الدكتور طارق ليساوي
حاولت في مقال “لماذا القيادات والهيئات والمنظمات العربية والإسلامية عاجزة عن إستغلال وإستثمار النصر الإستراتيجي الذي افرزته عملية “طوفان الأقصى”؟” تحليل مخرجات قمة الرياض العربية-الإسلامية، و تحليل الأسباب السياسية و النفسية و الذهنية التي تجعل من التعاطف مع غزة و مقاومتها أمر مستبعد لدى كثير ممن ينتمون إلى عالمنا العربي و الإسلامي ، و طرحت سلسلة من الأسئلة الاستفهامية أو بالأحرى الاستنكارية !! و لم أجد جوابا إلا ” الحسد” ، لأن المنطق و المصالح، و الحاضر و المستقبل، يتطلب موقفا سياسيا و إنسانيا مغاير تماما..
فمنذ نشأة هذا الكيان الغاصب و البلدان العربية التي إنبثقت عن إتفاقية سايكس بيكو و ملحقاتها، كانت تعيش على وقع خلافات بينية بين الأنظمة السياسية، بل حارب بعضها البعض ، فالنظام المغربي دخل في حرب مع النظام الجزائري في “حرب الرمال” ، و مصر حاربت في اليمن ضد الملكيين المدعومين من السعودي، و اليمن الجنوبي حارب اليمن الشمالي ، و البعث السوري دخل في خلاف و صدام مع البعث العراقي، لكن مع كل ذلك هذه النظم المتصارعة و المتصادمة سرعان ما تتجاوز خلافاتها البينية للتوحد فيما بينها، لنصرة فلسطين و مقاومة المخططات الصهيونية، فميلاد منظمة المؤتمر الإسلامي جاء بعد حرق المسجد الأقصى من قبل الصهاينة، و إنجاز أكتوبر 1973 تحقق بفعل وحدة الصف العربي بعد نكسة 1967…
الوضع بعد غزو الكويت سنة 1990 ولد حالة من الفرقة و التشتت الخطير و المدمر، و حان الوقت للخروج من هذه الدورة المفرغة و على الشعوب العربية و الإسلامية ، الضغط و النضال من أجل إقامة نظم حكم تعبر عن الإرادة الشعبية و تتولى الدفاع عن مصالح شعبها و أمتها..بلداننا من المحيط إلى الخليج في أمس الحاجة للتحرر من الإستبداد و التبعية ، في حاجة لكسر قيود الطغيان و العبودية الطوعية …فالنظم القائمة فاشلة في كل شيء و تقود هذه الأوطان لمزيد من التفكك و التجزئة و الصراعات الإثنية و الفئوية حماية للعروش و مصالح الأوليغارشية المتحكمة في المناصب و المكاسب…
ad
و لعل خطاب نتنياهو الذي وجه فيه رسالة ضمنية للنظم العربية ينصحها بالصمت حماية لعروشها ، دليل و مؤشر على حجم الكارثة التي تعيشها بلداننا، فحكام هذه البلدان يعانون سكتة دماغية و عجز مزمن و خوف مرضي يمنعهم حتى من اللعب بورقة قطع العلاقات الدبلوماسية مع هذا الكيان الصهيوني ، و تهديد البلدان الغربية الداعمة له بقطع العلاقات الاقتصادية و الدبلوماسية إستجابة و إمتثالا للضغوط الشعبية، يا سادة وظيفوا المسيرات الشعبية و الضغط الجماهيري و لو من باب الدعاية و المناورة !!
أقول هذا الكلام ويراودني سؤال أخر!! ماذا لو كانت فلسطين أرض صينية ؟ هل ستتركها الصين حكومة وشعبا ؟ هل ستضع الصين قيادة وشعبا رأسها في التراب و تتجاهل هذه الإنتهاكات التي يمارسها الاحتلال ضد النساء و الأطفال؟ لماذا نحن كعرب و مسلمين أصبحنا جبناء و أصابنا الوهن و الخنوع و القبول بالمذلة ..؟
فاليوم التراب والشعب الذي نجح في الخروج من حلقة الغثائية و الخنوع و الإذلال و العبودية و حرر إرادته، هو الشعب الغزاوي خاصة و الفسلطيني عامة .. أما باقي الشعوب العربية فهي عاجزة و مكبلة بقيود ” الخبز و العيش” شعوب مسلوبة الإرادة.. وحتى لا نلوم الحكام و الحكومات و نحملهم ما لا طاقة لهم به ، فهم نتاج طبيعي وإفراز نوعي لطبيعة الشعوب الواهنة و سيكولوجيتها العاجزة..
