دخلت الحرب على غزة يومها السادس والستين، وما يزال الحسم العسكري سيد الموقف، بعيداً عن أي خطة سياسية بديلة للحرب. وما زالت دولة العدوان تحظى بغطاء سياسي وبدعم عسكري ومالي وإعلامي أميركي، هدفه حسم المعركة وتحقيق أهدافها. بعد الفيتو الأميركي على مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو الى وقف فوري لإطلاق النار، يتوزع الموقف الدولي بين موقف داعم للعدوان بشكل سافر، وبين الموقف الداعي الى وقف الحرب لكنه يعجز عن فرض احترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي. ولم تستطع الحراكات الشعبية العالمية في طول وعرض العالم من فرض وقف الحرب على الحكومات، بل تعرض المناهضون للحرب لعقوبات ومضايقات أثرت سلبا على احتجاجاتهم ومعارضتهم في العديد من البلدان، وبخاصة على الحركة المعارضة للحرب في الجامعات الاميركية. في الوقت الذي خفتت فيه الاحتجاجات الشعبية العربية، وتكرس حدود إسناد غزة من لبنان واليمن والعراق وسورية، الى المستوى الذي لا يؤثر نوعيا على مسار حرب الإبادة في غزة.
في غياب خطة سياسية، أو تدخل سياسي هدفه وقف الحرب وايجاد حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وما يتطلبه ذلك من وضع قضية الاحتلال الإسرائيلي للاراضي الفلسطينية المولدة للانفجارات على الطاولة، عوضا عن ذلك يتم التجديد لآلة الحرب الإسرائيلية ومنحها المزيد من الوقت والغطاء السياسي للمضي في تدمير قطاع غزة مجتمعا وأرضا ومؤسسات. ويبدو ان تحديد وقت زمني للحرب بنهاية عام 2023 ينطوي على أشكال من التمديد، وهذا لا يعني التراجع عن الحرب، بل يحتمل استمرارها بوتائر أقل حدة لطالما بقي هدفها قائماً، وهو إزالة ما يسمى بالتهديد الأمني لمدن وكيبوتسات غلاف غزة وإزالة تهديد العمق الإسرائيلي بصواريخ المقاومة، وإسقاط حكم حماس في قطاع غزة. طالما بقي هذا الهدف قائماً من قبل دولة الاحتلال ومؤيداً من قبل إدارة بايدن ودول الغرب، فإن الحرب ستتواصل بشكل او بآخر مع نهاية العام وفي أوقات أخرى.
ليس من مصلحة الشعب الفلسطيني عموماً والمجتمع في قطاع غزة على نحو خاص استمرار آلة العدوان في تدمير المدن والبلدات ومخيمات القطاع وارتكابها للمجازر بحق المواطنين وتهجيرهم من الشمال الى الجنوب وتركيزهم في بقعة جغرافية صغيرة على الحدود المصرية الفلسطينية. ليس من مصلحة الشعب الفلسطيني الاستمرار في تدمير البنية التحتية – كهرباء وماء ووقود وطرق – وتدمير مقومات العيش – منازل ومستشفيات ومدارس ومؤسسات ومزارع وأسواق ومعامل وورشات عمل وأفران-. ان من شأن ذلك تقويض مقومات الحياة المجتمعية وانهيار المجتمع عملياً، ووضع أساس مادي قوي للتهجير قسراً او طوعاً خارج القطاع. تحقيق التهجير أو مستويات منه يعد من أخطر الأهداف والنتائج التي ينبغي منعه وقطع الطريق عليه. من خلال وقف القتل والتدمير اي وقف الحرب.
