في الحروب يظهر أفضل ما لدى الناس من قيم إنسانية وأخلاقية وعناصر قوة، وتظهر التشوهات والتوحش وعناصر الضعف.
ينطبق هذا على الدول والزعماء والأحزاب والجيوش والمقاتلين والفنانين والمثقفين ومجلس الأمن ومجلس الجامعة العربية. «كل شيء انكشف وبان» كما رددها عبد المنعم مدبولي على خشبة المسرح.
تفرعت الحرب العسكرية إلى حروب إعلامية وحقوقية ومفاهيمية ومعاييرية.
تشن إسرائيل حرب إبادة، تدمر البنية التحتية شمال قطاع غزة وأهمها المستشفيات والمدارس والدفاع المدني، وتقطع الكهرباء والماء والوقود، وتدمر معظم المباني السكنية ويهجر أكثر من 1.5 مليون إنسان من أماكنهم المدمرة أو المهددة بالدمار، ويتواصل القتل شمالاً جنوباً متجاوزاً 11 ألف ضحية نصفهم أطفال وأكثرهم أبرياء على شكل جرائم حرب بحق الإنسانية.
إزاء ذلك يقول القادة والجنرالات الإسرائيليون إن إسرائيل تدافع عن نفسها، وإنها لا تتحمل مسؤولية الضحايا الأموات والأحياء الفلسطينيين، وإنما تحمل المسؤولية لحركة حماس التي هاجمت إسرائيل يوم 7 أكتوبر «وارتكبت مذبحة بمدنيين وعسكريين إسرائيليين وقامت باختطاف أطفال ونساء ومدنيين».
ورغم أن ما اتهمت به حركة حماس قوبل باستنكار وإدانة عالمية لكن ذلك لم يرق للقادة والجنرالات الذين يريدون تثبيت كل العالم على تلك اللحظة بالرواية الإسرائيلية الأصلية دون الالتفات إلى ما ترتكبه قواتهم يومياً من جرائم وفظاعات يندى لها جبين البشرية، يريدون من العالم غض النظر عن حرب الإبادة والتهجير والنكبة الجديدة التي يصنعونها بـ 2.3 مليون فلسطيني، وفصلها عن كل سياق سابق.
تقول جوديث بتلر – في موقع جدلية – «علينا توسيع رؤيتنا إلى ما وراء اللحظة الحالية المروّعة ومعرفة الفظائع التي عاشها الشعب الفلسطيني لعقود من الزمن وعدم حجب الظلم الجذري الذي تحمله الفلسطينيون، فضلاً عن الكارثة الإنسانية والخسائر في الأرواح الآن فما يحدث في قطاع غزة إبادة جماعية، مترافقة مع خطط لنقل السكان ومسح غزة بأكملها. وأضافت: يتم إظهار مشهد الحرب كأنه بين الشعب اليهودي وبين وحوش بشرية يسعون إلى قتله.
التأطير العنصري للعنف المعاصر يلخص التعارض الاستعماري بين المتحضرين والحيوانات التي يجب هزيمتها أو تدميرها للحفاظ على الحضارة.
إذا اعتمدنا هذا التأطير نجد أنفسنا متورطين في شكل من أشكال العنصرية الذي يمتد إلى بنية الحياة اليومية.
هذا التأطير لم يحدث بهذا المستوى السافر في الحروب السابقة ضد القاعدة وداعش وطالبان.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أكد بدوره على وجود سياق لما حدث يوم 7 أكتوبر حين قال أمام مجلس الأمن: من المهم أن ندرك أيضاً أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، لقد تعرض الشعب الفلسطيني لـ 56 عاماً من الاحتلال الخانق ومن التهام الاستيطان للأراضي وعنف وخنق الاقتصاد وتهجير وهدم المنازل وصولاً إلى تلاشي آمالهم في التوصل إلى حل سياسي يضع حداً لمحنتهم.
الفيلسوف سلافوي جيجيك اعترض على المفهوم الذي يحاول الإسرائيليون فرضه على العالم بالقول: ثمة حاجة إلى تحليل الخلفية المعقدة للوضع وكل من يحاول ذلك يتهم بتبرير الإرهاب.
وقال إنه ضد المس بالمدنيين الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء وأشار إلى نص في برنامج حكومة نتنياهو يقول: «للشعب اليهودي حق حصري وغير قابل للتصرف في جميع أجزاء أرض إسرائيل وستعمل الحكومة على تعزيز وتطوير الاستيطان فيها». تقابله أصولية فلسطينية تقول: «كل شيء هنا لنا لا يوجد مكان أو زمان لكم».
