ما زالت حرب 1973 تشغل الإسرائيليين بشكل مفرط بتقارير صحفية وتلفزيونية وأفلام وكتب ودراسات جديدة تحاول تعميق فهم ما جرى ومدى استخلاص الدروس منها، وهي في مجملها تعكس عمق الصدمة التي أصابت الجانب الإسرائيلي، ولا تخبو نارها حتى بعد 50 عاماً.
يروي كتاب إسرائيلي جديد حرب 1973 وتحولاتها ويسلّط الضوء على الإخفاقات الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية، وعلى خطورة تلك الحرب التي كادت تودي بإسرائيل، لولا “المساعدات الغربية العاجلة، واستماتة الجيش الإسرائيلي، ونجاحه بالتالي بالانتقال من الدفاع لهجوم”.
تحت عنوان “الحرب.. خمسون عاماً على حرب 1973″، يشير الكاتب الصحفي البارز نسيم مشعال لبسالة الجنود المصريين والسوريين أيضاً خلال استعراضه معارك دامية في سيناء والجولان استناداً لمشاهداته كجندي صحفي شاب، علاوة على يوميات الحرب التي كتبها قادة وجنود إسرائيليون.
يقول مشعال في كتابه: “سرعان ما بدأنا نفهم النتائج الكارثية للحرب: قتلى وجرحى بالآلاف، أداء السياسيين والعسكريين الفاشل، وتنبهنا للندوب الباقية في أجسادنا وأرواحنا، وشاهدنا كيف تصدع الإجماع الوطني بكل ما يتعلق بأمن إسرائيل”. ويوضح مشعال أنه كصحفي مراسل شارك في الحرب كجندي ضمن وحدة المظليين في منطقة السويس، وخبر كل فظائعها، وشاهد القتلى وسمع صرخات الجرحى، وشعر بالصدمة التي جرفت كل الإسرائيليين، ولاحقاً تغلغلت فينا مشاعر الذهول جراء كبر الفشل: “شاركت في حماية البعثة الإسرائيلية العسكرية، برئاسة الجنرال أهارون ياريف، التي أدارت المحادثات لوقف النار مع البعثة المصرية، برئاسة الجنرال محمد الجمسي في موقع “الكيلومتر 101″، وما زلت أذكر كيف غمرتنا مشاعر الفرح لأننا رغبنا بوقف الحرب والعودة لبيوتنا”.
كما يقول إنه يستذكر أحداثاً أخرى بعد الحرب، منها ندوة لوزير الأمن موشيه ديان في جامعة بار إيلان في تل أبيب، صرخ فيها إسرائيليون ثكلوا أولادهم في حرب 1973: “أنت قاتل، أنت قاتل”. ويتابع: “في تلك الندوة نهض رجل، وقال لديان بقلب ثقيل وصوت مخنوق: “نجوتُ من المحرقة النازية في أوشفيتس، وربيّتُ ولداً هنا في البلاد، فمن أجل ماذا فعلت هذا؟ ربيّتُه حتى يُهْمَل حتى الموت من قبلكم؟”.
تفجّرت الندوة، وتمّ تهريب ديان من الباب الخلفي”.
ويستذكر مشعال استبدال القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية بعد الحرب، لكن ذلك لم يُهدّئ من روع الإسرائيليين، ولم يسكت حالة الغليان حتى تفجّرت الصدمة الجماهيرية بقوة، عام 1977، حينما وقع الانقلاب الكبير، وسقط حزب “العمل” وصعد حزب “الليكود” للحكم للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل عام 1948. لكن قائد “الليكود” مناحم بيغن، رئيس الحكومة الإسرائيلية، فاجأ العالم بتوقيع اتفاق سلام مع مصر، بعدما استشرفَ المستقبل، ولاحقاً حاز على جائزة نوبل للسلام سوية مع السادات، وعن ذاك الانقلاب يضيف مشعال: “لم يؤد تغيير الحكومة إلى كامب ديفيد فقط، بل أدى لتغيير مكانة اليهود الشرقيين. بيغن الذي أدرك أهمية دعمهم له نجح بشخصيته الكريزمتية، ولغته الخطابية، بأن يشجّعهم، بتحسين أوضاعهم، وإحياء كرامتهم المخدوشة منذ جاءوا للبلاد، وفعلاً بعد وقت قصير صار اليهود الشرقيون يشغلون مناصب مركزية في السياسة وفي الاقتصاد والحكم المحلي وسلك التعليم وقيادة الجيش”.
تصاعد التوتّرات الاجتماعية
ويشير الصحفي الإسرائيلي في كتابه لنتائج أخرى لحرب 1973، بقوله إن التوتّرات الاجتماعية بدأت تتفاقم، وبرزت الفوارق والحدود بين اليهود الغربيين والشرقيين، بين المتدينين والعلمانيين، بين اليهود والعرب داخل إسرائيل، بين الإسرائيليين ككل والفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967، وبين مهاجرين قدامى ومهاجرين جدد. ويضيف عن التغيير الجوهري في إسرائيل بعد تلك الحرب: “رويداً رويداً بدأ يتكوّن مجتمع إسرائيلي جديد مع تمايزات مختلفة وصراعات عقائدية قاسية، وذلك بقيادة حركتي “غوش إيمونيم” و “السلام الآن”، اللتين حوّلتا إسرائيل إلى مجتمع منقسم ومتشظ ومتنازع”.
