1- بادرة هندسيّة:
ثمّة نظريّات في الهندسة تُعرف بالنظريّات غير الإقليديّة(Euclidean Geometry)، أي تلك التي لا تتّفق مع مسلّماتنا البشريّة المعهودة: (كأنْ يُقال: إنّ المستقيمَ ليس أقصرَ الطرق بين نقطتين). وثمّة نظريّاتٌ دعائيّة وسياسيّة وعسكريّة، لا مُشاحّة إنْ قلنا: إنّها غير إقليديّة؛ كتلك التي ترى أنّ العرب، مجتمعين، لا يستطيعون تحرير فلسطين؛ كونَ صمود حماس أمام الكيان الصّهيونيّ من الهندسة الإقليديّة البدائيّة، وكونَ الجيوش العربيّة تخضع لفرضيّات سياسيّة ملتوية، ويقوم عليها قادة غير تقليديّين، لا يؤمنون بالمسلّمات، ولا يقيمون وزناً للمبادئ الفطريّة البسيطة…
وحتّى لا تُوصف، أيّها العربيّ أينما كنتَ، بالمتخلّف الرجعيّ(retrospective)، ولكي تُوصفَ بدلاً من ذلك بالمثقّف المستقبليّ(articulative)، عليك أن تقتدي بمَن يتعالى على الإقليديّة، ويدور حول المواقف، ويسلك لذلك بلاغةً تُطنب موقفها بآلاف الكلمات ، تجنُّباً للخطّ الواصل بين نقطتين: (حماس الحقّ)، ويختارَ عوضاً عن ذلك نظرية: أنّ المحتلّ والمحتلّ متساويان شكلاً ومعنًى. فكما تقول سوزان سونتاج(Susan Sontag): ” يمكن للمرء أن يكون جدّياّ بخصوص ما هو تافه وسخيف، ويمكن أن يكون سخيفاً وتافهاً بخصوص ما هو جديّ”.
2- الخطاب المدنيّ وصناعة الرّاديكاليّة- خيانة المسؤوليّة:
كان قادة تنظيم الدّولة الإسلاميّة(ISIS)، بل عناصرها من الصّفّ الثاني والثالث، حين يُسألون عن سبب اهتمامهم بالنّشء من دون الكبار والشّيوخ، يجيبون: إنّ المستقبل أمام أولئك، والموت أمام هؤلاء؛ فهم لا يريدون أن يشغلوا بالهم ويصرفوا من جهدهم لأجيال لم يعد يعنيها إعادة التّفكير بالمستقبل الذي بات معظمه خلف ظهورهم… فكم هو جميل لو أنّ صنّاع الخطاب العربيّ التّنويريّ استضاؤوا بهذه الاستراتيجيّة، وتنبّوا إلى ضرورة صناعة فكر مدنيّ يستقطب النشء العربيّ، في منطقة تُعدّ الأعلى معدّلَ ولاداتٍ وجيلٍ ناشئ.
فكم هي المؤتمرات التي تُعقد والندوات التي تُجرى، حول أسباب ميل الشباب العربيّ نحو الأصوليّة والتّطرّف…؟
تكثر الإجابات وتتنوّع؛ غير أنّ واقع الحال والأيام والتجارب ” يأتيك بما لم تزوّدِ”، على قول شاعر عربيّ قبل أكثر من ألف عام ويزيد. فمعاينة الحال أفضل وأيسر وأسهل وأصدق من التّنظيرات المستقبليّة؛ وعليه، لا شكّ من أنّه ثمّة أكثر من سبب، كانعدام الديمقراطيّة، وتراجع مستوى التّعليم، والفقر، والافتقار إلى مقوّمات نهضة اقتصاديّة ومدنيّة صحيحة، ثمّ خطاب الأصوليّة وقوّة صوته.
لكنّ السّبب الأهمّ والأخطر والأكثر تأثيراً – وهو متّصل بالسّبب الأخير آنفاً- هو خطاب المثقّف العربيّ الليبراليّ، وما وراءه من مؤسّسات تنويريّة مدنيّة معتدلة، وأصوات الإعلاميّة وثقافيّة داعمة…؟!
فحين تجد شاشاتِ التلفزة ووسائلَ الإعلام مشغولةً بمناظر الدّمار في مدينة محتلّة مثل غزّة، وصورِ أشلاء الضّحايا من الأطفال وغيرهم، فتقشعرّ لها الكاميراتُ وترتجف من هول قساوة المشهد؛ وتحاولَ أنّ تموّه على فظاعة المنظر، ثمّ يخرج مَن يعقّب على تلك المشاهد: بأنّها نتيجة طيش حماس وأخواتها من الفصائل الإسلاميّة العربيّة المقاومة، وأنّها هي التي أجبرت الكيان الصّهيونيّ المحتلّ على هذا الفعل…
حينها لن يكون هناك أمام الشباب العربيّ الذي تغلي فيه دماء الغيرة والنخوة إلّا أن ينتصر للمشاهد الحيّة المُميتة، لا للخطاب الميّت الذي لا يعرف الحياء؛ سيبحث عن خطاب الحياة الكريمة والمواقف المشرّفة، سينتصر لكلمات تليق بحرارة دمائه، وسيأنف من تلك الكلمات الباردة التي تنكص عن حرارة جراح الضحايا وآلامهم.
هذه هي التي وصفها جوليان بندا(Julien Benda)، ثمّ تبنّاها بعد تعديلها إدوارد سعيد، تحت مسمّى(خيانة المثقّفين)، التي يقع فيها المثقّف التنويريّ، حين تفقد بلاغتُه لباقتَها، فلا تعرف كيف تميز بين مقامي الحرب والسلم، اللذين تجمعهما بمقال ثقافيّ عييّ واحد. وهذا ديدنها من السّقوط البلاغيّ والأخلاقيّ والتّنويريّ في كلّ الأزمات والملمّات العربيّة.
فإذا أرادت حركة التّنوير العربيّ، ذات الطّابع المدنيّ، أن يكون طابعُها وصوتُها وثقافتُها هي ثقافةَ الأجيال، وأن تقطع الطريق على الخطاب الأصوليّ، إسلاميّاً كان أو قوميّاً، فعليها أنّ تتحمّل مسؤوليّاتها تجاه قضاياه وأن تسابق الأصوليّة إلى ميادين الكرامة والحقّ. وإلّا فلا يلومنّ المقصّر خصمه على عدم تقصيره؛ فتلك خيانة ممزوجة بالوقاحة؛ “فإدارة الظهر للممارسات العمليّة ينتج هلوسات نظريّة” كما يقول فيلسوف ليبراليّ أمريكيّ.