الممثلة أنجلينا جولي بدورها قالت إن «إسرائيل حولت غزة إلى مقبرة جماعية، وهي تقتل الأبرياء جميعاً، وتقول لديهم الإرادة الحرة للمغادرة. طالب مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة باستقالة غوتيريس، وتعرضت الممثلة جولي إلى هجوم شديد اللهجة، واتهم جيجيك بتبرير الإرهاب واتهم المتضامنون مع الكارثة التي يتعرض لها 2.3 مليون فلسطيني في غزة بأنهم يبررون الإرهاب ولا يكترثون بدماء الاسرائيليين. حتى الرئيس الفرنسي ماكرون الذي ساند إسرائيل فوق العادة تعرض للتوبيخ لأنه طالب بوقف استهداف الأطفال والمدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة.
قبل 7 أكتوبر وأثناء خوض اليسار والوسط الليبرالي الديمقراطي معركة طويلة ضد الانقلاب القضائي الذي دبره معسكر نتنياهو بن غفير سموتريتش، بدا نوع من المراجعة واستخلاص الدروس لدى رموز في أوساط المعارضين، كان أهمها الربط بين الاحتلال والسيطرة على شعب آخر والتحول الرجعي نحو اليمين العنصري والفاشية في إسرائيل، وبين تجاهل الحل السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من قبل معسكر اليمين، وعدم الاستقرار والتوتر والانفجارات الجزئية في الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس.
بعد 7 أكتوبر كان من المفترض بالمعارضين المضي في طريق إنهاء الاحتلال. لكن ما حدث هو العكس، أي التماهي مع معسكر اليمين ومع الحسم العسكري وعسكرة المجتمع بدعوى وجود خطر وجودي يهدد الكل الإسرائيلي.
التشوش الذي أحاق باليسار يؤكد افتقاده إلى رؤية مختلفة عن رؤية اليمين.
رفض اليسار في معظمه وجود سياق لانفجار 7 أكتوبر وأهمه إقناع السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني بأن السعي أو الموافقة على حل الصراع سياسياً وعبر التفاوض هو خيار عقيم ومهين للكرامة الوطنية.
وفي غياب حركة وطنية ديمقراطية مستقلة اندفعت الفئات الواسعة من الشبان إلى خيار المقاومة كخيار بديل بقطع النظر عن الأيديولوجيا والرؤية السياسية اللا ديمقراطية التي تفتقد إلى أفق حقيقي وإلى حلفاء حقيقيين.
اليسار الإسرائيلي ومعه الليبرالية العلمانية فقدا صوابهما برفضهما الآراء المعارضة النقدية للرواية والتفسير الرسمي والشعبوي، حدث ذلك بعد 7 أكتوبر، مع وجود استثناءات قليلة.
فقد تعرضت الأكاديمية الإسرائيلية نوريت بيلد الحنان إلى فصل عن العمل بتهمة تبرير إرهاب حماس، لمجرد كتابتها مقولة للفيلسوف سارتر تقول: «بعد كل الأعوام الطويلة التي كان فيها عنق الأسود مخنوقاً تحت نعالك، ومنح فجأة فرصة أن يرفع عينيه في وجه الضوء، فأي نظرة تعتقد أنك كنت ستراها هناك».
هذه النظرة هي بالضبط ما شاهدناه يوم 7 أكتوبر. وطالبت الجامعة العبرية الأكاديمية الفلسطينية نادرة كيفوركيان بتقديم استقالتها بتهمة التوقيع على عريضة تطالب بوقف الحرب وحماية حقوق الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين. وتلقت الأكاديمية عشرات التهديدات والشتائم العنصرية.
واليسار الإسرائيلي عبر عن حنقه من اليسار العالمي بسبب تضامنه مع شعب يتعرض للإبادة. ورفض ربط ما جرى يوم 7 أكتوبر بما قبله من سياسات كولونيالية كالاستيطان والنهب والتطهير العرقي والعقاب الجماعي. لكنه يربط بين حماس والمواطنين في قطاع غزة. ويرفض مساواة الضحايا.
جذر الموقف اليساري المتماهي مع اليمين يعود إلى عدم الاعتراف بالطبيعة والممارسة الكولونيالية وثيقة الارتباط بتبني الأيديولوجيا الدينية أو باستخدامها لتسويغ «الحق» في امتلاك المكان.