شهران ونصف مرا على شن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما زال حديث وقفها بعيد المنال، أو أنه ليس في المدى المنظور، أي ليس في مدى الأيام القادمة، ربما يكون في مدى أشهر أو أسابيع، وذلك وفقاً للتطورات المرافقة للحرب، أكثر منها وفقاً للتطورات العسكرية الميدانية، وذلك بعد أن ظهرت حقائق عديدة خلال هذه الحرب حتى الآن، بعضها كشف حقيقة إسرائيل الكامنة والكاملة، بشكل أوضح للفلسطينيين جميعاً، وبشكل ربما مفاجئ أو صادم للعالم أجمع، وإذا كانت الحرب قد كشفت من ضمن ما كشفته هشاشة الجندي الإسرائيلي، بل ومجمل القوة العسكرية الإسرائيلية، التي كان متوقعا وفق ما اعتادت ترويجه، ووفق لغة الأرقام، التي تقول بتفوق كاسح من حيث العدد والعدة لصالحها، كان متوقعا أن تقوم بسحق قوة غزة العسكرية خلال أيام قليلة، ولعل ما كان يقول به الرئيس الأميركي وإدارته من منح إسرائيل أسابيع لإنهاء أهدافها العسكرية، التي لا يختلفان عليها، بعكس الأهداف السياسية، التي يوجد خلاف معلن حولها، وذلك ضمن مقولة ماذا بعد انتهاء الحرب، وماذا عن غزة بعد حماس، ما يؤكد ذلك.
بعد شهرين ونصف مع كل ما ألقته إسرائيل من أطنان المتفجرات، ومن الزج بأكثر من 20 لواء عسكريا، أي ما يعادل نصف جيشها، في الحرب، لم تحقق إسرائيل أهدافها العسكرية، لا بتدمير الأنفاق، أو حتى الوصول إليها ولا بتحرير الرهائن، ولا في الوصول إلى قيادة حماس العسكرية، ولا حتى السياسية، بجانب الأعداد المرتفعة للقتلى والجرحى من الجنود الإسرائيليين، أما تعداد الخسائر في الآليات فحدث ولا حرج، وكل هذا يظهر بأن قوة إسرائيل العسكرية دون قوتها النووية بالطبع، ما هي إلا نمر من ورق، ولا يمكنها بذلك أن تحلم باحتلال دول أخرى أو بإلحاق الهزيمة بأي دولة في الشرق الأوسط، لا إيران ولا سورية، ولا حتى لبنان ولا اليمن، فهي تواجه غزة فقط، وما زالت بعد مرور كل هذا الوقت، تراوح مكانها، وتحتاج إلى الجسر الجوي العسكري الأميركي، والى الدعم والتغطية السياسية الأميركية، فماذا كان سيكون حالها لو أنها واجهت الجبهات المتعددة دفعة واحدة، كما كانت تقديراتها الأمنية تقول منذ فترة؟ من المؤكد بأن النتيجة حينها لن تكون فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية وحسب، بل سيكون من الصعب عليها أن تحتفظ باحتلالها أولا، ثم أن تدافع عن حدودها ثانياً.
كشفت الحرب إذاً حقيقة إسرائيل العسكرية الواهنة، والتي كانت قد ظهرت بعجزها قبل أكثر من ربع قرن، حين واجه جيشها المدجج بكل أنواع الأسلحة والعتاد، شبانا يقذفونه بالحجارة فقط، وكشفت الحرب جوهر إسرائيل الإجرامي، حيث لم تتردد في ارتكاب جرائم الحرب علناً، أمام أنظار كل العالم، وبشكل موثق، لأنها لا تقيم وزناً ولا بثقل غرام واحد، للمحاكم الدولية، فهي ارتكبت مئات المجازر بحق المدنيين وبشكل متعمد، كانت تقصف الأبراج والمنازل، وحيث يأوي النازحون في المدارس والمساجد والمستشفيات والكنائس، وقصفت دور العبادة والمدارس والمستشفيات، وقتلت الصحافيين والمسعفين، وموظفي المؤسسات الدولية، وخلال شهرين ونصف أوقعت نحو 4% من عدد سكان غزة ما بين شهيد وجريح، أي ما يعادل 13،5 مليون من سكان الولايات المتحدة، أو ما يعادل 58 مليون صيني، وما يعادل 400 ألف مواطن من سكانها، وهذا الرقم لا توقعه سوى القنابل النووية، وفعلاً ألقت إسرائيل ما يعادل 4 أو 5 قنابل نووية على قطاع غزة.
وكشفت الحرب أيضاً، عبر مستويين شعبي ورسمي على صعيد العالم، عزلة إسرائيل، وأنها دون الحماية الأميركية لن تصمد كدولة احتلال، ولن تبقى بطبيعتها العنصرية يوماً واحداً، فقد جابت التظاهرات وردود الفعل المنددة بالجرائم الإسرائيلية والتي تطالب بوقف حربها المجرمة مدن العالم بأسره، كما صارت تلك الحرب البند الرئيسي على طاولة كل الاجتماعات الدولية والإقليمية، ومن أجلها عقد مجلس الأمن ثلاث أو أربع جلسات، وعقدت الجمعية العامة جلستين، تكفي الإشارة إلى أن جلسة مجلس الأمن الأخيرة التي طالب خلالها مشروع القرار الذي أحبطته أميركا بوقف النار، لكن الجلسة خرجت بتصويت 13 عضوا من أصل 15 لصالح القرار، فيما امتنعت بريطانيا عن التصويت، ووحدها صوتت أميركا مستخدمة حق النقض الفيتو ضد مشروع القرار.
