الصــــــــدمـــــة..عبد الغني سلامة

الإثنين 09 أكتوبر 2023 10:07 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الصــــــــدمـــــة..عبد الغني سلامة




كانت الأيام التي سبقت الهجوم الفلسطيني الكاسح أياما فلسطينية عادية؛ الاحتلال يواصل ممارساته الإجرامية من قتل واعتقال ومصادرة أراض وهدم بيوت، وتدنيس للمقدسات، وعربدة للمستوطنين.. والفلسطينيون بما لديهم من إمكانات يواصلون المقاومة والتصدي بالقدر الذي يبقي الأمور تتحرك بهدوء وأحيانا بسكون غامض، والأفق السياسي مغلق تماما، ونتنياهو يواصل خطاباته المتعجرفة بالادعاء أن إسرائيل القوة المتفوقة الوحيدة في الإقليم، وأن العالم بحاجة إلى تطورها التكنولوجي، وأن العرب يلهثون وراء التطبيع معها.. حتى أطل فجر السابع من أكتوبر، حيث أفاق الجميع على خبر مفاجئ: «حماس» تقصف المدن والمستوطنات الإسرائيلية بوابل كثيف من الصواريخ.
لماذا؟ ما الذي جرى؟ ما الذي يدفع «حماس» لهذه المغامرة؟
قبل أن يستفيق أحد من المفاجأة، جاءت الصدمة: مئات المقاتلين من «القسام» يدخلون مستوطنات غلاف غزة في هجوم شامل ومكثف براً وجواً.. حتى الآن يبدو الخبر صادما، لكن الصدمة الكبرى حين رأينا معسكرات جيش الاحتلال ومستوطناته وتحصيناته تنهار تباعا، وتنتشر صور القتلى الإسرائيليين، وصور المقاتلين الفلسطينيين وهو يعودون إلى غزة ومعهم عشرات الأسرى من الجنود والمستوطنين، فيما ينجح عشرات آخرون في اقتحام العديد من المستوطنات والتحصن فيها وأخذ رهائن، والاشتباك مع العدو.. كل هذا قبل أن تستفيق إسرائيل من صدمتها.
الحصيلة الأولية أزيد من 600 قتيل، و1800 جريح، وعدد كبير من الأسرى، ومئات المفقودين، أغلبيتهم من الجنود، وبعضهم ضباط برتب عالية.. شيء يفوق الخيال.
عملية بطولية نفذت بمنتهى الشجاعة والدقة، كبدت العدو أكبر حصيلة خسائر يتلقاها في يوم واحد طوال تاريخ دولته التي بدت واهنة ومكشوفة وهشة.. وهذه الإهانة الشديدة لإسرائيل لا تنكأ جرح حرب أكتوبر وحسب، بل تفتح جرحا جديدا لن تشفى منه أبدا.  
هذا اليوم «يوم العبور الفلسطيني» سيخلده التاريخ، وسيعيد ترتيب المنطقة من جديد، وستكون له تبعاته العميقة على كافة المستويات؛ فلسطينيا، سيعيد الروح لجسد أنهكته الطعنات والخيبات، وسيبث الأمل لانطلاقة جديدة.. وسيفتح أفقا سياسيا جديدا.. شريطة أن تحسن جميع الأطراف الفلسطينية التصرف، اليوم وغدا.. وإلا انقلب النصر إلى خيبة أخرى.  
مع وجاهة المقارنة (لكن دون مبالغة) بين هجوم المقاومة الفلسطينية المظفر صبيحة السابع من أكتوبر 2023، وبين عبور الجيش المصري في 6 أكتوبر 1973، يجدر التذكير بحقيقتين، الأولى أنّ الانتصار المصري الكاسح سرعان ما تحول إلى إخفاق عسكري، عرف بثغرة الدفرسوار، نتيجة أخطاء تكتيكية، ثم أفضت الحرب إلى تسوية سياسية تمخضت عن كامب ديفيد، والتي أتت لصالح إسرائيل. الثانية أن الصدمة التي تلقتها إسرائيل أدت إلى تحولات عميقة في البنية السياسية والاقتصادية الإسرائيلية، أفضت إلى بدء أفول حزب العمل، وصعود «الليكود»، واليمين الإسرائيلي الذي ما زال يواصل صعوده حتى اليوم.
من المبكر جدا، الحديث عن النتائج السياسية لهذا الهجوم، فهذا يعتمد على حجم الرد الإسرائيلي، لكن حدثا عسكريا بهذه الضخامة ستكون تداعياته السياسية عميقة جدا، وأخشى أن تكون أخطر مما نظن.
وفيما يتعلق بتوقيت الهجوم، هنالك الكثير من التفاصيل المهمة والتي قد يفيدنا بها الخبراء العسكريون، أما في البعد السياسي فقد أتى الهجوم بعد أربعين أسبوعا من الاحتجاجات الإسرائيلية ضد الحكومة، والتي هي في جوهرها صراع بين مكونات الدولة والمجتمع الإسرائيلي على تحديد طبيعة وهوية إسرائيل، ومستقبلها، وهذا الصراع الداخلي كاد يصل إلى حافة حرب أهلية، وقد بلغ منحى خطيرا بوصوله إلى الجيش والأجهزة الأمنية، ومحاولة السيطرة عليهما باعتبارهما أهم أهداف اليمين الصهيوني (بالإضافة للقضاء)، وبما أن هذا الجيش تعرض لإهانة منكرة ومُرغت كرامته بالوحل فإنه حتما سيكون موضع صراع مكشوف للسيطرة عليه تحت عنوان محاسبته على تقصيره، وستتم مساءلة الأجهزة الأمنية على إخفاقها وفشلها الذريع.  
نوعية التغيير المتوقعة في مؤسستي الجيش والأمن ستعتمد أيضا على المعلومات التي ستتكشف لاحقا، وربما يكون الموضوع أكثر من مجرد تقاعس، وارتخاء، ويوم عطلة، وعنصر المفاجأة.
اللافت للانتباه أن إسرائيل أعلنت «حالة الحرب»، وهذه المرة الخامسة التي تفعل ذلك، وعند الإعلان عن حالة الحرب فإن القيادة السياسية وقيادة الجيش تستطيع فعل كل ما لا تستطيع فعله أثناء حالة السلم من قرارات وإجراءات وسن قوانين.. وأقصد هنا ما يتعلق بالوضع الداخلي الإسرائيلي وليس فيما يتعلق بصلاحيات الجيش أثناء عملياته العسكرية، فقد خاضت إسرائيل كل حروبها على الثورة الفلسطينية في لبنان، وعلى «حزب الله»، وجميع حروبها السابقة على غزة دون أن تعلن «حالة الحرب»، وكان لدى الجيش في كل جولة عدوان الصلاحيات كاملة وتحت تصرفه كل مقدرات الدولة، فلماذا «إعلان حالة الحرب» هذه المرة؟
وبحسب بعض التحليلات التي استمعت إليها، فإن ما جرى قد يكون مخططا مسبقا استدرجت فيه «حماس» لافتعال حرب كبرى، ستعمل إسرائيل على نقلها إلى الضفة لخلق الظروف المهيئة لإطلاق مشروعها القديم الترانسفير.. وأنا دوما أميل لاستبعاد نظرية المؤامرة، لأن إسرائيل لا تقبل بتاتا المساس بكرامتها على هذا النحو المهين، ولا تقبل هذا العدد الكبير من القتلى، والأهم لا تقبل أن تخضع لمفاوضات ولديها أسرى محتجزون.. لكن هذا لا ينفي إمكانية قيام قطعان المستوطنين بتنفيذ هجمات مسلحة انتقامية ضد قرى فلسطينية واقتراف مجازر، وبالتالي قد تتطور الأمور إلى منحى خطير جدا.. قد يؤدي فعلا إلى ترانسفير، خاصة مع حكومة يمينية متطرفة يحكمها مجانين.
إعلان حالة الحرب، والصراع الداخلي الإسرائيلي، ووجود حكومة يمينية هي الأشد تطرفا، ودعم أميركي غير محدود تمثل بدفع 8 مليارات دولار فورا.. مع عملية نوعية للمقاومة بهذا الحجم، وهذا القدر الكبير من الخسائر الإسرائيلية.. كل هذا يعني أن الحرب الدائرة لن تكون كسابقاتها، والمرحلة القادمة ستكون شديدة الخطورة.. وبيد الفلسطينيين ورقتان رابحتان، وإذا أحسنوا استخدامهما ستكون النتائج مختلفة عن كل المرات السابقة: الوحدة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية، وهذا العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين.. وبعد ذلك التقدم بخطاب سياسي واع وواقعي.
الحرية لفلسطين، والنصر للمقاومة، والسلامة لأهلنا في غزة.