انهيار المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، كيف ولماذا؟ عبد الغني سلامة

الأربعاء 13 ديسمبر 2023 10:51 ص / بتوقيت القدس +2GMT
انهيار المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، كيف ولماذا؟ عبد الغني سلامة



كان غانتس، وهو من زعماء المعارضة الإسرائيلية أول من نبه إلى خطورة السياسات التي تتبناها حكومة نتنياهو، والتي ستقود إلى كارثة أمنية، ومن المرجح أنه نقل تخوفاته تلك إلى الإدارة الأميركية، وإلى الرئيس بايدن، الذي التقاه عدة مرات قبل الحرب.. وهذا يفسر سرعة الاستجابة الأميركية بتحويل 8 مليارات دولار إلى إسرائيل فوراً، والتحرك السريع لنقل حاملة الطائرات الأميركية «فورد» إلى شواطئ شرق المتوسط، بكامل عتادها وجبروتها.. ويفسر أيضاً طبيعة الأهداف الأميركية، والتغييرات التي ستجريها في خارطة الشرق الأوسط، والتي ستشمل تغييرات عميقة في إسرائيل، بعد أن أدركت الإدارة الأميركية أن سيطرة اليمين الديني على المشهد الإسرائيلي وسياسات نتنياهو المتغطرسة ستقود إسرائيل نحو الهاوية.
وأبرز ملامح الكارثة التي لحقت بإسرائيل تمثلت بالانهيار المروّع والمفاجئ للمؤسسة الأمنية والعسكرية، حيث نجحت مجموعات من كتائب القسام في اجتياح المستوطنات ومقرات الجيش والشرطة، وقتل وأسر المئات وتدمير دبابات والاستيلاء على تجهيزات ومعدات، في عملية نادرة جعلت سمعة وصورة إسرائيل في الحضيض.
وكانت عملية أخرى قد سبقت «يوم العبور الفلسطيني»، كشفت مدى ترهل الجيش، حيث دخل شرطي مصري الأراضي الفلسطينية في حزيران، وقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وقضى ساعاتٍ دون أن ينتبه الجيش لمقتل جنوده أو حتى لوجود مهاجم، في مؤشّر فاضح على خلل كبير بدأ يظهر في المؤسستين الأمنية والعسكرية.
نأتي إلى سلسلة الأخطاء الأمنية، والتي أشار إليها الكاتب أحمد عزم في مقالته المعنونة «ست محطات أساسية، قادت إلى الفشل الإسرائيلي» والتي يمكن تلخيصها بأنها جاءت نتاج سيطرة اليمين الديني على الحكومة الإسرائيلية، حيث أعاد نتنياهو هيكلة الأمن والدّفاع بشكل غريب تبين أنه فاشل، فمثلاً، صار لوزارة الدفاع وزيران: غالانت، وسموتريتش، والأخير تولى أيضاً وزارة المالية، وهو دون خبرة أمنية.
بالإضافة لتعيين بن غفير وزيراً للأمن القومي، الذي بدأ بتشكيل ميليشيات مسلحة منفصلة عن الجيش، وهو أيضاً بلا خبرة أمنية أو عسكرية، وقد حذّر غانتس وغيره من قيادة المعارضة الإسرائيلية من خطورة ما يحدُث، أي من تفكيك الأمن إلى أجزاء، وإنشاء جيش خاص لبن غفير، وأنّ ذلك سيؤدّي إلى خطر أمني.
وبالفعل، بدأت الخلافات داخل الجيش، وبين الوزراء المكلّفين بالأمن، وبات للأمن القومي رؤوس متعدّدة متصارعة.
وأيضاً بسبب سيطرة اليمين الديني على المشهد الإسرائيلي شرع نتنياهو بإصلاحات قانونية بهدف تقليص صلاحيات القضاء في مراقبة الحكومة، وفي محاسبة السياسيين، ومنح الوزراء صلاحيات اتخاذ قرارات بشأن زيادة الاستيطان، وهو ما تسبب باندلاع موجات احتجاج كبيرة في إسرائيل، تضمّنت دخول ضبّاط من الجيش للاحتجاجات وامتناع كثيرين منهم عن الخدمة العسكرية، بمن فيهم ضباط من سلاح الجو.
ونتيجة انقسام الشارع الإسرائيلي وعدم التوافق بين قيادات الأمن واستنزاف قدرات الجيش في حماية المستوطنين وعنفهم في الضفة الغربية، تراجعت معنويات الجنود، وأصيب الجيش بالترهل.