فما نعانيه من وهن وعجز يثير كثير من الأسئلة، وحتى أقرب للقارئ الصورة سأنقل عدسة المقارنة والمقاربة والاهتمام بإتجاه الصين و لنطرح سؤال ماذا لو كانت فلسطين جزءا من التراب الصيني الذي تم إحتلاله ؟
ففي مدينة شنغهاي الصينية حاولت الحكومة في إطار تقوية البنية التحتية، تماشيا مع الطفرة الاقتصادية التي شهدتها الصين عامة وشنغهاي خاصة، توسيع أحد الشوارع الرئيسية في المدينة. و بالفعل بدأت الحكومة المحلية في مفاوضات مع الساكنة المجاورة لشارع، بغرض تحويلهم إلى أماكن أخرى وتعويضهم عن نزع ملكية مساكنهم، لكن أغلبية السكان قبلوا إلا عجوزا طاعنا في السن اسمه”هونغشو” تمسك ببيته، الذي جاء في وسط هذا الشارع الرئيسي، وبالرغم من الجهود التي بدلها السياسيين و زعماء الحزب الشيوعي و الأصدقاء لإرضاء العجوز، إلا أن هذا الأخير رفض التنازل عن بيته، لأن له ذكريات تاريخية خاصة، وقد أيدت المحكمة هذه الحجة و أصدرت حكما لصالحه، و قد استمر هذا النزاع 14 سنة، و البيت يقطع جزءا من الشارع الرئيسي و لم يتم هدم البيت إلا بعد وفاة العجوز و تعويض ورثته..
هذه الواقعة حدثت في بلد يحكمه الحزب الواحد و نظام شديد الضبط، و لكن لا أحد يشكك في وطنية هذا النظام، و لذلك فإن الشعب الصيني قبل طوعا التنازل عن بعض حرياته العامة مقابل بناء دولة قوية، و هذا السلوك و الوعي الجمعي هو نتاج لعقود الإذلال التي شهدتها الصين منذ نهاية القرن 19 و مطلع القرن العشرين عندما أصبحت الصين عرضة للإحتلال الأجنبي و تكالب القوى الغربية على هذا البلد العريق.. و النظام الشيوعي انتصر و إستطاع البقاء في السلطة رغم فشل كل التجارب الدولية و على رأسها الاتحاد السوفياتي، لأنه عبر عن مشاعر و أحاسيس الشعب و حاول أن يغير وجه الصين و يجعلها قوة تضاهي و تتفوق على من أذلوها و إحتلوا أرضها و سفكوا دماء أبنائها، فهل فرطت الصين في شبر من أرضها أو تنازلت عن قيمها و معتقاداتها بل إن عبارة الخصائص الصينية أصبحت تشمل حتى مكافحة الأوبئة و الأمراض فمكافحة “السيدا” يتم وفق “الخصائص الصينية”، فالبلد يحترم ماضيه و يعتز بتاريخه و ثقافته و إنتماءه الحضاري، لأن من يضيع ماضيه يضيع حاضره و يدمر مستقبله …
لكن لنعود إلى بلداننا العربية لنرى أن الأنظمة الحاكمة شرعيتها مصدرها خارجي و أجندتها مرتبط بالعدو الأجنبي، الذي إحتل العالم العربي و قسمه لدويلات الطوائف، وزرع في قلب هذا العالم العربي الذي كان جسدا واحدا لنحو 14 قرن، زرع في قلبه جسم غريب إستيطاني إحلالي، غايته تقسيم أوصال العالم العربي، وتفكيك وحدته، بل ومنع أي إمكانية للوحدة أو الإستقرار وأعني الكيان الصهيوني، الذي إحتل فلسطين بدعم وتخطيط من القوى الغربية، وبتواطؤ من الأنظمة العربية التي تم وضعها لتكون حارسة على هذه الشعوب العربية، ومانعة لنهضتها و مكبلة لحريتها و ناهبة لثرواتها..
