أشعر بالحزن لأنني ضيعت سنوات من عمري في إجراءات اللجوء"، بهذه الكلمات وصف الشاب الفلسطيني حسن عابد، المقيم في ألمانيا، حاله وحال الكثير من الشباب المهاجرين من غزة.
وعمل عابد قبل الهجرة في عدة محال تجارية، ولكن تدني الأجور والوضع الاقتصادي السيئ الذي يعانيه قطاع غزة المحاصر من الاحتلال الإسرائيلي حال دون تلبية متطلباته المعيشية وآماله المستقبلية.
يقول عابد (24 عاما)، في حديثه من مهجره للجزيرة نت، "أنهيت الثانوية العامة، ولم أتمكن من إكمال الدراسة الجامعية لسوء الوضع الاقتصادي، فافتتحت مشروعا صغيرا على بحر غزة لبيع الذرة.. ولكن العائد المادي القليل جعلني أفكر في الهجرة لإيجاد فرصة عمل أفضل".
معاناة مركّبة
ووصف عابد رحلة معاناته للوصول لليونان قائلا "بالكاد استطعت الحصول على 800 دولار لتغطية السفر إلى تركيا، وعند الوصول إليها حاولت 9 محاولات سيرا على الأقدام في الغابات العبور إلى اليونان، وكانت كل محاولة تستغرق 8 أيام، فيقبض علينا حرس الحدود اليوناني لنعود إلى معاناة المحاولة من جديد".
اضطر حسن عابد للعمل في تركيا لسنتين من أجل جمع مبلغ لا يقل عن ألفي دولار، ليدفعه رسوما للمهربين من أجل الوصول إلى اليونان عبر الحدود البحرية بين البلدين. وهذا الطريق البحري هو الوحيد المتاح للوصول إلى الوجهة المطلوبة.
بعد أن استقر به الحال في ألمانيا، يقول عابد "نواجه العنصرية والبعد عن الأهل، لكننا نتحمل ذلك مرغمين مقابل ما تقدمه هذه البلاد لنا من مسكن وعمل وراتب شهري يؤمّن لنا مستقبلنا".
ويشير الشاب، الذي غادر غزة منذ 5 أعوام، إلى تدفق مهاجرين نحو ألمانيا مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية بداية العام الماضي، وتكدّس اللاجئين الأوكرانيين فيها، ويضيف بأسف "واجهنا معاناة جديدة، وهي تمييز المهاجرين الأوروبيين عن العرب".
وحمّل عابد الاحتلال الإسرائيلي وحصاره لغزة المسؤولية عن معاناة الشباب الغزّي، لكنه لم يعفِ الحكومة في غزة ورجال الأعمال من مسؤولياتهم عن هجرة الشباب. وقال إن "أصحاب المشاريع التجارية الكبيرة استغلوا ظروفنا، وتدنت أجورنا لحد لا يعقل، والحكومة فشلت في توفير فرص عمل لنا".
معدلات معقولة
ووسط أحاديث ومشاهد متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى ارتفاع أعداد الشباب المهاجرين من القطاع، أكدّت هيئة المعابر والحدود في غزة أن أعداد المغادرين والعائدين للقطاع موافقة للمعدل السنوي المعتاد.
ووفق بيان للهيئة في الثامن من سبتمبر/أيلول الحالي، "تم تسجيل مغادرة 113 ألفا و234 مواطنًا منذ بداية العام 2023، في حين تم تسجيل وصول 116 ألفا و651 مواطنا". وحذر البيان من تداول أرقام وإحصاءات غير صحيحة لأعداد المسافرين أو المسجلين للسفر، "والافتراض خطأ أن كل من سافر قد ترك قطاع غزة".
من جهته، نفى رئيس المكتب الإعلامي الحكومي سلامة معروف ما يتم تداوله من أعداد كبيرة لمهاجرين من القطاع، رافضا وصفها بالظاهرة، وقال إنه "قياسا بفترات سابقة، فأعداد المغادرين أقلّ بحسب ما سجلته هيئة المعابر، وهذا يدحض الأرقام التي جرى الحديث عنها".