ومثل مؤسسة أمنية كهذه كان متوقعاً لها ابتلاع الطعم بأن حماس ستكتفي ببعض التسهيلات المالية، وأنها غير قادرة وغير راغبة في خوض مواجهة مع إسرائيل، وأنها تعلمت من دروس الحروب السابقة، وأن أقصى ما يمكن لها فعله هو تمويل ودعم مجموعات مسلحة في الضفة الغربية، لذلك استرخت إسرائيل في الجبهة الجنوبية، ونقلت ثقلها الأمني والعسكري إلى الضفة.
معرفة كل ما سبق لا تحتاج إلى مجهودات استخباراتية معقدة، كان يكفي أي باحث ومتخصص في الشأن الإسرائيلي قراءة المشهد، وهو معلن ومكشوف، والوصول إلى الاستنتاجات الصحيحة.. وهذا لا يقلل من أهمية العمليات الاستخباراتية والسبرانية التي تولاها كل من إيران وحزب الله.
وقد اختارت حماس موعد الهجوم ليأتي في يوم عطلة ترافق مع عيد العرش، حيث الجميع في حالة استرخاء وسبات.. ما لم يكن يحدث في أوقات سابقة خاصة بعد درس حرب أكتوبر 1973، فالنظام الأمني لا يعتمد فقط على العنصر البشري ويقظة الجنود، فهنالك كاميرات ومستشعرات وأسوار إلكترونية وتكنولوجيا أنفقت عليها إسرائيل مليارات الدولارات. فكيف نجح المقاتلون في تجاوزها؟ هذا لغز ربما يظل غامضاً.
بعيداً عن نظريات المؤامرة والاستدراج وفرضيات الاختراق وتواطؤ جهات ما من الداخل، يبقى العامل الأهم، وهو أن للإرادة الوطنية قوة تفوق التكنولوجيا وتصهر الحديد.
والتفسير الأقرب للمنطق أن الجيش يعاني من الترهل منذ فترة، وقد أُخذ على حين غرة.
وفيما بعد ظهرت تقارير عديدة نشرتها «نيويورك تايمز»، و»هآرتس» وغيرهما.. جاء فيها أن القيادات الأمنية والسياسية الإسرائيلية أخفقت في توقّع هجوم حماس، وتوصلت إلى أن القيادات العسكرية والأمنية كانت تحاول خلال شهور إنذار نتنياهو بأن الأزمة السياسية التي خلقها تُضعف إسرائيل، وتخلق قيوداً كبيرة عليها، وتُطمع فيها الأعداء، غير أن نتنياهو استمر في المكابرة، وظل مصراً على أن إيران وحزب الله، يمثلان أخطر تهديد لإسرائيل، ما أدى إلى تحويل الاهتمام والموارد بعيداً عن مواجهة حماس.
لماذا أصيب الجيش بالترهل؟ ببساطة لأن إسرائيل أخذتها العزة بالإثم، وأصيبت بالغرور، وتوهمت أنها قادرة على تجاهل الفلسطينيين، وأنها تمكنت من كيّ وعيهم وتدجينهم، وأنها قادرة على حبسهم في زنزانة للأبد، وحين تتجاهل إسرائيل المتغطرسة وجود الشعب الفلسطيني، ستتجاهل حقوقه الوطنية، وتطلعاته للحرية، وستتجاهل أيضاً إمكانياته وقدراته وتحركاته.  
فأثناء ذلك، كان الجناح العسكري لحماس يعمل بصمت، ويجري تدريبات على مرأى الجميع، الذين ظنوا أنها مجرد استعراضات.
وأثناء ذلك كانت تظهر المجموعات المسلحة في الضفة الغربية، وكان يخرج فدائي بمفرده من حين لآخر، وظلت أعمال المقاومة بأشكالها كافة مستمرة، وفي تطور.. وإسرائيل تتعامل معها بمنطق البطش والغطرسة، ولم تحاول فهم معنى ذلك كله وأبعاده.. لذلك كانت صدمتها عنيفة حين ثار بركان الغضب في وجهها.
مشكلة إسرائيل أنها تحاول إفهام العالم أن مشكلتها مع حماس فقط.. عليها أن تدرك قبل غيرها أن مشكلتها الحقيقية والكبرى مع الشعب الفلسطيني بأكمله.. وأن ضرباتها الموجعة إنما تزيد الفلسطينيين قوة وصلابة، فمهما فعلت في حماس، ومهما دمرت في غزة لن تنعم بالأمن، وستظل في حالة حرب وخوف، ولن يتحقق أي سلام في المنطقة حتى يندحر الاحتلال.