في الإشارة إلى هجوم "القسام" المظفر في السابع من أكتوبر، وردّة الفعل الإسرائيلية العنيفة جداً، ظهرت مقولات تبرر الهجوم، وتتوقع الأضرار الجسيمة في الشعب، منها مثلاً مقولة "لم ينتصر شعب دون تقديمه تضحيات جسيمة"، و"التحرر من الاحتلال لن يكون إلا بالقتال، والنصر يحتاج تضحيات كبيرة"، وهي مقولات صحيحة دون شك، ولكن الشعب الفلسطيني ومنذ تفجر الصراع قدّم تضحيات هائلة تضاهي بجسامتها تضحيات كل الشعوب التي تحررت، هذا أولاً. وثانياً ينبغي التمييز بين التضحية والتهلكة. وثالثاً إذا لم تقابل التضحية إنجازات سياسية تصبح مجرد خسائر دون قيمة، وتكون مصيبة إذا نجمت عن التضحيات إنجازات سياسية للعدو، وخسائر غير قابلة للتعويض في صفوف الشعب، بحيث تُستنزف مقدراته وتضعف قدرته على البقاء والصمود، مقابل توحيد جبهة العدو، وحصوله على دعم، وتضامن دولي غير مسبوق، وتقويته أكثر فأكثر.
ومن يقدمون أمثلة تاريخية عن التضحيات (فيتنام، الجزائر..) يتناسون الفروقات الهائلة بينها وبين الحالة الفلسطينية، فتلك الثورات أتت في زمن الحرب الباردة، وفي سياق تحولات دولية معينة، وكانت مدعومة من الصين والاتحاد السوفياتي، وقد خاضت كفاحها على مدار سنوات طويلة، ونظراً لمساحتها الشاسعة وامتلاكها التنوعات الطبوغرافية التي تمكنها من خوض حرب العصابات والاستمرار بها، ونظراً لتعداد سكانها الكبير، أمكن لها الصمود والبقاء وإحراز النصر، والأهم أنها كانت تقاتل جيوشاً غازية، بمعنى أن العدو كان لديه في نهاية المطاف خيار الانسحاب.. الحالة الفلسطينية مختلفة كلياً؛ فالعدو حتى لو كان في قناعتنا جسماً غريباً واستعماراً استيطانياً وجيشاً غازياً، إلا أنه من ناحيته لا يرى نفسه كذلك، ولا من ناحية النظام الدولي القائم، وبالتالي مسألة انسحابه وهزيمته عبارة عن تهديد وجودي تتطلب حرباً عالمية، نظراً لحجم الدعم الأميركي والأوروبي والدولي له، بسبب دوره الوظيفي ومكانته في معادلات النظام الدولي.
ويتناسون أيضاً نماذج أخرى نجحت، وانتصرت، وكانت تضحياتها بسيطة ولا تُذكر مقارنه بتضحيات الفلسطينيين، جنوب إفريقيا، والهند مثالاً.
كل الثورات التي انتصرت كانت تعتمد بداية على ما يُعرف بتقدير الموقف، أي مراعاة مدى ملاءمة أساليبها مع إمكانياتها، ومع الواقع المحيط والظروف الذاتية، والمعطيات الإقليمية والدولية، وكانت تتبع قواعد الحرب الشعبية، أي حرب الضعيف ضد القوي: اضرب واهرب، ركز على نقاط ضعف العدو، وتجنب نقاط قوته، لا تستفز عدوك لدرجة تجعله يبطش بك، حاول تحييد الجيش حتى لا يستخدم ترسانته العسكرية، واتبع التكتيكات التي تحرمه من أسلحته الفتاكة.. وهذه قواعد أساسية وضعها ومارسها من اخترع حرب العصابات، وانتصر.
المقاومة ليست بالسلاح فقط، الشعوب المحتلة تتحول أساليب حياتها إلى مقاومة، وحتى تنتصر ينبغي أولاً جلب الدعم والتعاطف العالمي لقضيتها. وثانياً: انتهاج سياسات تؤدي إلى تفكيك جبهة العدو، وتعزيز تناقضاته المجتمعية والسياسية.
ما ذكرته لا علاقة له بمشروعية المقاومة ووجوب استمرارها، وبكافة السبل المتاحة، فالحق شيء، وكيفية ممارسة الحق شيء مختلف.
وأيضاً مقولة "من يسلك طريق المقاومة سينتصر، ومن يقبل المهادنة والخضوع سيعش دائماً في الذل والمهانة"، وأنّ مقولات "لا تقاتل دولة أقوى منك حتى لا تفتك بشعبك"، أو "لننتظر حتى تتغير موازين القوى"، لا تصدر إلا من الجبناء، الذين ارتضوا الذل والخنوع، والذين إنما يسعون لتحسين شروط العبودية.. إلخ.
