وجهت منظمة «هيومان رايتس ووتش» الحقوقية اتهامات واضحة وصريحة إلى إسرائيل بأنها تستخدم أسلوب تجويع المواطنين كأحد أساليب الحرب في قطاع غزة. وقالت في تقرير لها صدر أول من أمس أن «الجيش الإسرائيلي يتعمد منع إيصال المياه والغذاء والوقود، بينما يعرقل عمداً المساعدات الإنسانية، ويبدو أنه يجرف المناطق الزراعية ويحرم السكان المدنيين من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم. كما أن منظمة «بيتسيلم» الإسرائيلية هي الأخرى تحدثت عن جرائم الحرب الإسرائيلية التي تتواصل في قطاع غزة، وذكرت منها في التقرير الذي نشرت «الأيام» ملخصاً له أمس، إغلاق جميع المعابر إلى القطاع «وترك سكانه بدون وقود وكهرباء ومياه للشرب والاستحمام، ودون غذاء وأدوية». وأشار إلى «تقارير وكالات الأمم المتحدة بوجود النقص الحاد والخطير في الغذاء وانتشار مجاعة حقيقية بين السكان». وبطبيعة الأشياء كل المعلومات الواردة من قطاع غزة والتقارير الصحافية المتكررة تشير إلى أن حجم المواد الغذائية التي تدخل عبر معبر رفح لا تكاد تكفي ما لا يزيد على 10% من احتياجات السكان الذين يحتاجون إلى أكثر من ألف شاحنة مواد غذائية وانسانية يومياً بينما تدخل العشرات فقط وفي أحسن الأحوال 200 شاحنة.
منذ اليوم الأول للحرب استخدمت إسرائيل سياسة العقوبات الجماعية ضد كل سكان قطاع غزة، فقد اعتبرتهم مسؤولين عن هجوم حركة «حماس» وأنهم يشكلون حاضنة لها. واستخدم الإعلام الإسرائيلي صور بعض المواطنين الذين عبروا عن فرحتهم بالعملية والهزيمة الإسرائيلية، واشترك قسم صغير منهم في التعرض للإسرائيليين في غلاف غزة وداخل مناطق القطاع. وتعتقد القيادات الإسرائيلية أنه باستهداف المدنيين بدون تمييز واعتماد سياسة الإبادة الجماعية وسياسة تجويع المواطنين ستضغط على حركة «حماس»، وستحقق كياً للوعي الشعبي الذي يؤيد المقاومة. ولكن إسرائيل بغالبية نخبها السياسية والعسكرية لم تتعلم من تجربة حصار غزة التي استمرت لمدة تزيد على 16 عاماً. فالضائقة الإنسانية لا تشكل ضغطاً على حركة «حماس» التي تعتقد أن مسؤولية الاهتمام بحاجات المواطنين هي على عاتق السلطة الفلسطينية وعلى المجتمع الدولي الذي يجب أن يهتم بتوفير مساعدات انسانية لغزة. بل إن «حماس» تحاول استغلال سياسة العقوبات الجماعية سواء القتل والتدمير أو التجويع لصالح الضغط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة، تماماً كما تستغل مسألة المحتجزين الإسرائيليين في غزة.
إسرائيل الآن في وضع صعب للغاية من حيث موقف الرأي العام الدولي الذي بات ضاغطاً بصورة كبيرة على كل الحكومات، وخاصة في الدول الغربية لجهة وقف إطلاق النار وانهاء الحرب المدمرة والبربرية التي تشنها إسرائيل بلا هوادة وبدون تمييز في غزة. حتى الدول المؤيدة جداً لإسرائيل كبريطانيا وألمانيا باتت تتحدث صراحة وبقوة عن ضرورة وقف مستدام لإطلاق النار، والبدء فوراً بعملية سياسية لإنجاز حل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء الصراع، وهذا ما ورد في بيان وزيري خارجية بريطانيا وألمانيا قبل عدة ايام. وصدرت بيانات عن جهات دولية عديدة بما فيها كندا وأستراليا ونيوزيلندا المعروفة بدعهما لإسرائيل بنفس السياق. وتحدث جوزيف بوريل المنسق الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي قبل ثلاثة أيام عن «النقص الفادح في القدرة على التمييز الذي تعكسه عمليات الجيش الإسرائيلي»، وجدد دعوته إلى هدنة إنسانية عاجلة. وتتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن «انحياز» وسائل التواصل الاجتماعي لصالح الفلسطينيين وضد إسرائيل، حيث أن غالبية منشوراتها الساحقة تتبنى الرواية الفلسطينية وتندد بإسرائيل. حتى الصحف الدولية واسعة الانتشار تنشر ثلاثة مقالات على الأقل لصالح الفلسطينيين مقابل كل مقال يروي الموقف الإسرائيلي أو يروّج له.
كل ما تفعله إسرائيل في هذه الأيام يصب ضدها، فهي لا تنجح بالقضاء على البنية التحتية للفصائل الفلسطينية في غزة وتتكبد خسائر كبيرة، وهي بحاجة لوقت طويل جداً للسيطرة بشكل كامل على كافة مناطق القطاع وللوصول إلى قيادة «حماس» هناك، هذا إن استطاعت، فهناك من يشكك بقدرتها على ذلك. كما أن عنصر الوقت بدأ يشكل ضغطاً هائلاً على عمليات جيش الاحتلال. وزيارات المبعوثين الأميركيين المتكررة والمتواصلة بشكل غير مسبوق تشي بأن هناك مشكلة في مواصلة إسرائيل حربها بنفس الوتيرة الحالية. ولم يعد بمقدور الولايات المتحدة تحمل هذه النتائج الكارثية لفترة طويلة، وهي تريد انتقال إسرائيل لمرحلة جديدة من حربها تعتمد فيها «العمليات الجراحية» أي قصف أهداف محددة جداً تتعلق بقيادات «حماس» وليس الأهداف المدنية لتجنب قتل أعداد كبيرة من المدنيين. والشيء الآخر الذي تركز عليه إدارة الرئيس بايدن وكل المنظمات الدولية هو إيصال المساعدات الإنسانية بصورة كافية للقطاع. وفي هذا السياق ضغطت واشنطن من أجل فتح معبر «كرم أبوسالم» الذي يستوعب عدداً كبيراً من الشاحنات يومياً، وقد بدأ العمل بالفعل.
الآن لم يعد لإسرائيل الكثير من الوقت قبل التوصل لوقف إطلاق نار على الأقل لتحرير المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة. وهو ما تحاول المماطلة فيه حتى الانتهاء من حربها في مدينة خان يونس التي تقول أنها معقل قيادة «حماس». وليس واضحاً إذا ما كانت ستحقق نجاحاً ملموساً أم أنها ستكمل تدمير المنطقة كغالبية مناطق القطاع الأخرى. وفي كل الأحوال لم تتخل إسرائيل عن فكرة وهدف تهجير الفلسطينيين من خلال تحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة. ولكن يبدو هذا الهدف صعب المنال لأسباب عديدة.