وقال معروف للجزيرة نت "منذ بداية العام الحالي وحتى منتصف الشهر الجاري غادر إلى تركيا -العنوان الأبرز لقاصدي الهجرة وصولا لأوروبا- قرابة 2855 مواطنا من الفئة العمرية 18-30، منهم مئات من الطلبة التحقوا بالمنح التركية، ومئات آخرون قدموا لغزة خلال عطلة الصيف وعادوا بعد انتهائها، فضلا عمّن خرجوا بحثا عن تجارة أو سياحة أو غيرهما".
والناظر للظروف التي شهدها قطاع غزة من حروب وحصار، يجد أن مغادرة القطاع -حسب معروف- تأتي في سياق الوضع الطبيعي مقارنة بالمجتمعات الأخرى التي يغادر فيها السكان لأهداف مختلفة سواء للإقامة وتحسين واقع الحياة والبحث عن عمل.
وبيّن أن "المؤسسة الحكومية تبذل جهدا لإنجاز العديد من البرامج في محاولة للحد من معدلات البطالة والفقر، غير أنها تبقى محدودة قياسا بالحاجة الكبيرة في ضوء الحصار وتبعاته الثقيلة على الحالة الاقتصادية ومع ارتفاع الكثافة السكانية في القطاع".
هل ينوون العودة؟
يقول رئيس "الهيئة الدولية لحقوق الشعب الفلسطيني" صلاح عبد العاطي إن معدلات الهجرة الأخيرة من غزة دليل على الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي يحياها المواطن بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع للعام الـ17 على التوالي.
وبحسب عبد العاطي، نتج عن هذا الحصار خسارة الاقتصاد الفلسطيني قرابة 17 مليار دولار، ودمار بالبنية التحتية والمنشآت الاقتصادية، مما حدّ من قدرة القطاع الخاص على التشغيل، وصار 74% من السكان يعتمدون على المساعدات الخارجية، علاوة على وصول نسبة البطالة إلى 49% بين سكان القطاع.
وقال "لا توجد نسبة دقيقة حول أعداد المهاجرين، واستطلاعات الرأي التي قامت بها مؤسسات مختلفة، من بينها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، تشير إلى أن نحو 40% من الشباب في الأراضي الفلسطينية يرغبون في الهجرة، منهم 15% من الضفة الغربية و25% من القطاع".
واستدرك أن "63% من الشباب عبّروا في استطلاعات رأي خاصة بالهجرة أنهم لا يريدون هجرة نهائية، بل يريدون فرص عمل وحياة أفضل يستطيعون من خلالها مساعدة أنفسهم وأسرهم ثم العودة إلى بلدهم".
ذهاب للمجهول
قبل مغادرته عبر معبر رفح الحدودي في قطاع غزة، قال الشاب محمد أحمد إنه لن ينسى دموع والدته وأخواته، ومطالبته بالعودة إلى وطنه في أقرب فرصة.
وتابع "أكملت دراستي الجامعية، وعملت في أعمال البناء وأجيرا في محال الملابس وغيرها، لكن الأجور المتدنية حالت دون استمراري، فقررت الهجرة لتأمين مستقبلي".
وقال "ليس لدي نية للاستقرار خارج غزة، فكل ما أسعى له هو جمع مبلغ من المال أستطيع به العودة إلى وطني وإقامة مشروع خاص بي أستطيع من خلاله العيش بكرامة ويساعدني على الزواج وتكوين أسرة".
ووصف حاله في لحظاته الأخيرة قبل السفر قائلا "أشعر بالتوتر، فلا أعلم مصيري وأنا أسلك طريقا مجهولا، والمغامرة فيه كبيرة خاصة أن الوصول لبلد مثل ألمانيا وغيرها يتطلب خطوة غير قانونية وهي عبور اليونان انطلاقا من شواطئ تركيا".
من المسؤول؟
وحمل الحقوقي عبد العاطي الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الأولى عن الهجرة "من خلال فرض فوضى داخلية كما يحدث في أراضي الداخل (بين فلسطينيي 48) من عمليات قتل جماعي تحت نظر الشرطة الإسرائيلية، وما يفعله في الضفة من الاستيطان وجرائم الحرب والتهويد، ناهيك عن حصار قطاع غزة".
