي تشنها إسرائيل لم تكن تشي بأنها تستهدف القوة العسكرية لحماس ولا حتى قياداتها السياسية، بل واصلت قتل المدنيين يومياً بالمئات، وهذا ما ألب العالم بأسره، وشيئاً فشيئاً بدأت الدول، خاصة الأوروبية، تنفضّ عن دائرة تأييد الحرب الإسرائيلية، وبقيت أميركا وحدها، إلى أن ضاق ذرعاً بايدن باستمرار استغفال نتنياهو له، ومواصلة إصراره على تحقيق الهدف المتمثل بتهجير السكان عبر مواصلة ارتكاب جرائم القتل الجماعية.
إلى أن طالب بايدن نتنياهو بتغيير حكومته، قبل عشرة أيام، ومن ثم أرسل ما سمي رجل الضغط في واشنطن، مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ورغم أن الأخير لم يعد لبلاده باتفاق مع الجانب الإسرائيلي يحدد موعداً لوقفها مع نهاية العام، وتنفيذاً للترخيص الأميركي لها بمدة أسابيع، وكذلك بعدم وقف اعتداءات المستوطنين على مواطني الضفة الغربية، ولا بتغيير موقف تل أبيب من عودة السلطة المتجددة وفق الموقف الأميركي، ولا حتى بإجبار المتطرف الفاشي بتسلئيل سموتريتش على الإفراج عن أموال المقاصة، رغم مناقشة التفاصيل مع سوليفان والاتفاق حول ذلك الأمر، رغم كل ذلك فلا يمكن القول إن المحصلة كانت صفراً، وأيضاً هنا يمكن القول، إن طرفاً لم يحقق ما يريد بالضربة القاضية.
طبعاً ما يزيد الأمر صعوبة، وبما يجعل تل أبيب متعنتة جداَ، إن كان في الاستمرار بقتل المدنيين الذين ما زالوا يسقطون بالمئات، وإصرارها على التطهير وإفراغ شمال القطاع من سكانه، بدليل مواصلة ارتكاب المجازر بحق من بقي صامداً في بيته في جباليا، رغم ضغط واشنطن واحتجاجات أهالي المحتجزين، هو أن نتنياهو وحكومته يعلمون جيداً أن اليوم التالي لوقف الحرب، خاصة دون تحقيق أي نجاح يذكر، لا عسكري ولا سياسي، فإنه سيشهد تفكيك الحكومة، وخروج نتنياهو تماماً من المسرح السياسي إلى السجن، أو إلى بيته في أحسن أحواله.
لم يتحقق هدف التهجير، ولم يتحقق هدف توسيع الحرب وجر أميركا لمواجهة عسكرية مع إيران، لكن استمرت الحرب حتى اللحظة، رغم ما يتخللها من ارتكاب جرائم القتل الجماعي، ولم تحقق إسرائيل انتصارات عسكرية تكتيكية، من مثل اكتشاف وتدمير عشرات الأنفاق، أو قتل قيادات عسكرية إن كان من القسام، أو غيرها من فصائل المقاومة، لكن الجانب الفلسطيني خسر نحو مئة ألف ضحية بين شهيد وجريح، ووقع دمار كبير جداً لنحو نصف مباني غزة، وحالة يرثى لها للقطاع، يجعل من عودة الحياة الطبيعية مجدداً، أمراً يحتاج سنوات أو حتى عقوداً من السنوات، خاصة ونحن نعرف من التجربة، أن وعود الدول العربية والأجنبية بإعادة الإعمار ما هي إلا وعود هوائية، مع كل هذا فإن انخفاض وتيرة الحرب يلوح في الأفق، وصحيح أن قوى المقاومة الإقليمية لم تشارك تماماً في الحرب لكنها أزعجت الإسرائيليين والأميركيين، وكبحت جماحهم وحجمت طموحهم بطرد الفلسطينيين وضم أرضهم، خاصة في اليمن وجنوب لبنان، وقد تفاخر نتنياهو، مكابراً ومشجعاً نفسه على مواصلة الحرب لعله يحقق أهدافه منها أو بعض تلك الأهداف، حين قال إن السنوار راهن على تفكك إسرائيلي داخلي ولم يحدث، وعلى مشاركة حزب الله ولم يحدث وعلى مشاركة إيران، ولم تفعل، ولهذا فليس أمامه إلا الاستسلام.
أما علامات انخفاض وتيرة الحرب، فتدل عليها بعض الإشارات التي ظهرت مؤخراً، منها عودة 8 آلاف عامل من الضفة للعمل في المستوطنات، بتعهد أصحاب العمل على تغطية الجانب الأمني، ومنها الاتفاق بوجود سوليفان على الإفراج عن أموال المقاصة، كذلك تزايد الحديث عن الانتقال لشكل آخر من الحرب، الذي يعني التركيز على الأهداف العسكرية وتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين، ثم عودة إسرائيل إلى مسار تبادل المحتجزين مع الأسرى الفلسطينيين، بعد أن كانت أوقفت هذه المفاوضات بعد هدنة إنسانية استمرت لأسبوع فقط،
لهذا فإننا نعتقد أن هذا المسار بالتحديد يمكن له أن يشي إلى حد ما بمآل الحرب، فحماس تصر على ألا تشارك في الحوار من أجل هدنة في ظل إطلاق النار، وثانياً، أن يجري الحوار على أساس الكل مقابل الكل، أي صفقة تبادل شاملة كل المحتجزين بمن فيهم العسكريون مقابل كل الأسرى الفلسطينيين، مع وقف دائم ونهائي لإطلاق النار، إسرائيل تسعى لإعادة كلاكيت ثاني مرة للهدنة الإنسانية المؤقتة السابقة، فمن يفرض شرطه بهذا الخصوص، قد يحقق انتصاره بالنقاط، غير أننا نظن، بأن أحدهما لن يخرج تماماً وبيده الهدف الذي أراده لا أول الحرب، ولا حتى حالياً، حيث تقلص الهدف الإسرائيلي اليوم بالظفر بالسنوار حياً أو ميتاً، وصارت إسرائيل تتمنى الخروج بمنطقة منزوعة السلاح في شمال قطاع غزة، ثم تقبل بوضع لغزة مشابه لما هو حال جنين ونابلس، أي توغلات وملاحقات بين وقت وآخر، أما حماس فقد تتنازل عن هدفها بتبييض السجون، ومقايضة ما لديها من محتجزين وأسرى حرب بوقف تام لإطلاق النار، فيما الحل الوسط يبقى هو المرجح، أي التوصل لهدنة طويلة الأمد، مع بقاء بعض الأسرى العسكريين حتى إتمام صفقة التبادل، وكل هذا منوط بما سيخرج من القاهرة، بعد زيارة وفدي حماس والجهاد للعاصمة المصرية.