تريد حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو تجريف شمال غزة وإنشاء "منطقة أمنية عازلة"، ترى كم هو عمق هذه المنطقة في بلد صغيرة؟ والسؤال الأهم هل سيشكل ذلك خلاصاً لورطة الاحتلال؟ وهل أصلاً نجحت "المنطقة العازلة-الأمنية" في جنوب لبنان من قبل؟ أم أنها أتت بكل شيء ربما إلا أمن الاحتلال!
"منطقة أمنية عازلة" مصطلح الاحتلال الإسرائيلي، وهو مرتبط بما سمي عام 1967 بخطة ألون المتعلق بغور الأردن، بعزل منطقة مقدارها 10 كيلو مترات غرب نهر الأردن، أي شرق الضفة الغربية، وتطور ذلك بعد أقل من عقدين الى غرب الضفة الغربية، بـ "تبطين الجزء الغربي منها، الملاصق لخطة الهدنة عام 1967، وهو ما تطلق عليه إسرائيل بالخط الأخضر. وتبطين يعني بناء مستوطنات داخل غرب الضفة الغربية، والوصف جاء من "بطن" طبعاً. والاحتلال لا يريد لنا بطناً ولا ظهراً ولا عموداً فقرياً.. يريد وطناً كسيحاً مهشماً، هي "الكانتونات المعزولة".
ويبدو أن الاحتلال يقضم أرض فلسطين أينما يجد لذلك مناسبة أو بدونها، وهكذا وباختصار، إنها سياسة الأمر الواقع المحمية بقوة السلاح.
هل هذه حكمة الاحتلال واستخلاصاته بعد 40 يوما من حربه الإجرامية على غزة؟ مصادر أرض لتأمين أمن المستوطنات؟ أليس هناك حل آخر دائم وحقيقي؟
الحقيقة ليس أمام الاحتلال إلا مغادرة الأراضي المحتلة. ليس أمامه إلا حل الدولتين، وإن لم يكن في حسبانه ذلك، فمعنى ذلك استمرار الصراع بدموية أكثر ليست في مصلحة الاحتلال، أو اللجوء الى حل الدولة الواحدة، ولما أن إسرائيل غير مفكرة أبداً بحل الدولة الواحدة، فمعنى ذلك أنه لا بدّ من إلزامها بذلك. إن إسرائيل التي زرعها الاستعمار هنا بحاجة اليوم الى وصاية دولية لتخليصها مما هي فيه من عنصرية وتخبط وإجرام غير مسبوق. لكن أن تصبح غزة، والضفة الغربية مختبراً للاحتلال لتجريب حلوله العنصرية، فلا يمكن لهذا أن يستمر.
تستمر إسرائيل في حربها، وهي تعلم تماماً أنه يصعب إنهاء المقاومة، لكن الغريب أن الولايات المتحدة، الدولة الأولى في العالم، تستمر في تقدمها على إسرائيل في ضرورة استمرار الحرب، فما ان نرى تراخي الاحتلال على الأرض والسماء وفي التصريحات السياسية، حتى نرى الولايات المتحدة وبشكل خاص الرئيس بايدن تشجع على استمرار الحرب ومعارضة وقف إطلاق النار. ألا يقود ذلك إلى المزيد من توريط إسرائيل في عدوانها الذي واكبته جرائم حرب؟ غريبة أمرها السياسة الأميركية التي لم تعد تحسب للأصدقاء العرب أي حساب ولا حتى مجاملة؟ لذلك يجيء الموقف الأميركي بالنسبة لحل الدولتين، معارضا لما تفعله إسرائيل بدعمها على الأرض، فعن أي دولة فلسطينية تتحدث الولايات المتحدة؟ وهل باتت الضفة الغربية وغزة مختبراً للبحث عما يوافق مصالح دولة الاحتلال ومصالح الدولة الحليفة الداعمة؟
على الأرض، لم يعد هناك خط أحمر في فلسطين المحتلة إلا وعبرته سلطات الاحتلال، التي انطبق عليها القوم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وهكذا تبجح بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الحرب على المدنيين بأنه ليس هناك مكان لا تستطيع إسرائيل عدم الوصول إليه.
