ها نحن ندخل الأسبوع الرابع للعدوان الغاشم على غزة، ولا بوادر للتوقف من قبل آلية الحرب الإسرائيلية والأمريكية. انقطاع الكهرباء والانترنت ليلة السبت تحضيراً للتوغل البرّي ذكّرني بيوم القضاء على صدام حسين. الغبار الكثيف للدمار الضخم وسط صوت المدفعيات والصواريخ يجحظ العيون ويصم الاذان الا من هول الكارثة. لا أريد أن أحوّل هذا المقال لتفريغ نفسي أو عاطفي شخصي، فلا مكان لهذا وسط هذا الكم من الخسارة البشريّة.
من السهل أن أترك نفسي أمام الشاشة وأشاهد ما يجري وسط تكبيرات نصر أو صرخات ألم لقتل ودمار مستمر آخر. من السهل ان أقول انها مقاومة حتى النصر، ولكن أي نصر؟ هل النصر تزداد قيمته بازدياد عدد الضحايا؟
آسفة، ولكن لا أستطيع ان أرى الا هزيمة إنسانية فادحة. لا أستطيع الا أن أرى الضحايا من اهل غزة بين عوائل ثكلت ودمرت ومسحت، وخراب ودمار سيحتاج لزمن من أجل إعادة بنائه. لا أستطيع الا أن أفكّر بالحياة المحفوفة بالمخاطر مع كل نفس يأخذه أبناء غزّة الآن. انعدام الأمن والأمان وانتظار موت محتم. أي كارثة أكبر وقعت علينا او يمكن تخيلها؟
ولكننا بكل اسف، لا ننظر لما يجري الا من خلال شاشة. استطعنا أن نعزل أنفسنا عن غزة وأشعلنا غضبنا أكثر مطالبين بصمود أكثر ومقاومة أكثر وتضحية أكبر، بينما لا نتجرأ أن نشارك مشاعرنا علنا عبر وسائل التواصل إلا من خلال رسائل بمجموعات نعتقدها آمنة مؤقتاً.
نعم، المقاومة حق، وبالمقاومة صمود حقيقيّ، وما يجري في غزّة بطوليّ يشبه أساطير العالم القديم. أخاف أن أقول لا فرق بين مواطن ومقاوم مسلح في هذه الاثناء، لأن غطاء الدمار الغاشم على غزة يبرّره هذا القول. هم يريدون أن يحمل كل فلسطيني في غزّة اسم مقاوم لكي يبرروا فعلهم الاجرامي الكارثي. ولكن، ربما علينا ان نتمسك بمعنى المقاومة أكثر الآن، لأننا نعيش فعلا ما يعني أن الصمود والوجود في حالنا هو مقاومة.
أن يذهب فلاح لقطف زيتون مقاومة، لأنها تكلفه بالفعل حياته. ما يجري في الضفة من جرائم وترعيب وترهيب اشبه بمشاهد نكبة لم تزل ذكراها وأحداثها.
أن يرمي شاب أو طفل حجراً يعني قتله اليوم مباشرة. أن يعبّر إنساناً عن رأيه يعني سجنه وتعذيبه. أن يوقفك شرطي أو مستوطن اليوم يعني أنك تقف بين هاويتين كلاهما كارثي.
لقد أوجعتهم هذه الضربة ولا يستطيعون التخلص من وجعها. كالرومان عندما اجتثّوا ثورة اليهود قبل ألفين سنة. ولكنهم أبداً لا يتعلّمون من قصصهم، لأنّهم لا يرون من قصص المقاومة إلا أنفسهم: هم فقط لهم الحق بمقاومة الاشوريين والبابليين والسلوقيين، والرومان، والألمان، والإنجليز.
ربّما نقف الآن موقف التّائه الغاضب لا نرى مما يجري الا الدّمار اللاحق بالجميع. ولكن لابدّ لهذا القتل والدّمار الا أن يتوقف في لحظة قادمة. ومهما رفعنا من صوت المقاومة، لا بدّ الا أن يكون هناك حاجة لحل سياسي. فالمقاومة هدفها التّحرير، وما بينهما هو حلول سياسية.
نعرف جيداً أنّ التحرير لن يأتي بقوّة السّلاح، لأننا لا نملكها بكل بساطة. ولكن القوة الحقيقية تكمن بالقوّة التي تمكّن من التفاوض على قاعدة صلبة.
الاعتماد او التوقع على تدخلات خارجية ليس بوارد. فما نراه من مناورات لحزب الله قد تكون ساعدت ببعض التشويش لبعض الوقت، ولكن من الواضح ان حزب الله لن تغير تدخلها بأكثر مما شاهدناه.
ليس لنا الا أنفسنا ودعم بعض الشعوب الوجداني لنا.
إسرائيل لم تكن بحاجة لتفاوض على مدار أكثر من عشر سنوات. كانت مرتاحة بالوضع القائم، فالانقسام هو الحال الوحيد، وكل صاحب سلطة متسلط على منطقته. يحكمون كملوك الطوائف في آخر عقود الأندلس. كلّ يحكم وفقاً لمصالح إقليمية محدّدة ضد أو مع مصالح دوليّة كبرى. والشعب يدفع الثّمن حياته، بين عوز وذل وقتل.