وما يحز في النفس حقيقة أن النظام العربي لازال عاجزا عن إتخاذ موقف شجاع ضد إنتهاكات الصهاينة و يقوم بتعليق اتفاقيات التطبيع، ولو من باب المناورة السياسية و الضغط على الكيان الصهيوني و امتصاص السخط الشعبي ، وحتى لا تتهم بأننا نجامل نظامنا السياسي فإني ادين النظام المغربي الذي لازال مترددا في قطع العلاقات الدبلوماسية وغيرها مع الكيان الصهيوني ..
فالشارع المغربي يغلي و يهتف بصوت واحد” كلنا فلسطينيون” ، أما أولئك الذين يمثلهم إتفاق التطبيع أو يرفعون شعار ” كلنا إسرائيليون” فهم بكل تأكيد أقلية، وإذا كان العكس فليبادروا بتنظيم مظاهرة شعبية في إحدى المدن المغربية دفاعا عن جرائم الاحتلال الصهيوني و لنرى حجمهم الحقيقي على الأرض …
نعلم أن التطبيع مع هذا الكيان الغاصب للأرض و العرض، ليس بوليد الاتفاق الذي وقعه سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المحسوب على التيار الإسلامي، فالجميع يعلم أن العلاقات بين النظام المغربي و الكيان الصهيوني علاقات تعود إلى ما بعد نشأة هذا الكيان مباشرة، و توسعت قبل 1967 و بعدها ، و لم يعد شيئا مخفيا فمن يستطيع القراءة بالإنجليزية يدرك حجم الخيانات التي مارستها الأنظمة العربية، فمن حسنات الصهاينة أنهم أقاموا نظاما ديموقراطيا على البلد الذي إغتصبوا أرضه و شردوا شعبه، نظاما لا يجد حرجا في إعلان خيانات الأنظمة العربية لشعوبها و لمقدساتها الإسلامية..ولعل في ذلك خير، فالأمة و أحرارها تحديدا يعلمون اليوم الصادق من الكاذب، و الخائن من الأمين، و الوطني من العميل…و ما عجزت عن تحقيقه ثورات الربيع العربي قبل نحو عقد بفعل تغلل ” المرجفين” و أتباع ” أبي بن سلول” سوف تحققه في السنوات القادمة بنجاح و على بينة من أمرها..
فمن المؤكد، أن الارتماء في أحضان أعداء الوطن و أعداء الأمة، لن يحقق مكاسب للبلاد و الأيام بيننا ، فما حصدته مصر و الأردن و فلسطين من إتفاقيات التطبيع سوف تجنيه الدولة المغربية ، بل ما حصلت عليه الإمارات “عرابة” التطبيع، و زعيمة محور العداء للأمة و قضاياها سيجنيه المغرب ، اللهم إن كانت السياحة الجنسية و إعتبار دبي و أبو ظبي قبلة الدعارة العالمية إنجازا ذا أهمية …
أيها الناس المغرب ليس بالبعيد عن خريطة الدم و التجزئة، قوة المغرب ليست في وجود جاهزية أو فعالية أمنية أو غيرها، قوة المغرب في إرادة ووعي شعبه، و هذا الشعب عبر التاريخ الطويل كان داعما للقضايا العربية و الإسلامية، و محاولة تحويل بوصلة الشعب و تزييف الحقائق لن يجدي نفعا، صحيح أن الظروف العالمية والإقليمية والمحلية القائمة اليوم، ساعدت إسرائيل على هذا التجبر والطغيان خاصة مع الاستسلام الفلسطيني الذي بدأ بإتفاقيات و ترتيبات أسلو ، والعجز العربي، والوهن الإسلامي، والغياب العالمي، والتفرد الأمريكي، والتحيز الأمريكي أيضًا .
ولكن هل تضمن إسرائيل أن تبقى هذه الظروف المساعدة لها باقية إلى الأبد؟ وهل أخذت صكًا من المولى عز و جل أن تبقى الرياح في الاتجاه الذي تهوى؟ نحن بقراءة سنن الله في الكون، وقراءة التاريخ من قبل، واستقراء الواقع في عالمنا: نؤمن بأن الدنيا تتطور، وأن العالم من حولنا يتغير، بل يتغير بسرعة غير محسوبة ولا متوقعة، فالصين التي عانت الإذلال قبل قرن هاهي اليوم تتهيأ لتتسيد العالم ، و تركيا التي تم فرض إتفاقية لوزان عليها بالقوة قبل سبع عقود هاهي اليوم تعود مجددا للواجهة …
فلا ينبغي أن نعتد بما يفعله بعض الخانعين من حكامنا و المطبلين لهم من سحرة فرعون، فهؤلاء بقرراتهم و مواقفهم يعبرون عن جهلهم بالتاريخ، و انفصالهم عن الواقع و عجزهم عن قراءة الأحداث بموضوعية و وطنية، لذلك لا يسعنا إلا مقاومة كل جهود التطبيع مع هذا الكيان الغاصب و إدانتها و مقاطعتها بكل الأشكال الممكنة، و لو بالدعاء و الكلمة و ذلك أضعف الإيمان، فالدعاء جند من جنود الله ،والكلمة الصادقة في مثل هذه الظروف أحد من السيف لأننا أمام معركة وعي و فهم و إدراك لحقيقة القضية و أبعادها الدينية و القومية ، فمعركتنا توعية أنفسنا و أبناءنا و زرع حب فلسطين و القدس في قلوبهم، و إعلامهم بأن القدس ستظل عاصمة فلسطين، و فلسطين ستظل أرض عربية إسلامية محتلة من قبل الصهاينة و سيتم تحريرها عندما تخرج الأمة العربية من تيهها و غيها، و الأقصى سيظل أولى القبلتين و ثالث الحرمين …فدوام الحال من المحال و عملية طوفان الأقصى بداية الغيث و بداية العد العكسي لزوال هذا الكيان السرطاني ، قال تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آلعمران:140) و نزلت الأية الكريمة في أعقاب غزوة أحد التي انكسر فيها المسلمون في عصر النبوة، وقدموا فيها سبعين من أغلى شهدائهم، بعد انتصار مبين قبلها في غزوة بدر، هذه الغزوة المباركة و الانتصار العظيم سماه القران الكريم يومها بيوم الفرقان قال تعالى:(يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)(الأنفال: 41)، فصعود الكيان الصهيوني و تعاليه نابع من ضعفنا و إبتعادنا عن ديننا و إهمالنا لحقائق التاريخ و الجغرافيا..
لكن عملية طوفان الأقصى قسمت ظهر الكيان و حقنته بفيروس الوهن و الضعف و الخوف ، فشعب الكيان سيفر بالتدريج و سيعود أفراده إلى مواطنهم الأصلية.. و أكثر ما أخشاه أن يعود بعضهم لبلدي المغرب عملا بالدعاية الصهيونية التي يتم الترويج لها في بعض الابواق الإعلامية المتصهينة ” المغرب مملكة بني إسرائيل ” و أقول لهؤلاء لا تستهينوا بشعب المغرب فهو سليل المرابطين و الموحدين صناع معركة الزلاقة وواد المخازن و معركة أنوال..فعلى أسوار هذه البلاد تم هزيمة جيوش جرارة، و وأد مخططات شيطانية و إنهاء إمبراطوريات صليبية معادية للإسلام و أهله، و لا تقل خبثا و عداءا عن الكيان الصهيوني …فحذاري من التلاعب بشعب عريق الحضارة و وشديد الانتماء لدينه الإسلام و لأمته العربية و الإسلامية ..و حسبنا الله و نعم الوكيل، و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون ..
كاتب و أستاذ جامعي
t.lissaoui@gmail.com