أسفر الرفض المصري القاطع لسيناريوهات العبث والجنون، التي تداولها بعض الأوساط اليمينية واليمينية المتطرفة في إسرائيل خلال الأيام الأولى للحرب في غزة، وتعلقت بتهجير أهل القطاع عنوة وإجراماً إلى مصر، وروّجت لها بخبث دوائر قريبة من المصالح الإسرائيلية في الولايات المتحدة والدول الغربية، أسفر هذا الرفض عن حشد رأي عام عربي ودولي مضاد لتلك السيناريوهات في سياقَين رئيسيَّين.
السياق الأول هو اعتبار كل حديث عن التهجير القسري للشعب الفلسطيني جريمة حرب مكتملة الأركان بمعايير القانون الدولي العام والإنساني، ومقدمة لمواصلة تصفية القضية الفلسطينية ترفضها مصر والدول العربية والإسلامية، مثلما ترفضها أيضاً القوى الكبرى ممثلة بالولايات المتحدة، وحليفاتها الغربيات، وروسيا، والصين. السياق الثاني هو التكييف القانوني لسيناريوهات التهجير القسري كاعتداءات صارخة على السيادة الوطنية المصرية إن تعلق الأمر بالضغط على أهل غزة لتركها والرحيل إلى سيناء، أو على السيادة الوطنية الأردنية فيما خص الضغط على أهل الضفة الغربية والقدس الشرقية لترك أرضهم، والتشديد سياسياً على المعارضة الرسمية والشعبية الكاسحة لها.
• • •
كان النجاح المصري، وبمشاركة أردنية، في حشد الرأي العام العربي والدولي الرافض للتهجير، سبباً أساسياً في تراجع احتمالية تحقق تلك السيناريوهات التي ابتعدت عنها تدريجياً أوساط اليمين التي تداولتها بداية. غير أن التراجع النسبي لا يعني الاختفاء التام، وهو ما يلزم مؤسسات الدولة المصرية، ومعها فعاليات المجتمع المختلفة من نقابات ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب ووسائل إعلام، باستمرار التنبه ومواصلة العمل على تفريغ أحاديث ومقولات التهجير من الفاعلية السياسية. هنا، وهذه مهمة ملقاة في المقام الأول على عاتق مؤسسات الدولة، يتعين التواصل دبلوماسياً وأمنياً مع حكومة الحرب الإسرائيلية للتذكير المتكرر بكون مصر لن تقبل لا بتصفية القضية الفلسطينية ولا باستباحة سيادتها الوطنية، وكذلك مع الإدارة الأميركية والجهات النافذة في الكونغرس (والبعض بداخلها ينحاز على نحو مطلق للدولة العبرية) لكي تدرك مبدئية الموقف المصري، ولكي تبتعد واشنطن عن التفكير في مساومات خطيرة (ما زال البعض داخل الإدارة والكونغرس يتداولها)، لن تجد سوى الرفض من القاهرة لكونها تنتقص من سيادتنا وتهدد أمننا.
من جهة أُخرى، وبجانب الجهود المستمرة للتوصل إلى إنهاء الحرب بوقف لإطلاق النار؛ حماية لأرواح وممتلكات الشعب الفلسطيني، ولإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة لإنقاذ أهلها من الكارثة الكبرى التي تحيط بهم من كل جانب، وإنجاز صفقة ما لمبادلة الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، تحتاج مصر الرسمية والشعبية إلى الالتفات السريع إلى الأفكار والخطط التي تناقش الآن في أروقة حكومة بنيامين نتنياهو والحكومات الغربية بشأن مستقبل أمن وحكم غزة بعد الحرب، والوضع الأشمل للأراضي الفلسطينية المحتلة.
فبينما تتوالى تصريحات السياسيين الإسرائيليين من الحكومة والمعارضة، بشأن التوجه إلى الإبقاء على وجود أمني واسع في القطاع؛ لضمان عدم تكرر هجمات ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣، وتدعمها استطلاعات للرأي العام تدلل على تفضيل أغلبية كبيرة في المجتمع الإسرائيلي لهذا التوجه، يغيب التوافق داخل الدولة العبرية فيما خص الحدود الزمنية للبقاء في غزة، والدور المحتمل للفلسطينيين بعيداً عن «حماس» والفصائل الأُخرى. البعض كرئيس الوزراء نتنياهو، ووزير خارجيته إيلي كوهين، يفضل وجوداً أمنياً طويل المدى، يتمركز في مناطق عازلة على امتداد حدود القطاع مع إسرائيل ومصر، ويتدخل باختراقات منظمة كلما «استدعت الحاجة ذلك»، على غرار ما تفعله القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، والقريبون منهما، يربطون بين تصورهم، وهو عملياً يعني إعادة احتلال غزة وحصارها على نحو مطبق، وبين الهدف المعلن المتعلق بالقضاء على «حماس» والفصائل المسلحة ورفض عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع لإدارته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والعمل على إعادة إعماره وتنظيم دخول المساعدات العربية والدولية إليه. غير أن صقور حكومة الحرب الإسرائيلية لا يملكون رؤية واضحة لهوية البديل الذي يستطيع حكم وإدارة غزة، بافتراض تدمير «حماس»، وهو افتراض تغيب عنه الواقعية، وفي ظل العداء الصريح للسلطة الوطنية الفلسطينية. أما أصحاب الأصوات الأقل تطرفاً في حكومة الحرب كـ(بيني غانتس) أو في الحياة السياسية الإسرائيلية كـ(يائير لابيد ونفتالي بينيت)، فهم لا يمانعون «عودة السلطة الفلسطينية» إلى غزة بعد مرحلة انتقالية من السيطرة الأمنية المباشرة التي يقولون: إنها ضرورية لإتمام نزع سلاح «حماس» والفصائل الأُخرى، والتأسيس لترتيبات حكم وإدارة تتماثل مع الحادث في الضفة الغربية والقدس الشرقية. بدرجة مخففة، إذاً، يدعو الأقل تطرفاً في إسرائيل أيضاً إلى شكل من أشكال إعادة احتلال غزة، ويخفف من حدة دعوته هذه بمقولات عن عودة السلطة الفلسطينية يغيب عنها الوضوح والآليات المحددة والجدول الزمني القاطع.
