“في العدوان على غزة يستقوون على الضعيف لأنهم عاجزون وجبناء”..

الخميس 21 ديسمبر 2023 10:43 ص / بتوقيت القدس +2GMT
“في العدوان على غزة يستقوون على الضعيف لأنهم عاجزون وجبناء”..



كتب أ.د. محمود وتد:

يدرك الكثير إلى مدى السفالة والإنحطاط الذي يمكن أن تنزل إليه الأنظمة العنصرية والاستبدادية -تفتقر للحد الأدنى من الأخلاقيات- فعندما تفقد هذه الأنظمة السيطرة في موقف ما تستقوي على الضعيف وتتكالب فيكون قتل المدنيين الأبرياء وهدم مرافق الحياة وتدميرها  فلا تعود صالحة وخارجة عن الخدمة  وسحق بنيتها التحتية مما يضيق الخناق والظروف على السكان.
في الحرب على فيتنام ،على سبيل المثال وليس الحصر، أحرق الجنود الأمريكيون القرى وقتلوا الأبرياء. في 16 آذار/مارس عام 1968 ارتكب الجنود الأمريكيون مذبحة قرية ” ماي لاي ” حيث قاموا بعمليات قتل جماعي ل500  قروي أعزل . وبينما الولايات المتحدة كانت مشغولة بالقتل والتدمير في فيتنام كانت فرنسا – لا زالت تزاود على العالم بتحضرها وتمدنها وتبجحها بدورها التنويري في الغرب !!- ترتكب  أفظع مجازر وجرائم حرب عرفها التاريخ في الجزائر في الأعوام ( 1954-1962). مذابح ضد المدنيين واغتصاب وتعذيب وتدمير 8000 قرية والتنكيل بأكثر من مليوني جزائري احتجزتهم في معسكرات الاعتقال وقتل مليون ونصف بريء وهو أقل تقدير .
الآن في عام 2023 وخلال الشهرين الأخيرين  يفعل نتنياهو وجيشه المدعوم من قبل الولايات المتحدة وفرنسا والغرب العنصري والأنظمة العربية الفاشية وتآمر وصمت بقية الدول الإجرام نفسه في غزة دون رادع أخلاقي أو دولي… جيشه يقتل الأبرياء ويدمر البنية التحتية للتعليم والصحة والمياه والغذاء بدافع الإنتقام وبوحشية لم يسبق لنا أن شاهدنا مثل  هذه الهمجية المتعمدة بل المدروسة يدفعها وحشية جيش مهزوم ومأزوم يحاول ستر ضعفه وعجزه في تحقيق أي إنجاز فيلوذ بممارسة التخريب ليوهم نفسه قبل غيره تحقيق أهدافه المعلنة التي سقطت جميعها وما تزال.

كما يجب أن لا ننسى عنصرية الرجل الأبيض متجلية  في أعلى درجات غيّها رسختها الأقلية البيضاء  في حقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بين الأعوام (1948-1994). فغالبية البيض في جنوب أفريقيا  من أصول أوروبية مستعمرين بريطانيين و هولنديين وبعد عام  1820 إنضم لهم بيض أوروبيين من اليونان والبرتغال ويهود من ليتوانيا وبولندا. لم ينحصر همجية البيض في جنوب أفريقيا على القتل بل راحت لما هو أبشع حيث تم تهجير  وإبعاد 3.5 مليون أفريقي أسود من السكان المحليين من منازلهم  وإجبارهم على العيش في أحياء معزولة وقد كانت هذه  من أكبر عمليات إخلاء جماعي في التاريخ الحديث ويبدو أن الكيان الإسرائيلي يخطط لمصير مشابه لقطاع غزة .
