دخل الشرق الأوسط مرحلة يصح وصف كل ما فيها من أحداث «بغير المسبوق». لأمر كهذا دلالات مُرعبة في الغالب. فسّرنا في معالجات سبقت دعم الأوروبيين والأميركيين، غير المسبوق، للإسرائيليين. وقد حان الوقت للكلام عن عنف غير مسبوق يسم ممارسة الإسرائيليين للحرب، وكلامهم عنها.
لن تتجلى دلالة غير المسبوق بكامل أبعادها دون التذكير بأشياء من نوع: أن الصراع الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي لم يشهد هذا القدر من القتل والعنف كما يحدث الآن. وربما لا نجازف بالقول: إن هذا غير مسبوق في أي مكان آخر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أيضاً.
ولنتذكّر: استحالة اختزال ما نسعى لإدراكه في مكوّن واحد. ولا نحتاج، الآن، إلى أكثر من طرف للخيط. وهذا ما نعثر عليه في هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي. ففي ذلك اليوم تلقى الإسرائيليون لطمة غير مسبوقة في تاريخ الصراع في فلسطين وعليها.
ولنحتفظ في الذهن، هنا، بفرضية أن دلالة ما وقع ذلك اليوم لا تقتصر، بالضرورة، على المُتداول وما يستهلك الناس من تحليل وتأويل. فعلى غرار كل اللحظات الفاصلة، سيتحوّل اليوم نفسه إلى حدث مؤسس، له حياة خاصة، ولن يكف عن توليد دلالات جديدة على مدار عقود لاحقة.
فحرب 1973 مثلاً، كسرت احتكار العماليين للحكم في إسرائيل، ووضعتها على سكة اليمين. وهي الحرب التي أوصلت مصر إلى ما انتهت إليه. وبالعودة إلى زمن الحروب الصليبية، مثلاً، فإن الحروب الطويلة، التي خاضها المشرق العربي، وعلى الرغم من نهايتها المظفّرة على يد الفاتح صلاح الدين، كانت فاتحة لعصور وقرون لاحقة من الانحطاط الحضاري.
فلنقل: إن فرضية الجرح النرجسي مدخل محتمل لفهم ما أصاب الإسرائيليين، الذين ناموا يوم السادس من تشرين الأوّل (أكتوبر) على حلم الإمبراطورية، وأفاقوا صبيحة السابع منه على كابوس. ولكن في الطبقات الدنيا للكابوس، على مستوى أبعد وأعمق، ثمة مفارقة لم تنل ما تستحق من تفكير وتدبير، ونفترض أنها لم تغب عن أذهان كثيرين.
المقصود أن خمسة عقود تفصل بين لحظتين حاسمتين من قماشة وجودية واحدة: الأولى يوم تحطيم خط بارليف، واختراقه، على جبهة قناة السويس 1973، والثانية يوم اختراق الحد الفاصل (بلغت تكلفته مليار دولار) مع قطاع غزة 2023 واحتلال قرى تعاونية وبلدات حدودية، وبعمق يصل إلى 25 كم مما تعدون.
المشترك بين اللحظتين: ثقة الإسرائيليين العالية بالنفس في ليلة سبقت السابق، وصدمتهم الوجودية صبيحة يوم لاحق. وعلى الرغم من حقيقة أنهم تمكنوا من شن هجمات مضادة ناجحة في الحرب على جبهة قناة السويس، وما زالوا يشنون هجمات عقابية ساحقة وماحقة على قطاع غزة، إلا أن الفزع الوجودي في الحالتين يفضح مخيّلة مسكونة بسيناريوهات سوداوية تماماً، وفي القلب منها أسئلة قيامية مؤلمة.
وما يعنينا، الآن، أن الكابوس يبدو خاتمة مُشينة لحياة نتنياهو السياسية. فمَن من الشياطين تصوّر نهاية كهذه لشخص اقتحم المشهد السياسي الإسرائيلي منذ أواسط التسعينيات: نجح في إجهاض حل الدولتين، وفي أمركة السياسة والمجتمع الإسرائيليين، ووضع الاثنين على سكة اليمين، وجعل منهما مصدر إلهام لليمين في العالم، ناهيك عن إنشاء علاقات تحالف سياسية وعسكرية سرية وعلنية، غير مسبوقة، مع الإبراهيميين على أطراف العالم العربي، والتنافس مع الأتراك والإيرانيين على مكانة القوّة الإقليمية في الشرق الأوسط.
وما يزيد من سميّة الجرح، وقابليته للالتهاب، وما نجم وينجم عنه من آلام فظيعة، أن الكابوس نفسه كان نتيجة موضوعية لسياسات ورهانات المذكور، وما صنعت يداه على مدار قرابة عقدين، في سياق مشروع طموح استهدف تصفية المسألة الفلسطينية: تحويلها من مسألة سياسية إلى إنسانية، ومن شرق أوسطية وعربية إلى مسألة إسرائيلية داخلية. وفي التحليل الأخير: حسم نتائج الفوز الساحق في العام 1967.
لذا، لا ينبغي استبعاد تداخل الدوافع الشخصية والعامة في كل ما يتصل بالسلوك العملي في الميدان، والسياسي والدعائي في المحافل الدولية. هذا لا يقتصر على نتنياهو، بل ينسحب على رؤوس التحالف الحاكم، وقيادات الأذرع الأمنية والعسكرية. فاللطمة غير المسبوقة وقعت في عهد وولاية هؤلاء. وبالمقارنة مع حروب سبقت، فمن المنتظر تشكيل لجان تحقيق، مع كل ما يتصل بها، وينبثق عنها، من اتهامات متبادلة، وإدانات قد تعني نهاية الحياة العملية والمهنية لعدد من الأشخاص، وعلى رأسهم نتنياهو نفسه.
وبناء عليه: يستحيل فهم «غير المسبوق» سواء تعلّق الأمر بالسلوك في الميدان، أو أروقة السياسة، دون تحليله على خلفية التداخل بين الشخصي والعام. ففي سنوات مضت رجّحت أغلب التحليلات نهاية نتنياهو؛ بعد اتهامات موثّقة بارتكاب أكثر من مخالفة وجريمة. ومع ذلك، نجح في تفادي السجن، ولم يتمكن من البقاء طافياً وحسب، بل وعاد إلى سدة الحكم، أيضاً، ونجح في تحويل النظام السياسي نفسه إلى ما يشبه رهينة بين يديه.
والواقع أن محاولة تعديل النظام القضائي، وسنّ تشريعات تمكنه من الإفلات من المحاكمة، تشحب تماماً إذا ما قورنت برهاناته ومغامرته الكبرى في الحرب. فهذه آخر، وأخطر، حروبه، ومصير ما تبقى له من أيام في الحقل السياسي، أو خارج السجن، مرهون بما قد يحقق، أو لا يحقق، من نتائج ملموسة في الميدان.
لا معنى، إذاً، لـ»غير المسبوق» في الميدان، إلا من خلال علاقته بما تداخل من الشخصي بالعام، وآخر حروب نتنياهو ورهاناته الشخصية. لم نجب بعد عن أسئلة وثيقة الصلة بأهداف الحرب. لذا، يمكن التعامل مع ما تقدّم كتمهيد لمعالجة لاحقة. فاصل ونواصل.