أما وقد عادت إسرائيل لمواصلة حرب الإبادة المجرمة على قطاع غزة، وذلك بعد أسبوع من الاتفاق على هدنة إنسانية كانت مدتها أربعة أيام، تم تمديدها ليومين ثم ليوم آخر، فإن السؤال الأساسي هنا، خاصة مع انعقاد مجلس الأمن الدولي، في اليوم نفسه الذي واصلت فيه إسرائيل الحرب، هو كيف يمكن وقف إطلاق النار، ومن الذي يمكنه أن يجبر إسرائيل على التوقف فوراً، عن شن حرب إجرامية بكل معنى الكلمة، ارتكبت ولا تزال ترتكب فيها كل جرائم الحرب، التي لم يعرف لها العالم مثيلاً، تقتل فيها يومياً نحو 500 شهيد وتصيب ثلاثة أضعافهم جرحى، فيما تدمر مربعات سكنية بكاملها، وخلال نحو شهرين دمرت نحو 40 - 50% من منازل المواطنين في قطاع غزة، فضلاً عن التجويع والحصار الخانق، وهي تسقط يومياً أكثر من ألف طن متفجرات فوق القطاع.
أما بخصوص الجولة الثانية من الحرب، أي هذه الجولة التي تلت تنفيذ الهدنة الإنسانية، فهي تتسم أولاً بأنها لا تقتصر على سلاح البر، أي الدبابات والمدفعية، بعد أن كانت الجولة الأولى قد بدأت بمرحلة القصف الجوي، ثم البري، وبعد أربعة أيام من انطلاقها، يمكن ملاحظة أيضاً، أن عنوانها الذي اتفق حوله بنيامين نتنياهو، أو حكومة الحرب الإسرائيلية مع الإدارة الأميركية خلال زيارة وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، هو الحرب على الجنوب، أي على خان يونس ورفح، رغم أنهما كانا قد خدعا الناس من قبل بالقول إنها مناطق آمنة، وطالبوا السكان بالتوجه إليها، ولكن ذلك كان عبارة عن محاولة تسهيل تنفيذ الخطة المتدرجة، أو المتدحرجة، كذلك ملاحظة أن هذه الجولة تتضمن إكمال التوغل داخل مدينة غزة، بعد أن تركزت الجولة السابقة على تطويق المدينة من الشمال والغرب والجنوب، مع التركيز على تمشيط منطقة شمال القطاع، أي بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، وهذا ما يفسر تكثيف القصف على مخيم جباليا وحي الشجاعية.
وكانت قوات الاحتلال قد تجنبت الاصطدام منذ البداية بلواء الشجاعية، بحكم أنه معروف لديها بقوته وصلابته، بعد أن اصطدمت به العام 2014، لكن في هذه الجولة، لا يمكن تجاهله، حتى يمكن لإسرائيل أن تطمئن إلى أنها قد قامت بدفع قوات المقاومة إلى جنوب وادي غزة، أي أنها قد جعلت من شمال قطاع غزة، بما فيه مدينة غزة، ومدن جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، منطقة عازلة، خالية من المقاومة، وكان يمكنها أن تقوم بفعل هذا، دون أن يرتبط هذا الهدف، أو هذا الجهد العسكري مع حملة عسكرية متوازية على خان يونس ورفح، وحتى دير البلح، أي المنطقة الوسطى، لكن عامل الوقت بات ضاغطاً على إسرائيل ويؤثر جداً في قدرتها على التخطيط العسكري والتنفيذ الميداني أو العملياتي.
وحقيقة الوقت بات يقول بها نتنياهو نفسه، الذي أعلن قبل أيام عن أنه يواجه ضغوطاً دولية متعددة هائلة، لكنه لن يكترث لها، وطبعاً من ضمن هذه الضغوط، وإن كانت ناعمة، تلك التي تأتي من البيت الأبيض، والتي ليست سراً، بل دائماً ما يعلن البيت الأبيض عن أنه يمنح حكومة الحرب الإسرائيلية أسابيع وليس أشهراً، وفي الوقت الذي طالب فيه كل العالم، بمن فيه الأوروبيون، بالحفاظ على الهدنة الإنسانية ومتابعتها حتى تتحول إلى وقف لإطلاق النار، كانت أميركا، تشد على يد حكومة الحرب الإسرائيلية، أولاً بالقول إن حماس هي من أفشلت تمديد الهدنة الإنسانية يوماً آخر، ثم بالموافقة على استئناف إسرائيل للحرب، وفق خطة هيئة الأركان، التي فحواها شن الحرب على جنوب القطاع.
حقيقة الأمر، أنه ليس هناك من يمكنه عبر ممارسة الضغط السياسي أن يردع إسرائيل ويجبرها على وقف الحرب، سوى الولايات المتحدة الأميركية والتي يمكنها فقط أن تقوم بسحب حاملات طائراتها، ويمكنها أيضاً أن تمتنع عن التصويت في مجلس الأمن، وحتى قبل أن يصل الأمر لمثل هذا، مجرد أن تصدق في كلامها، سيتوقف قادة الحرب الإسرائيليون عن مواصلتها، لكن أميركا تبيع العالم كلاماً لا قيمة له، فيما تواصل تغطية قادة الإجرام العسكري الإسرائيلي، والسبب يعود على كلا الجانبين - بتقديرنا - إلى التشبث بالسلطة والحكم، فنتنياهو ومعه يوآف غالانت وبن غفير وسموتريتش، وكل أركان حكومة اليمين المتطرف، سيغادرون مقاعد الحكومة، إن لم يكن في اليوم التالي مباشرة لوقف الحرب، فبعد وقت قصير، حتى لو رفض الائتلاف تقديم موعد انتخابات الكنيست، فإن القضاء هو من سيتكفل بهذا، وكان يفترض إعادة نتنياهو للمساءلة القضائية، يوم السابع من أكتوبر الماضي، أي يوم عملية «طوفان الأقصى» لكن الحرب بالطبع أجّلت الموضوع.