هذا هو نهج الرجل الأبيض والأنظمة الاستعمارية على مرّ التاريخ !! تاريخ لا يتطور إنسانيًّا للأسف رغم كل صور الحداثة والمدنية  والمعايير الأخلاقية المزدوجة والكاذبة . عيب الأنظمة الاستعمارية أن  تاريخها دومًا يعود  لنفس النقطة والصورة الكاريكاتورية الماسخة ولكنها مع غزة ستعود بأثر رجعي لزوالهم وزوال أنظمتهم !! فالصراع القائم على الوعي نتاجه مختلف .
ومن جرائم الإحتلال والعدوان المتعددة في حربه على غزة كان استهداف القطاع الثقافي يبدو أنه كان يقض مضاجعهم فالوعي والثقافة أفضل أنواع التحصينات للشعوب التي تحترم ذاتها وتمجد وجودها على الخارطة الإنسانية مهما حاول البعض استبعادها. في هذه الحرب تم استهداف البنية الثقافية والمعرفية في القطاع بصورة ممنهجة ومدروسة هدفها قتل ما يمكن من مؤسسات تعليمية وثقافية وصحفيين وكتاب وشعراء مؤثرين وفنانين على مختلف اختصاصاتهم وأطباء ومهندسين وأكاديميين من أبرزهم وليس آخرهم أستاذ “الأدب المقارن ” رفعت العرعير ، أب لستة أطفالٍ استشهد وعائلته في غارة جوية في السابع من كانون الأول/ديسمبر الجاري .
لم تسلم المدارس ولا المكتبات والنوادي ودور النشر والمراكز الثقافية والمتاحف من بطش جيش أقل ما يمكن وصفه بأنه همجي يتعطش للدمار ونسف كل ما هو صورة مضيئة لحياة محاصرة فيبدو أن الصمود عندما يأخذ شكلًا حضاريًا يستفز فارضيه. لذلك كان لزامًا عليهم استهداف البنية التحتية الثقافية وقتل مبدعيها فهذا الهدف كان دائمًا من ضمن مخططاته تحييد السردية الفلسطينية المقاومة لتلك السردية الكاذبة للاستعمار والاحتلال. لطالما كانت الرواية الفلسطينية تتعرض للتشويه الممنهج المدفوع ، لجانب الإغتيالات لأعمدتها  البارزين غسان كنفاني المثال الحي في كل وجدان حر. فالمثقف المشتبك أصبح هدفًا مشروعًا لهمجية الصهيوني وعنصريته المؤطرة استراتيجاتها باتت واضحة قتل وتصفية المثقفين بدءًا بتشويه سمعتهم وانتهاءًا بقتلهم .
 في العدوان الحالي على غزة اغتال  الجيش العنصري حتى الخامس عشر من الشهر الجاري  واحدا وتسعين صحفيًّا  والعدد في ازدياد .. فقد وصل الكيان الإسرائيلي إلى حدٍ من الوقاحة والإجرام منذ اغتيال شيرين أبو عاقلة الصحفية المقدسية بأن يعامل الصحفيين كهدف أولي ومرصود مع سبق الإصرار والترصد .. هذه الاغتيالات لم تردع الصحفيين ولم تسكت  ألأصوات  الحرة من الوقوف إلى جانب العدالة وحقوق الشعوب… فتوثيق صور الدمار والإبادة الجماعيّة تشكل الخطر الأكبر على وجوده  ومصداقيته الواهنة كمحتل ومستعمر ظل لعقود طويلة يزيف الحقائق ويغتال الحقيقة .
يبدو أن نتنياهو وجيشه وصلت بهم الحال للتصريح المعلن حول نيتهم تهجير أهل القطاع فردهم على ما حدث في السابع من أكتوبر هذه السنة حيث أسقطت المقاومة في غزة “هيبة الجيش الذي لا يقهر” بل أنها تعدت في طوفان الأقصى إلى تحطيم أسطورته حتى بين الأوساط المؤيدة والداعمة له… وهنا كل الفرق !!هذا الجيش المدجج والمجهز بأحدث أنواع الأسلحة الأمريكية والمدعم بكل وسائل القتال المتطورة والتكنولوجية هزم من قبل من ينعتونهم خبرائهم “بالهواة ” أمام نخب وحداتهم !! ولكن ثبت وباليقين والدليل الدامغ أن الجيوش المفتقرة للعقيدة القتالية،  هي مجرد ظاهرة متهورة غوغاىية لن تحقق أيًّا من أهدافها أكبر من انجازاتها على أرض الواقع !!