أما في الجمعية العامة، فقد صوتت 153 دولة لصالح قرار وقف الحرب الإسرائيلية الإجرامية على قطاع غزة، مقابل عشر دول فقط صوتت ضده، كانت أميركا بالطبع مع إسرائيل وبضع دول مجهرية لا وزن سكانياً ولا سياسياً لها على الخارطة الدولية، أظهرت الأمم المتحدة بأن إسرائيل دولة مارقة تماما، وأنها منشقة على المجتمع الدولي، وهي التي منذ أنشئت لم تنفذ قرارات الشرعية الدولية، ودولة هي بهذه المواصفات، لن تستطيع مواصلة ذلك، ليس بقوة الحق الفلسطيني ولا بقوة المقاومة، بغض النظر عن طبيعتها إن كانت مسلحة أو شعبية سلمية، وحسب، بل لأن المجتمع الدولي حين يتخلص مما بقي فيه من تحكم أميركي ينافق في السياسة الدولية ولا يكيل بمكيال واحد، فإن إسرائيل ستجد العالم كله يضع حداً لاحتلالها أولاً، ولعنصريتها ثانياً، ولطبيعتها كدولة يهودية متطرفة ثالثاً.
كذلك كشفت الحرب مستوى التوافق الأميركي مع إسرائيل، ومكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة، وإن كانت أظهرت معارضة داخلية لمشاركة إدارة بايدن في إدارة الحرب، حتى وصلت إلى بعض موظفي الخارجية والبيت الأبيض، إلا أن استمرار واشنطن في تغطية الحرب الإسرائيلية، ومواجهة المطالبة العالمية الكاسحة بوقف الحرب، وإدانة الإجرام الذي ترتكبه إسرائيل، يعني بأن أميركا ما زالت مسكونة بجذر استعماري يحكم سياستها الخارجية، ويهدف لاستمرار فرض سيطرة واشنطن على العالم بالقوة، ورغم تباين الموقف السياسي المعلن في الآونة الأخيرة عن الموقف العسكري، فإن استمرار واشنطن بتقديم الدعم العسكري، وعدم خروج معارضتها للعنف الإسرائيلي الكاسح بحق المدنيين، لا يعدو كونه كلاماً، لذا لم يتراجع نتنياهو ومجلس الحرب الإسرائيلي قيد أنملة، حتى حين طالبه بايدن بإحداث تغيير في حكومته، عشية إرسال من سمي برجل الضغط على إسرائيل، أي جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي عاد من حيث أتى دون أن يغير من واقع الحال الإسرائيلي ولا حتى من باب الكلام شيئا، حيث يصر نتنياهو على أن يعلن مواقفه المتزمتة والمتشددة.
نقصد بذلك ما يخص أهداف الحرب السياسية، وكما هو معروف فإن نتنياهو قد شجع طوال فترة حكمه الطويلة وجود الانقسام الفلسطيني الداخلي، لكن حين رفع شعار سحق حماس بتدمير قوتها العسكرية وإسقاط نظام حكمها في قطاع غزة، واجه السؤال: ماذا بعد ذلك، ليعلن بكل وضوح، بأن ليس الحرب فقط ستستمر أشهراً وربما سنوات، بل أنه أعلن هدفه بوضوح وهو إفراغ غزة من سكانها، ليصبح حينها ضمها لإسرائيل ممكناً، وبسيطاً وسهلاً للغاية، وبالطبع فإن إسرائيل بطموح القوة العسكرية والاقتصادية، باتت تسعى بقوة لأن تكون الدولة الأهم في الشرق الأوسط، وهي بحاجة إلى توسع جغرافي، يبدأ أولاً بهضم ما تبقى من أرض فلسطينية، أي الضفة والقطاع، قبل محاولة التوسع على حساب سيناء مجدداً وربما الأردن أيضاً، والحرب كشفت بوضوح ما كان مخبأ في نفوس الإسرائيليين، فمنهم من أعلن بصراحة عن ضرورة استخدام القنابل النووية، التي يشير لها بعضهم بسلاح يوم القيامة، ومنهم من عاد للحديث عن أهمية سيناء الإستراتيجية لإسرائيل.
ومن ضمن ما كشفت عنه الحرب بكل صراحة إعلان نتنياهو، وليس بن غفير ولا سموتريتش فقط، عن رفض حل الدولتين، ولا عن أنه يستهدف «حماس» وحسب، فقال صراحة بأنه لن يكرر خطأ أوسلو، وهذا اعتراف على الأميركيين أن يهتموا به جيدا، ليتأكدوا من الذي أفشل الحل السياسي، وهو نفسه الذي كان دائماً يقول بأن ليس هناك شريك للسلام، ها هو يعتبر أوسلو خطأ، وليس في رأسه شيء اسمه حل الدولتين لا الآن ولا في المستقبل، وأن الكل الفلسطيني مرفوض وجوده، لا حماسستان ولا فتحستان، وهكذا فإن الإصرار على قطع الماء والدواء والغذاء، وارتكاب المجازر بقصد، كله بهدف طرد الفلسطينيين من وطنهم، ليسهل ضمه، وهكذا كل ما كان يقال في الماضي عن حلول سياسية، لم يكن إلا من أجل الوصول بنجاح إلى هذه الصورة التي باتت عليها إسرائيل.