في مسألة وقف الحرب تتباين التقديرات، فهناك من يعتقد أن وقف الحرب والتراجع عن أهدافها يكون عبر فشل آلة الحرب الإسرائيلية في فرض سيطرة عسكرية فوق وتحت الأرض من خلال صمود المقاومة وايقاعها للخسائر الفادحة في صفوف المعتدين. يتعزز هذا الاعتقاد بمقولة أن المجتمع الاسرائيلي يحرص على انقاذ الأسرى الاسرائيليين الموجودين في حوزة المقاومة، وعلى تفادي المزيد من القتلى والجرحى في صفوف الجنود الإسرائيليين، وتفادي الخسائر الاقتصادية الكبيرة. ويرى أصحاب هذا الرأي ان صمود المقاومة وما تلحقه من خسائر في صفوف المعتدين سيحفز جبهة المجتمعات المناهضة للحرب على ممارسة الضغوط على أصحاب القرار في بلدانها وبخاصة على القرار الأميركي. بيد أن أصحاب هذا الافتراض يتجاهلون واقع أن نسبة الدمار والخسائر التي تلحق بالمواطنين وبالمقاومة في شروط الحصار والتحكم الإسرائيلي في المقومات، هي أضعاف الخسائر التي تلحق بالجنود الإسرائيليين، وأن قدرة الإسرائيليين على تحمل الخسائر الاقتصادية لا تقارن بقدرة الفلسطينيين الذين يتعرضون لخنق مالي إسرائيلي ولحصار مالي دولي وحصار ضاغط من ذوي القربى ايضا. وما يهم أكثر هو قطع الطريق على التهجير وعلى انهيار المجتمع الذي بدأ يفقد مقومات تماسكه مع كل يوم حرب. المخرج يكون بوقف الحرب في أسرع وقت ممكن، وقف أي قتل وأي تدمير إضافيين. وقطع الطريق على مخطط اقتطاع أراض فلسطينية حدودية محاذية لغلاف غزة وإقامة شريط حدودي على أنقاض أجزاء من شمال غزة بدواع أمنية وكي لا يتكرر «طوفان 7 أكتوبر».
ربما، نتفق فلسطينياً بأننا لا نريد لهذه الحرب أن تستمر، ولا أن يستمر دفع الثمن من دماء اطفال وكل ابناء المجتمع، ولا نريد لحرب تصفية الشبان المقاومين ومشاريع المقاومين في الضفة الغربية والقدس ان تستمر. من المنطقي عندما لا ينجح أسلوب نضالي، ان يتم الانتقال الى أسلوب آخر أوفر حظا، وهذا هو ديدن التحرر الفلسطيني وكل نضال تحرري خاضته الشعوب. خاضت الحركة الوطنية كفاحاً مسلحاً منذ العام 65 وحتى 82 ووصل الى طريق مسدود بعد إغلاق كل الحدود المحيطة بفلسطين أمام المقاومة، وخاض الشعب الفلسطيني بقيادة المنظمة نضالاً سلمياً منذ العام 87 وحتى العام 94، وانتقلت المنظمة الى التفاوض والحلول السياسية منذ العام 94 وحتى عام 2000، وبعدئذ عادت الحركة السياسية الى الانتفاضة المسلحة التي أخفقت. وذهبت مرة أخرى -المنظمة والسلطة- الى التفاوض، وعادت من المفاوضات بخفّي حنين، والبعض الآخر (حماس والجهاد) اختار المواجهة العسكرية مع دولة الاحتلال من موقعه في قطاع غزة، وتعرض لأربع حروب دمر المعتدون خلالها البنية التحتية وفرضوا حصاراً محكماً، ثم حدث «الطوفان» وما أعقبه من حرب إبادة ما تزال فصولها مستمرة. واذا كان من السابق لأوانه تقييم الحرب إلا أن حروب المواجهة في شروط غير متكافئة ومختلة بشكل فادح لم تكن لمصلحة الشعب الفلسطيني في كل المرات بما في ذلك في حرب «الطوفان». ويبقى سؤال كيف نخرج من حرب الابادة سالمين، وبأقل الخسائر الممكنة. لحسن الحظ ان حرب «الطوفان»، أحدثت صدمة في أنحاء العالم، وأكدت ان تجاهل واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتجاهل السيطرة على الشعب الفلسطيني من خلال نظام أبارتهايد استعماري. كانت تلك أخطاء فادحة مسكوتاً عنها، أدت الى الانفجار، وقبل ذلك أدت الى تحويل المجتمع الفلسطيني من خيار تأييد الحل السياسي، الى خيار المقاومة بصرف النظر عن النتائج. بعد «الطوفان» بدأ العالم يدرك ان القضية الفلسطينية بدون حل تقود الى تفجير الصراع وتهدد الاستقرار. وبدأت تتولد قناعة بأن إنهاء الاحتلال وإنهاء السيطرة على الشعب الفلسطيني ضرورة تتقاطع منافعها مع معظم أقطاب الصراع. وبهذا المعنى قدم «الطوفان» فرصة أمام النظام الدولي والإقليمي لإنهاء الاحتلال. تلك الفرصة الافتراضية التي يمكن ان تتحول الى فرصة إجرائية بوقف الحرب ووقف تدمير قطاع غزة ووقف عمليات تصفية الشبان في الضفة الغربية. ولا شك أنه بإزالة الاحتلال يزول التهديد ويتحقق الأمن للجميع. لن يأتي ذلك إلا عبر مبادرة فلسطينية مدعومة عربياً ودولياً.