وهذه المقولات بحد ذاتها صحيحة دون جدال، لكنها لا تصلح في الحالة الفلسطينية، حتى في السنوات الأخيرة، والتي يشير إليها البعض بأنها سنوات ترهل وسكون ومهادنة وتراجع في المقاومة.. حتى في هذه السنوات العجاف، لم يرتضِ أحد من الشعب الفلسطيني لا في الضفة ولا في القطاع، ولا في الداخل ولا في الخارج بالذل، ولم يقبل أحد بالمهانة، ولم يسعَ أحد لتحسين شروط العبودية، ولم تنجح كل مساعي إسرائيل في التدجين وكيّ الوعي وكسر الإرادة وإلحاق الهزيمة النفسية، ولم يتقبل أحد مشاريع السلام الاقتصادي.. بل بالعكس، فرغم انسداد الأفق السياسي، وتوقف المفاوضات، وكل ضغوطات السلطة للسيطرة على المقاومة أو احتوائها، ورغم كل البطش الإسرائيلي والتنكيل والحواجز والسجون والاغتيالات والاجتياحات.. رغم كل شيء لم تتوقف المقاومة، وفي السنوات الأخيرة ظهر العديد من التشكيلات المسلحة، ونفذت العديد من العمليات الفدائية، وتصدى المقاومون لعشرات عمليات الاجتياح في جنين ونابلس وطولكرم وأريحا والخليل، واستمرت التظاهرات والاعتصامات والإضرابات ومسيرات العودة وأشكال المقاومة الشعبية الأخرى على كافة نقاط التماس.. وسقط مئات الشهداء، واعتقل آلاف الأسرى، وهُدمت عشرات البيوت.
بمعنى آخر، كانت المقاومة الشعبية قائمة ومستمرة ومسنودة بتشكيلات مسلحة وعمليات محدودة في الأرض المحتلة عموماً.. وهذا الشكل النضالي يتناسب مع إمكانيات الشعب وقدراته، وبالطبع لم يسلم من آلة البطش الإسرائيلية بكل عنفها، ومع ذلك كانت الحياة مستمرة: المدارس، الجامعات، المصانع، الحركة التجارية، التنقل، الرعاية الصحية، الخدمات.. صحيح أنها لا تشبه الحياة في البلدان الأخرى، لكنها على الأقل لم تتوقف، ولم تتوقف كافة أشكال الاحتفال بالحياة، ومع آمال كبيرة بالمستقبل.. الشعب في حالة تحدٍّ وبما يمكّنه من البقاء والصمود، ولا تُستنزف مقدراته، وفي الوقت ذاته يظل في حالة اشتباك مع العدو، صحيح أن الاشتباك والنضال لم يكن بالقدر المطلوب، ولدى كل جهة ملاحظات كثيرة وانتقادات كثيرة، ولكن يمكن لهذه الحالة أن تتطور، وأن تتدارك أخطاءها، وأن تعوّض قصورها.
أما مقولة "ما أّخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة"، فتصلح لحرب التحرير الشاملة، وتصلح نسبياً للمقاومة، على اعتبار أن كافة أشكال النضال الجماهيري والسياسي والإعلامي وغيرها هي من أشكال القوة، والتي في كثير من الأحيان تكون فعاليتها أكبر وأهم من القوة العسكرية.. بل إن القوة العسكرية هي التي يتوجب تجنبها (أو ممارستها بحذر)، ببساطة لأن إسرائيل هي المتفوقة كلياً في هذا المضمار، وهي ساحتها المفضلة التي تنتصر فيها دوماً، خلافاً لساحات النضال الأخرى التي يتم فيها تجريد إسرائيل من ترسانتها العسكرية وتحييد أسلحتها الفتاكة.. هكذا تقتضي الحكمة، وهذه هي المسؤولية الوطنية الحريصة على الشعب وعلى حياته ومقدراته ومستقبله وقضيته أكثر من حرصها على إيلام العدو بضربة عسكرية موجعة، ثم لا تجد طريقة لمواصلتها، وتهيئة الظروف لضربات أخرى، ومراكمة النضالات، وهضم نتائجها السياسية.
باختصار، المقاومة تتطلب مراعاة موازين القوى، وتبني الأساليب الملائمة على ضوء ذلك، وليس الانتظار لحين تعديلها، والبقاء في حالة سكون.. الثورة حالة تحدٍّ لكسر المعادلات القائمة، أما تعديل الموازين فيأتي بالتراكم والعمل المستمر والدؤوب الذي يمتلك إمكانيات الاستمرار والتطوير.. وصولاً إلى مرحلة يمكن حينها توجيه ضربات قاضية متتالية، لذلك تحمل المقاومة اسم الحرب الشعبية طويلة الأمد.. وهي مختلفة كلياً عن إعلان الحرب.. إعلان الحرب يعني حرباً نظامية بين جيشين، وبين دولتين.. وله اشتراطاته وظروفه وأساليبه المختلفة عن المقاومة.