أما الولايات المتحدة، والحديث هنا بداية عن السلطة التنفيذية التي تجسدها إدارة الرئيس جو بايدن، فتتفاعل مع الطرح الإسرائيلي بشيء مما تعتبره أركان الإدارة، كوزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، ترشيداً لأفعال وممارسات الدولة العبرية. خلال الأيام الماضية، صرح بايدن وبلينكن وسوليفان أن واشنطن لن تقبل لا احتلال تل أبيب لغزة ولا وجودها الأمني طويل المدى ولا إدارتها لشؤون الشعب الفلسطيني في القطاع. غير أنهم، وبعد أن رُفضت مصرياً وأردنياً مقترحاتهم المتعلقة بإدارة أمنية عربية، أو عربية - دولية لغزة، يَقصرون حديثهم على التأكيد العمومي على ضرورة عودة السلطة الوطنية الفلسطينية دون أن يحددوا لا الآليات ولا التوقيتات، وكذلك دون أن يوضحوا مدى استعدادهم الفعلي للضغط على الحكومة الإسرائيلية للتخلي عن خطط إعادة الاحتلال والحصار المطبق. ولا يقل خطورة عن غموض رؤية واشنطن فيما خص «مستقبل غزة»، حقيقة رفض بايدن ومساعديه لكافة مساعي وقف إطلاق النار على الرغم من الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي يشهدها القطاع، ومطالبة عديد وكالات الأمم المتحدة بالتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، وتصاعد الأصوات المعارضة داخل مؤسسات الإدارة الأميركية (وزارة الخارجية ووكالة التنمية كمثالين) وحالة الانقسام والاستقطاب السائدة في الرأي العام. فامتناع واشنطن اليوم عن الضغط على تل أبيب، وهو امتناع يتواصل والحرب تجاوزت أيامها الأربعين بقليل، لا يشي أبداً بقدرة بايدن ومساعديه على التأثير في أفعال وممارسات تل أبيب بعد أن تتوقف آلات القتل وتوضع على الأرض حقائق إعادة الاحتلال وتشديد الحصار. فمن لا يلتفت لا إلى التغير في توجهات الرأي العام بمجتمعه، ولا إلى المعارضة داخل المؤسسات الرسمية، ولا إلى تحول المواقف الدولية إلى مطالبة صريحة بإنهاء الحرب، بل ومن لا يعنيه شيوع النظرة السلبية لبلاده في عموم المجتمعات العربية والإسلامية، بما لذلك من انعكاسات كارثية على مصالح القوة العظمى في العالم، لن يغيّر من سياسته المنحازة لإسرائيل خاصة في عام الانتخابات الأميركية ٢٠٢٤. ولا يحد أبداً من وطأة انحياز إدارة بايدن وتخاذلها عن توظيف أدواتها الكثيرة، من السلاح والذخيرة إلى المساعدات الاقتصادية والمالية والحماية الدبلوماسية المقدمة لإسرائيل، لإنهاء الحرب كون بعض مسؤوليها يتحدثون هذه الأيام عن ضرورة فرض السلام وإقامة الدولة الفلسطينية في المستقبل القريب. فحديثهم هنا لا مقومات أو آليات واضحة له ولا جداول زمنية محددة، ويبدو من ثم وكأنه إبراء للذمة واعتذار عن التداعيات المؤلمة للتخاذل الراهن عن الانتصار لواجب حماية الشعب الفلسطيني في وجه آلة القتل التي تفتك به.
• • •
أثق بأن صناع القرار في مؤسسات الدولة المعنية بقضية فلسطين، وبتداخلها مع اعتبارات الأمن القومي المصري، تتابع كافة هذه النقاشات الدائرة في تل أبيب وواشنطن، وبذيل العاصمتين تتعلق العواصم الأوروبية التي كانت يوماً كبرى ومؤثرة في شؤون الشرق الأوسط، وتتحسب لها ولمضامينها مثلما تتابع عن كثب آثار الحرب على الأوضاع في غزة كما في الضفة والقدس. فنحن في مصر، ومعنا الأردن، دوماً ما كنا، شعباً ودولة، الحاضنة الكبيرة للشعب الفلسطيني، وعلينا واجب تمكين القوى الوطنية الفلسطينية من التفكير في سيناريوهات مستقبلية، تضمن من جهة عدم عودة الاحتلال إلى غزة، مثلما تحول دون وقوعها في خانة الفراغ الأمني والإداري، وتمكن من إطلاق جهود إعادة الإعمار في القطاع، وتعيد من جهة أُخرى الترابط العضوي بين كل الأراضي المحتلة أملاً في إحياء حل الدولتين والحق في تقرير المصير. هذا هو واجبنا تجاه القوى الوطنية الفلسطينية، والتي أسجل هنا، وعلى الرغم من معارضتي الصريحة لقتل «حماس» للمدنيات والمدنيين واختطافهم في ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣، أن إسرائيل لن تنجح أبداً في إلغاء «حماس» والفصائل الأُخرى من معادلتها.