وأرجع المسؤولية الثانية إلى "تداعيات الانقسام الكارثية، وغياب سياسات وطنية تدعم صمود المواطنين". ولفت إلى "غياب حكومة وحدة وطنية قادرة على استغلال الموارد واستثمار طاقات الشباب في العملية الاقتصادية".
وربط الحقوقي ارتفاع الهجرة من عموم المناطق الفلسطينية بغياب المشاركة السياسية والانتخابات الطلابية والنقابية والعامة، "إضافة إلى انتهاك حقوق الشباب وعدم الاستجابة إلى احتياجاتهم".
وألقى بالمسؤولية أيضا على عاتق السلطة الفلسطينية، التي فرضت عقوبات جماعية على القطاع ساهمت في ازدياد أعداد المهاجرين، على حد قوله.
ودعا عبد العاطي القوى السياسية والمجتمع المدني لوضع خطة لمواجهة مخاطر ارتفاع ظاهرة الهجرة، وخاصة هجرة العقول والشباب وأصحاب الإمكانيات الاقتصادية.
ويعاني القطاع الحكومي في غزة من ضائقة مالية متراكمة، حيث خفّضت لجنة متابعة العمل الحكومي مؤخرا نسبة صرف رواتب الموظفين العموميين إلى 55%، وأعلنت عن نقصٍ حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية للأمراض المزمنة وخاصة غسيل الكلى، في حين أُطلقت قبل يومين دعوات جديدة لكسر الحصار تحت عنوان "افتحوا موانئ غزة".
شبان من غزة يهجرون موطنهم بحثاً عن الأمل
وقرّر الشاب الفلسطيني إبراهيم الزين (33 عاماً) من مدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، مؤخراً، مغادرة القطاع وسلوك طريق الهجرة بحثاً عن تحسين أوضاع عائلته المعيشية والاقتصادية في ضوء استمرار الحصار الإسرائيلي والظروف المعيشية القاسية التي يعيشها الفلسطينيون.
وانتشرت خلال الآونة الأخيرة هجرة الشبان من غزة على شكل مجموعات من الأحياء والمناطق، من خلال مغادرة القطاع إلى القاهرة عبر معبر رفح البري، مرورًا بالأراضي التركية ومنها إلى سواحل اليونان، وبعدها إلى الدول الأوروبية مثل بلجيكا وألمانيا وهولندا.
وتداول عشرات الفلسطينيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الفترة الأخيرة، مقاطع فيديو يظهر فيها شبان في مطار القاهرة الدولي من قطاع غزة وهم يستعدون لسلوك طريق الهجرة هرباً من الأوضاع المعيشية والاجتماعية القاسية.
علاوة على ذلك، فقد تقدم مئات الشبان في الفترة الأخيرة بطلبات للحصول على الفيزا السياحية للسفر إلى تركيا كنقطة انطلاق أولى للهجرة نحو الدول الأوروبية، وهو ما تسبب في أزمة خلال الأسابيع القليلة الماضية أدت لضبط هذه العملية نوعًا ما.
ولا تُعلن الجهات الحكومية في غزة عن أية أرقام تخص الهجرة، ومع تصاعد حدة الإشارة إلى ما يحصل والصور ومقاطع الفيديو التي تداولها النشطاء عبر صفحتهم، ردّت الهيئة العامة للمعابر والحدود ببيان عكس عدم وجود زيادة في أعداد المغادرين.
وبحسب الإحصائية الصادرة عن هيئة المعابر والحدود في غزة خلال شهر سبتمبر/أيلول الجاري، فإن أعداد المسافرين المغادرين أو العائدين هي وفق المعدل السنوي المعتاد، ولا يوجد أي تغير ملحوظ فيها بحسب بيانات حركة السفر عبر معبر رفح، حيث جرى تسجيل مغادرة 113234 مواطنا منذ بداية العام عبر كشوفات وزارة الداخلية وكشوفات التنسيق، فيما جرى تسجيل وصول 116651 مواطناً.