للأسف لم يرتق الموقف السياسي الدولي لما يحدث هنا من جرائم حرب، حتى ان قرار مجلس الأمن إنما يأتي، لتنزيل إسرائيل عن الشجرة، لحفظ ماء وجهها، لذلك سرعان ما رفضته ولكنها في الحقيقة قريبة منه، في ظل الانقسام السياسي الإسرائيلي، وعدم رضا الجمهور عن فشل نتنياهو في كل ما دار ويدور منذ السابع من أكتوبر.
عربياً وإسلامياً، الدول العربية والإسلامية قادرة ان اتحدت فعلاً وأرادت وقف إطلاق النار، خاصة الآن، في ظل نقمة الشعوب العربية، كذلك عالمياً، أوروبا بشكل خاص، ودول آسيا. كذلك يمكن للأمم المتحدة إصدار قرار يلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار.
لكن يبدو أن من سيوقف إطلاق النار هو ما يدور على الأرض، ففي كل يوم تخسر إسرائيل جنودا، وإن طالت الحرب، فلا أحد سيدري كم ستخسر إسرائيل من قتلى قد يتجاوز عددهم عدد الجنود الأسرى لدى المقاومة، فأين الحكمة إذن؟ أليس من العقلانية البحث عن طريق آخر إطلاق سراح أسراها؟ لماذا طالت المفاوضات في قطر حول هذا الملف؟ أم انه العناد الإسرائيلي؟
الحل العملي هو تبادل الأسرى، وليس في هذا ما يعيب، فالعيب هو الفضيحة المستمرة من 7 أكتوبر، فمن عار إلى عار تنتقل حكومة الاحتلال، غير مصغية إلا للولايات المتحدة التي يبدو أنها تزيد من توريطها، ليس لأجل إسرائيل بل لأجل المصلح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
لا عقل هنا في ظل هذا الجنون الفعلي، حيث سيصعب تقبل إسرائيل فعلياً في العالم. لقد عرّى قادة الحرب الدولة ذات المساحيق التجميلية، التي تدعي الحضارة مقابل الهمجية.
وقف إطلاق النار فوراً هو بداية الحل الفعلي لكل المشاكل، بشرط أن تكون هناك نوايا صافية يقودها عقل، باتجاه إنهاء الصراع، وتجنيب الشعبين المآسي، وهذا يقتضي قادة عقلاء فعلاً، خاصة بعد كل هذه المجازر.
لم تكن الطريق واضحة في حلّ الصراع العربي الصهيوني كما هي اليوم، بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، والبحث الحكيم والأخلاقي الإنساني لكل ما تفرع من مشاكل، من قبل وبعد.
وقف إطلاق النار، ووقف هذا المختبر اللاإنساني لفلسطين، الأرض والشعب؛ لأن إيجاد حل سلمي يضمن حرية الشعب الفلسطيني، هو من سيكون بداية الانفراج الحقيقي لتستأنف الشعوب حياتها هنا. فإذا لم تؤدِ الحرب اليوم إلى هذه النتيجة، فتلك هي المأساة التي تفوق مآسي الحروب!
ان جزءاً بسيطاً من تكاليف الحرب قادر أن يحيي الأرض والبشر، لكن أي عقل هذا الذي يفني البشر بدفع كل هذه التكاليف!
لقد خسرت إسرائيل جنودها مرتين، أما المرة الثانية، فهي حين جردتهم من الحد الأدنى من الإنسانية والشرف العسكري!
آن الأوان لتتحرر إسرائيل من هذا الجنون والعنصرية، وآن الأوان أن يرفع العقلاء أصواتهم بعيدا عن المصالح الضيقة، لأن الخلاص هنا خلاص جمعي لا فرديّ. لعل هذه القوى تعيد ترتيب نفسها، وتتموضع في مكان يسقط الكتل السياسية التي لم تجلب لإسرائيل غير الخوف!
Ytahseen2001@yahoo.com