لم يعد هناك شك بأن الولايات المتحدة تنكشف أكثر فأكثر كذراع سياسية للمزاج والبرامج السياسية التي يصنعها هواة السياسة في اسرائيل، ولا تكلف واشنطن نفسها حتى السؤال عن مدى رعونة تلك البرامج ولا عن كلفتها الدامية ولا عن زيادة تعقيداتها لواقع يجتهد العالم لفكفكة أزماته ... فبات السلوك السياسي الأميركي في المنطقة أصغر كثيرا من حجم الدولة العظمى وتجربتها ومراكز دراساتها ودبابات التفكير فيها.
وحتى لا يكون الكلام نظريا كان كلينتون في قمة كامب ديفيد صدى لصوت إيهود باراك فأضاع فرصة حقن الدم، وكان وريثه دونالد ترامب مجرد حامل صغير لبرنامج نتنياهو المراهق في صفقة القرن، ولا يبدو أن جو بايدن بعد ما أظهره من خفة في الشهر الأخير يبتعد كثيرا عنهما.
يحمل أنتوني بلينكن مشروعه الجديد لحكم غزة ما بعد حماس مبديا كل هذا الحماس في لقاءاته مع من يعتقد أنهم سيساعدونه على ذلك المشروع، ويُنظِّر له في كل مؤتمر صحافي كأنه يخترع العجلة متناسيا أن هذا يضع دولته في موضع سخرية، ببساطة شديدة لأنها الدولة التي احتضنت اتفاقيات أوسلو التي وقّعت في حديقة ساحة بيتها الأبيض وقضت بولاية سلطة فلسطينية واحدة تحكم وتدير شؤون الفلسطينيين في الضفة وغزة، لكنه يلقي بما يحفظ ماء وجه دولته لأن البرنامج الإسرائيلي يقوم على عدم توحيد الفلسطينيين للتهرب من المفاوضات وحل الدولتين.
برنامج الدولتين حسب الظن هو رؤية أميركية وضعها الرئيس جورج بوش وحدد الرئيس باراك أوباما حدود الدولتين، ليس هناك وضوح أكثر من هذا فلماذا يدور بلينكن باحثا عمن يحكم الجزء الفلسطيني في غزة وكأن مواطنيه يتامى بلا أب على قارعة الطريق ليعرضهم على من هو مستعد للتكفل بهم ؟ يفترض أن هذا شأن فلسطيني يتم بالانتخابات ويقرر فيها الفلسطينيون من يحكمهم دون أن تنتبه أميركا العظمى التي تضع تمثال الحرية في قلب نيويورك إلى أن حديثها هذا يتنافى مع ما كتبه كبار قانونييها لحظة تشكيل الأمم المتحدة كلاما كبيرا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها.
اليوم التالي للحرب هو السؤال الأصعب بالنسبة لإسرائيل التي يقترب تملصها ولعبتها من النهاية، ستأخذ حصتها من الدم وتنصرف كما قال محمود درويش شاعر الفلسطينيين. صحيح أن الثمن كبير جدا جدا جدا لكنّ هناك ثمنا يدفعه العالم من إنسانيته وقيمه ومؤسساته التي بدت حالة صورية باهتة انكمشت أمام ما تفعله اسرائيل ضد الأطفال والمدنيين، لكن إسرائيل ستخرج أيضا من هذه الحرب أكثر هشاشة وأكثر ضعفا وأقل قوة وأقل قدرة على الصمود أمام السؤال الصعب. فقد حدث لها ما يهشم صورتها لعقود قادمة أولا في السابع من أكتوبر لعدم قدرتها على تأمين نفسها وطلبها المساعدة من العالم، وثانيا صور قتل النساء والأطفال فقد ظهرت كدولة في جهة والعالم كله في جهة وهي تدوس كل الأخلاق والإنسانية وتسحق الآدمية دون أن يرف لها جفن. وفي هذا ما يتعارض مع قيم العالم الحضاري.
أوروبا مع أميركا التي وجدت نفسها تندفع بلا حساب وأفلتت لجام نتنياهو ليضع الجميع في حالة تضاد مع قيم شعوبهم ومع منظومة السلوك الإنساني المتصاعدة للناس هناك، وتلك القيم جزء من كتبهم التعليمية والتربوية. ومشكلة أوروبا أنها تعزز تلك القيم منذ ما بعد الحرب العالمية وفجأة حين أصبحت ثقافة عامة تكتشف شعوبها حجم النفاق والازدواجية، وها هي تحاول ترميم موقفها بالمطالبة بهدنة إنسانية أو بكلام عن الضحايا والمدنيين بشكل مرتبك يعكس تلك الازدواجية التي وقعت فيها.
يحاول الإسرائيلي الاستمرار بفهلوته السياسية مستغلا قوة الذراع السياسية الأميركية، ولكنه لا يعرف أن وقود ذلك الاستمرار قد نفد ولا خيار ليس فقط بسبب احتراق لعبته بل أيضا بسبب فائض الضعف الذي ظهر الشهر الماضي أمام قوة محلية، وفائض القوة الذي ظهر بعدها ضد المدنيين التي استدعت كل تلك المظاهرات في كبرى العواصم. وما بين هذا وذلك ينعكس الفشل على الأداء الأميركي حامل المشاريع، ولا مجال أمام إسرائيل إلا مواجهة الحقيقة التي حاولت التملص منها وهي أن ولاية الفلسطينيين للسلطة وليس لغيرها وأن لا مجال للإفلات من الحقيقة السياسية التي حاولت جاهدة وسخرت كل إمكانياتها من أجل التهرب منها وهي حق الفلسطينيين بدولة.
لكن هذا بات يتطلب رشاقة سياسية فلسطينية من السلطة أمام خطر ما زال يلوح وهو تفريغ غزة والترويج بأنها يتيمة يبحثون لها عن أب، وهذا يتطلب أن تتقدم السلطة باعتبارها صاحب الولاية على الشعب بمشروع وسط حالة الفراغ والمزاد السياسي القائم في المنطقة. فما يحمله بلينكن مشروع يمس بل ينزع تلك الولاية وإذا ما نجح على نمط ولاية دولية أو تهجير سينتقل النجاح الإسرائيلي للضفة ولن تكون سلطة هناك لأن المشروع الإسرائيلي أساسا في الضفة وهذا يُشتَم من تصريح الملك الأردني بالتحذير من الترحيل للأردن، على السلطة أن تتحرك، أن تكون مبادرة لا حالة انتظارية عاجزة كما نرى فالمشروع الوطني على وشك تلقي ضربة نهائية إذا لم يتم تدارك الأمر يكون قد تبدد ...!