لا انجاز لجيش الكيان سوى قتل الأبرياء من الأطفال والنساء والعجز الآمنين في بيوتهم ،وتهديدهم إما الموت أو الجوع أو النزوح للجنوب وحتى هذه الفئة نالت ما نالته من تصفيات متعمدة قام بها القناصة دون رحمة أو شفقة ودون امتثال لأخلاقيات الحروب واتفاقيات الأمن حول اللاجئين والنازحين. مسألة التهجير كانت دومًا حاضرة وكان الوعي هو الحصن المانع فمن تهجر زمن النكبة لن يقبل بمصير مماثل له ولأبنائه وكان الدافع الأقوى للصمود والبقاء في القطاع رغم استحالته في أغلب الأحيان .
هذه الحرب ليست حربًا على غزة وحدها ، بل هي حرب معلنة على الإنسانية جمعاء ،لا يمكن لأي شخص لديه وعي وضمير أن يشاهد هذا الكم من القتل والإبادة والتشريد أن يظل محايدًا. هي حرب بين قوى الشر الظلاميّة وبين قوى النور والعدالة ولنا أن نختار لأيها ننحاز. المثير للقلق فوق كل هذا الكم من التكالب للاحتلال هو صمت  مئات ملايين من المواطنين في الدول العربية والإسلامية  وهي طامة كبرى إذ أنهم لا يدركون حتى هذه اللحظة خطورة ما يجري من حرب في القطاع وتداعياتها مطمئنين بالقليل من الأمن ومستوى معيشة مقبول ..
إن الغرب بقيادة الحكومة الأمريكية العنصرية المتغطرسة يدرك خطورة اللحظة ولهذا السبب تتآمر الدول الغربية بكل قوتها على الفلسطينيين عامة وعلى غزة بشكلٍ خاص، فهذه الحرب تكشف عن نفاقهم كمدافعين عن حقوق الإنسان حيدت الإنسان الفلسطيني مرارًا وتكرارًا وبينت معاييرهم ” الإنسانية والأخلاقية ” المزدوجة . وعرَّت مؤسساتهم بكل اختصاصاتها كبرلمانات  واحزاب وجمعيات لحقوق الإنسان.
هذه الحرب بتضحيات أهل غزة وصمودهم وبزكي دماء اطفالها  العزل الأبرياء  فضحت إفلاس قيمهم الليبرالية والديقراطية، فالغرب لا زال رغم كوننا في الألفية الثالثة  يقود نظام فصل عنصري عالمي رسخ فيه نظامان من القوانين، أحدهما مخصص للبيض من أصول أوروبية وللمواطنين في هذه الدول والآخر لبقية العالم من المسلمين والعرب والأفارقة والآسيويين والملونين في كل مكان . حيث لم يخجل رئيس الكيان هرتسوغ  ولم يتردد من خلال لغته العنصرية في محاولة تحريك الدول الغربية لإحلال الصبغة الشرعية لحرب جيشه في تدمير غزة مدّعيًا أن هذه الحرب هي حرب وجودية تهدد القيم الغربية والتي يفترض أن دولته جزء منها .
الخزي والعار لكل الأنظمة العربيّة والإسلامية المطبعة المتخاذلة .. وندائي لكل أحرار العالم وبالخصوص وطننا العربي فأقول أن الدعاء وحده لن يرد المعتدين  والعدوان عن الأوطان ، لذا لزامً علينا وواجب أن نتكاتف لنصرة العدل والعدالة ونقاوم لأجل الحقيقة والإنسانية بعمقها وحقيقتها لها وجه واحد لا اثنان .
استاذ جامعي في الولايات المتحدة