اليوم، تغيّر ميزان القوى، ليس أمام إسرائيل الا التّخلّص من حماس تماماً، او التفاوض معها. كان يمكن القول أنه لا يمكن التّخلص منها قبل عدة أسابيع، بالتفكير أن النّيّة بهذا القدر من القتل والدمار لا يمكن أن تنفذ. ولكن مما هو ظاهر وواضح أنه لا نيّة للحكومة الإسرائيليّة ولا الأمريكيّة ولا الشّعب الإسرائيلي بالتوقف. وكأنّ المزيد من القتل والدّمار فقط ما يشفي غليلهم.
ربّما الفرق الوحيد بين ما قامت به أمريكا بالسابق والآن إنّ قيادات حماس السياسية ليست بغزة، وقد يشفي غليلهم قتل ما يمكن قتلهم من كل من هو موجود في غزّة من قيادات. ولكنّنا لسنا أمام مشهد كمشهد العراق أو أفغانستان. لأنّ الأمر هنا ليس أمر قتل شخص بعينه أو بعض أو مئات أو الاف الأشخاص لاجتثّوا المشكلة التي يحدّدونها لأنفسهم. هم يعرفون جيّداً انّ حماس لا تمثل فصيلاً يمكن تسميته بما يريدون أو يقرّرون، ومهما حاولوا من إضفاء صفة الخوارج عليهم لا تنفع، لأنّهم بهذا يحوّلون الشّعب بأكمله فعلاً للانتماء إليهم وجدانيا على الأقل. وغير هذا، قيادات حماس الحقيقيّة موجودة في قطر، فلو صدقت نيّة التخلص منهم لتمّ الضغط على قطر.
ما تريده إسرائيل حكومة وشعباً الآن القتل والمزيد من القتل من أجل إشباع الهزيمة التي لحقت بهم. فالشعب يشعر بمرارة ما حل به: فهم استيقظوا على حقيقة مدوّية، بأنّ كل ما وعدوا به من أمن وأمان هش. إنّ الآليّة العسكرية والمخابراتية والأمنية التي يتغنّون بها ليست بالحقيقة أكثر من مسلسل فوضى على نتفلكس، دراما يندمج فيها الخيال ببعض الواقع. أمّا الحكومة، فليس أمامها الا المزيد من القتل والدّمار والبناء أكثر على غضب الشعب من مصابهم الجلل، لأنه بلحظة ما عندما ينتهي كل هذا الدمار، سيستفيق الشعب الى ما أحلّ به من خراب آخر على الحكومة التعامل معه: من المسؤول عن الفشل الأمني والمخابراتي والعسكري؟ وكيف سيتم بناء ما تم تدميره من اقتصاد آخذ بالسقوط المدوي؟ كيف سيتم درء الكراهية التي تصاعدت بسرعة البرق ضد العرب في اليوم التالي لتشغيل المصانع ومنشآت البناء وغيرها مما يعتمد عليه الاقتصاد الإسرائيلي اعتمادا مركزياً؟
لهذا، تستمر الحكومة الإسرائيلية بالتشبث في موقفها العدائي التدميري. وكأن نتانياهو يقدم نفسه بدور هزيل لشمشون بعد خداع دليلة له. فيدعي انه يدمر الدفاعات جميعا على الأعداء وعلى نفسه، لكنه بالحقيقة يحاول ان يجد مخرجاً لنفسه من سجن ومحاسبات حقيقية واكبر على ما يبدو مما نعرفه.
ولكن ما الذي نستطيع فعله الآن غير التكبيرات والنواح من أجل غزة؟
نحتاج ان نكون على قدر هذه التضحيات. وربّما لا كلام فوق دعوات وقف فوري لهذا العدوان الغاشم. ولكن إذا ما فكرنا باليوم التالي ولم نكن على قدر هذه التضحيات، فنحن بالفعل لا نرقى بأن نكون بشراً نستحق الحياة بشرف. يجب أن تتم المصالحة الفلسطينية فوراَ، وقد يكون اقتراح الدكتور سلام فياض في مقاله الأخير هو الأكثر عقلانية وأقرب للتحقق إذا ما اجتمعت النية الحقيقية لنا شعباً وقيادات بأن لا مكان لنا على الخارطة الوجوديّة طالما يقصمنا الانفصال الحزبي والفصائلي. قد يبدو الاجتماع الفلسطيني تحت منظمة التحرير واهياً، وهو كذلك لطالما النّيّة غير خالصة لهذا الحل. فلا حل لدولة او دولتين او غيرها بلا قرار فلسطيني تحت بيت واحد.
لن تقوم لنا قائمة طالما يفرّقنا التحزب ويغلب الفصيل على الوطن.
لا منظّمة تحرير بدون الكل الفلسطيني. والكل الفلسطيني لا يكون بلا الأحزاب السياسية الفلسطينية غير المتواجدة في المنظمة بشكلها الحالي.
ولأن المنظمة هي الغطاء الوحيد الذي يمثلنا شئنا أم أبينا، فلا مفر أمامنا إلا إصلاحها باحتوائها للكل الفلسطيني لا الجزء فقط.
لابدّ لنا أن نكون قد أيقننا، أن ليس لنا الا نحن. ونحن كلنا بألواننا السّياسية المختلفة عرضة للمصاب الغاشم الذي حطّ على غزّة اليوم. ولا يمكن لنا أن نتكلّم بحلول سياسية بينما الإحلال الفصائلي الفلسطيني قائم.
كاتبة فلسطينية