أما جو بايدن وإدارته بمن فيهم أنتوني بلينكن، فليس لديهم فرصة في البقاء في البيت الأبيض، بعد أن وضعوا كل «بيضهم» في سلة اللوبي الصهيوني المؤثر في الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلا مواصلة هذا الرهان، لعل وعسى أن ينجح في تحقيق ذلك الهدف «الشخصي»، أما الداخل الأميركي والإسرائيلي، فهما بحاجة إلى وقت طويل للتحرر من الحسابات الشخصية والانتخابية التي تتحكم بمصير بلادهم، وإذا كانت اعتبارات نتنياهو قد حرقت صورة إسرائيل في الشرق الأوسط، وزجت إلى الوراء بملف التطبيع الذي تغنى به كثيراً نتنياهو، وفي العالم، بعودتها إلى صورة الدولة المجرمة التي تقتل الأطفال وترتكب جرائم الحرب، وإذا كانت اعتبارات بايدن الانتخابية قد جعلت أميركا تخسر الكثير من مكانتها في الشرق الأوسط والعالم، لدرجة تصدع بقايا القناعة باستمرارها كقائد للعالم وفق نظامها العالمي، فإن الشعبين الإسرائيلي والأميركي هما المعنيان بتغيير هذه الحالة، لكن أمامهما وقت طويل للتخلّص من التطرف اليميني الفاشي الإسرائيلي، ومن الخروج الأميركي على الإجماع الدولي.
يدرك الجميع حجم المخاطرة، ذلك أن حرق قطاع غزة، وإبادة سكانه من أجل تحقيق هدف سياسي/عسكري، متمثلاً بسحق حماس وتبديد المقاومة، وتهجير سكان القطاع، كمقدمة لتهجير حتى سكان القدس والضفة الفلسطينية، إنما هو هدف بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً، وثمنه فظيع للغاية، وكل هذا لأن إسرائيل ومنذ أوسلو وفي ظل حكومة التطرف الفاشي، لا تفكر ولا بفيض الخاطر، باحتمال الحل وفق دولة فلسطينية، وحتى لا تضطر إلى الفصل العنصري، ليس أمامها إلا طرد السكان الفلسطينيين خارج حدود جغرافيا فلسطين التاريخية، وقد شجعها بالطبع على ذلك حالة الانهيار العربي، وانفتاحه على التطبيع، ولا يردعها بالطبع مجرد الرفض اللفظي، ففي ظل استمرار الضغط على سكان قطاع غزة، وحشرهم في أضيق منطقة، أي شريط الساحل ما بين دير البلح ورفح، بعد تهجير ثانٍ، من مناطق شرق خان يونس ورفح، لن يكون الشريط كافياً لمجرد إقامة مليوني إنسان، وليس فقط كافياً لحياتهم ومعيشتهم، حينها، لن تقوى مصر على منع التدافع بالقوة العسكرية في مواجهة المدنيين الفلسطينيين، فيما قد يكون البحر أيضاً ملاذا حيث السفن في انتظار الناس نحو أستراليا وكندا.
صحيح أن هذا الطريق الفاشي، القسري يتطلب الاستمرار في ارتكاب المجازر اليومية بحق مواطنين يتشبثون بوطنهم، حتى أنهم يعودون عبر رفح إلى غزة في ظل الحرب، وبما يعني مواصلة الاحتجاج الشعبي العالمي، لذا فإن محاولة تهدئة هذه الاحتجاجات تأتي من خلال تسريبات أميركية مقيتة تقول بمنح إسرائيل أسابيع إضافية، وليس أشهراً، وبتفصيل أكثر حتى عيد الميلاد المجيد، أي ثلاثة أسابيع، على هذه الجولة من الحرب البرية.
في نهاية الأمر نقول، إن الحرب لا يقررها طرف عادة، لكن حديث الإسرائيليين والأميركيين عن غزة ما بعد الحرب، ليس غير واقعي، ولا أنه يتجاهل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، وحسب، لكنه مخادع، وكأن نتيجة الحرب بين أيديهم، فهناك المقاومة ميدانياً وهناك حلفاؤها إقليمياً، فماذا لو أن المواجهة الميدانية مالت لصالح العدو، فقام حزب الله بإطلاق ألف صاروخ على إسرائيل، هل ستدخل أميركا الحرب، وتضرب إيران كما تهدد، حينها ألن تقاتل إيران دفاعاً عن نفسها، وأليس هناك أصدقاء سيساعدون إيران ولو بتمويلها بالسلاح والذخيرة كما فعل الغرب مع أوكرانيا، في مواجهة أميركا ؟!