في المقابل، تؤكد مؤسسات المجتمع المدني أنّ هناك زيادة مضطردة في أعداد المغادرين للقطاع خلال الآونة الأخيرة، وهو أمر تمكن قراءته من خلال الصور التي التقطت للشبان سواء في المطارات أو لحظة وصولهم إلى الأراضي اليونانية.
ويقول إبراهيم الزين لـ "العربي الجديد" إنّ قرار الهجرة جاء بعد أن فقد الأمل في تحسن الأوضاع المعيشية في غزة، حيث كان يعمل في مهنة الزراعة بأجر يومي لا يتجاوز 15 شيكلاً إسرائيليًا يوميًا (4 دولارات) وهو مبلغ لا يكفي لإعالة عائلته وأبنائه.
ويضيف أن قرار الهجرة اتخذه مع مجموعة من أصدقائه في منطقة سكنه بحثًا عن آفاق جديدة تحسن من أوضاع المعيشية، وتمكنه لاحقًا من جلب عائلته للعيش معه في إحدى الدول الأوروبية، بعد أن يجتاز كافة مراحل اللجوء خلال الفترة المقبلة.
بدوره، يقول مدير العمليات في المرصد "الأورومتوسطي" لحقوق الإنسان أنس الجرجاوي إن المرصد وثق، خلال الفترة من عام 2014 إلى عام 2022، هجرة قرابة 40 ألف فلسطيني من القطاع إلى الخارج وفقًا لمجموعة من المحددات التي وثقت هذه الأعداد.
ويشير الجرجاوي، إلى عدم وجود أرقام دقيقة توثق أعداد المهاجرين خلال العام الحالي، مع الإشارة إلى وجود زيادة واضحة وملحوظة تمكن ملاحظتها من خلال ما جرى خلال الفترة الأخيرة، مع إمكانية ارتفاع الأعداد خلال الفترة المقبلة.
ويوضح أن دوافع الهجرة متعددة ما بين اقتصادية مرتبطة بغياب فرص العمل وتدني الأجور، وأخرى أمنية متعلقة بتكرار الحروب على القطاع وإمكانية اندلاع جولات تصعيد في أي لحظة، وفقًا للحالة القائمة منذ عام 2006 وحتى هذه اللحظة، وهو ما يعزز من دوافع المغادرة.
وعن وجود تسهيلات من الجانب التركي أو اليوناني، يلفت إلى أن زيادة أعداد المهاجرين في تلك المنطقة لم تقتصر على سكان القطاع فقط، بل طاولت جنسيات أخرى، إذ إن هناك يوميًا عشرات المحاولات لعبور الحدود اليونانية بحثًا عن الهجرة.
وخلال رحلة الهجرة من القطاع، يتحمل الشبان مبالغ مالية تتراوح ما بين 3000 و5000 دولار أميركي تُدفع إما للمهربين عبر البحر أو من أجل التنقل بين الدول للوصول إلى أي من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعزز من الضغط على الشبان.
بدوره، يقول رئيس شبكة المنظمات الأهلية أمجد الشوا إن الزيادة الملحوظة في أعداد المهاجرين باتت واضحة للعيان، لا سيما في صفوف الشبان الذين وثقت مواقع التواصل الاجتماعي مغادرتهم القطاع نحو أوروبا بحثا عن واقع أفضل من القائم.
ويضيف الشوا لـ"العربي الجديد" أن تداعيات الحصار الإسرائيلي وتكرار الحروب وغياب الأفق السياسي مع تعثر المصالحة الفلسطينية كانت الأسباب الرئيسية وراء ذلك، لكن الخطر، بحسب رئيس الشبكة، هو هجرة الكفاءات الفلسطينية إلى خارج القطاع.
ويشير إلى أن هناك صعوبات حقيقية في توفير أرقام وإحصائيات تتعلق بأعداد المغادرين للقطاع، وتحديدًا خلال العام الجاري، إلا أن هناك مئات الشبان الذين غادروا القطاع بحثًا عن أفق مغاير للواقع القائم حاليًا مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة.