منذ أكثر من شهرين ودم الناس في غزة يسيل أنهاراً في الشوارع، منذ شهرين ولحم الغزيين يتناثر على الأسوار وفوق الأسطح ويتطاير في السماء وتحت الركام، منذ شهرين ونحن نناشد بصدمة المحروق من يوقف هذا الموت المتوحش بلا رحمة، منذ شهرين ونحن ننتقد العرب والمسلمين والعجم والأوروبيين وحقوق الإنسان ومجلس الأمن والأمم المتحدة والمنظمات الدولية وجمعيات الرفق بالحيوان حتى لينتهي الأمر بقرار أميركي يستكمل حفلة الموت الأكثر سواداً.
منذ شهرين والغزيون يهيمون في الشوارع بلا مياه ولا ملابس يغيرون فيها ما يرتدونه من أسمال اهترأت، ولا بيوت ولا طعام ولا ماء ولا أمان تحت سماء تلاحق عروبتهم وهويتهم بلا تمييز.
يهربون من موت إلى موت ومن شارع قصفته الطائرات لشارع ينتظر الدمار القادم، يسيرون بين القصف وهم ينفضون غبار الصواريخ عن وجوههم ويتساءلون كيف ننجو من الحياة أو كيف نموت دفعة واحدة.
الآن نحن أمام الحقيقة وهي أن العالم لن ينقذ هذا الشعب، ولا العرب قادرون على أن يكونوا طرفاً فاعلاً في السياسة حتى حين يتعلق الأمر بشعب عربي يذبح أمام أعينهم.
فقد انكمشوا في هذه الحرب وعادوا إلى حجمهم بعد قليل من التفاؤل لأكثر من عام وتحولات دولية وفرت لهم من الممكنات ما لم توفره أي مرحلة سابقة.
لكن يبدو أن ممارسة السياسة باحتراف ومسؤولية تحتاج إلى وعي وتجربة لم ينضجا بعد في المنطقة العربية.
ماذا يعني أن يكتشف أصحاب القرار من الفلسطينيين أن العالم ظالم ؟ الاكتشاف المتأخر الآن بحد ذاته كارثة خاصة إذا ما يتم اتخاذ القرار دون معرفة ذلك، ماذا يعني أن يكتشف الفلسطيني أن العالم يكيل بمكيالين ؟ ماذا يعني أن يكتشف الآن أن العالم مزدوج المعايير ويتخذ موقفه وفقاً للون والعرق والجنس ؟ وماذا يعني أن يستمر الفلسطيني بشتم العالم ؟ هل يوقف نزيف الدم أم يراهن على صوته المبحوح أن يُحدث إفاقة يمكنها أن تعدل ميزان العدالة شديد الاعوجاج ؟
بعد هذا الاكتشاف هل تقتضي هنا إدارة السياسة أن يستمر هذا التشخيص المؤذي واعتقاد أن علاجه والحل الأمثل هو انتقاده، أم الانتقال إلى فهم هذا العالم واشتقاق سياسة من هذا الفهم الدقيق لتركيبة السياسة وتوازناتها، ويتطلب اشتقاق السياسة من هذا التوازن المائل ومعرفة كيف تتحرك في سراديبها المعقدة والنجاة من أفخاخها وظلمها، لأن أي خطأ حينها سيكون قاتلاً إذا ما عبر عن جهل بواقع السياسة في العالم أو اتخاذ قرار يجري بعده كشف الحقيقة المرة وبعد فوات الأوان تكون حينها الكلفة عالية وعالية جداً ..هذا يحدث أو ما حدث.
استعمال الولايات المتحدة لحق النقض «الفيتو» على وقف الحرب أول من أمس في جلسة مجلس الأمن لا يدع مجالا للشك بأن الولايات المتحدة هي من يدير الحرب ويقودها، ويوفر لها يومياً ذخيرة السلاح التي تنقلها الطائرات، وتوفر لها الغطاء الدولي ضد أي انتقاد أو مطلب بوقف الحرب التي قتلت هذا العدد الكبير جداً جداً من المدنيين، هذا يعني أن حرب التدمير مستمرة وطويلة ولها رعاية وعناية واشنطن.
ما العمل أمام هذا الواقع الذي قال عنه السادات يوماً حين أوقف الحرب إنه يقاتل «أميركا»، مدركاً أن استمراره فيها يعني الانتحار ليتوقف عند لحظة يعتبرها انتصاراً.
صحيح أن هذا كان معاكساً للمزاج العام حينها ولكن نشرت وثائق التاريخ أن رئيسة وزراء إسرائيل كانت قد طلبت التجهيز لضرب القاهرة ودمشق بقنبلتين نوويتين لأنها لم تكن تسمح بالهزيمة ليتضح أن السادات التقط اللحظة قبل أن تنهار الجبهة بسبب الدعم والأسطول الجوي الأميركي أو بسبب القنبلة النووية التي كشفت الوثائق مسارها.
ماذا على الفلسطيني أن يفعل ؟ وماذا على حركة حماس أن تفعل ؟ وماذا على العرب أن يفعلوا ؟ هناك مقتلة يجب وقفها فوراً ويقابلها موقف أميركي قرر ألا يكون لحماس قوة أو حكم في غزة ويكلف الإسرائيلي بتنفيذ هذا القرار مؤمّناً له كل ما يحتاج من أسلحة وغطاء ورعاية ... قد لا يعجب الرأي العام أي اقتراح للحركة بإعلانها التخلي عن حكم قطاع غزة الآن وبسرعة لأن ثمن الوقت من دم ويا له من دم، وتخويل الجامعة العربية بإيجاد مخرج لهذا الأمر، لأنها اتخذت قراراً دون أن تقرأ التوازنات الكونية التي كانت كلفتها عالية وعالية جداً.
فالسياسة لدى الضعيف يجب أن تستدعي أقصى طاقة من الذكاء وليس أقصى طاقة من القوة وخصوصاً حين تكون متواضعة مقابل دولة هي عبارة عن ترسانة أسلحة.
هناك خوف شديد من استمرار الحرب طويلاً تظهر مؤشراته بوضوح، وخاصة أن الإسرائيلي يتحدث عن ترتيبات أمنية ومناطق عازلة يجب أن تلتقي كل الأطراف الفلسطينية لطرح مبادرة تحمي هذا الشعب، لأن البديل هو المزيد من الدم واللحم في ظل غطاء فاسد لدولة لم تعرف غير الحروب والقتل في تاريخها.