ولادة زعماء جدد
وطبقاً لكتاب مشعال، أنبتت حرب 1973 قائدين إسرائيليين بارزين؛ إسحق رابين، الذي حلّ محلّ غولدا مئير في رئاسة الوزراء، والحاخام عوفاديا يوسيف، الذي عالج موضوع الإسرائيليات، أرامل فقدن أزواجهن في الحرب، وبادر لإصدار فتاوى تتيح لهن فكّ رباط الزواج، والزواج مجدداً، ما قرّبه من المجتمع الإسرائيلي، وصار يهتم بقضايا الأمن، ودأب الجيش على إطلاعه على مستجدات. ويشير إلى أن حرب 1973 كانت الحرب الأخيرة التي حاربت فيها إسرائيل جيوشاً عربية نظامية، ومن وقتها توالت حروب مع منظمات فلسطينية ولبنانية “إرهابية، وعملياً كانت حرب 1973 آخر حرب هددّت وجودنا”.
دولة مصدومة
ويستذكر الكاتب كيف انهارت مشاعر النشوة الناجمة عن انتصار 1967 مرة واحدة، بعدما بددت صافرات الإنذار حالة الصمت، في ذاك السبت الأسود، وبعدما اهتزت سيناء من قوة النار المصرية: “1000 مدفع مصري أطلق النار في لحظة واحدة، ضمن هجمة ثقيلة على طول القناة، فيما غارت 200 طائرة مقاتلة على مواقع إسرائيلية تم اختيارها بـعناية؛ قواعد استخباراتية، قواعد سلاح الجو، وحدات اتصال ورقابة جوية، وقواعد أسلحة مضادة للطيران، ومنشآت للقيادة والتحكّم، وفي التزامن شرع 100 ألف من الجنود المصريين بعبور السويس على قوارب على 13 جسراً متحركاً، وخلال ثلاث ساعات عبَرت وحدات مصرية السويس بنجاح، وسط إسناد من الدبابات ووحدات الكوماندوز ووحدات الصواريخ المضادة للدروع، ومقابل كل هذه القوات وجد مقاتلو وحدة الدبابات 14 الإسرائيلية لوحدهم”.
وعن القتال في اليوم الأول: “نتيجة سوء تقدير لم يفعّل قائد القوات الإسرائيلية في سيناء خطة مبيّتة لصدّ العبور المصري، وعندما بدأت الدبابات الأولى تصل للجبهة كان مقاتلو وحدات الكوماندوز المصريون ينتظرونها بصواريخ من طراز “ساغر” و”آر بي جي”. ولم تكن لدى الجانب الإسرائيلي معلومات استخباراتية عن مواقع العبور وتعداد القوات المصرية ووجهتها”.
أخذتنا الحرب على حين غرة
وعن صدمة إسرائيل، التي أُخذت على حين غرة، يقول مشعال: “قبل أن يفهم الإسرائيليون ما الذي يحدث، كان الجيش قد تكبّد مئات القتلى في اليوم الأول من الحرب. في ذاك اليوم تلقينا هاتفاً عاجلاً يدعونا للدخول في الخندق فوراً. من فوقنا كنا نسمع هدير طائرات تطير على انخفاض تتجه من القناة لسيناء. في البداية اعتقدنا أنها طائراتنا، ولاحقاً فهمنا أن هذه طائرات مصرية من طراز “سوخوي”. كانت هذه البداية، وسرعان ما سقطت حولنا قذائف، وأصيبت وحدة دبابات مجاورة لنا إصابة مباشرة، فهربنا فوراً لداخل الخندق، وتركنا جندياً واحداً للمراقبة، وكان هذا المسكين يرجف من الخوف، كان يهاتفنا كل دقيقة، ويطلب منا البقاء داخل الخندق. وعندما اضطررنا للخروج، بدأنا نشعر ونفهم ما هي الحرب، وسمعت قائد الثكنة “ليطوف” يصرخ عبر جهاز اللاسلكي وهو يقول لقائد الوحدة: “عندي ثلاثة جنود جرحى، وجريحان، وإذا لم تساعدوني ستسقط الثكنة”، فكانت هذه الصدمة الأولى في الحرب. وهكذا في اليوم الثاني من الحرب؛ كانت طلبات المساعدة والاستغاثة في كل موقع وفق ما كنا نسمعه في جهاز اللاسلكي، ما أثار بي غضب وإحباط. في اليوم الثاني أيضاً هاجمتنا أربع طائرات مصرية من طراج “ميغ”، وكان هذا واحداً من أكثر المشاهد إثارة للرعب فينا، فهربت جانباً، وأدخلت جسمي في الرمل، فأصابت ثمانية جنود منا، والبقية أصيبوا بالهلع، وبعضهم لم يجرؤ على العودة للمدافع، وطائراتنا أسقطت ثلاثاً من المقاتلات المصرية، ولكن بالنسبة لي كان هذه متأخراً”.
السوريون على الجدران
وعن القتال داخل هضبة الجولان السوري المحتل، يقول مشعال إن “القوات الإسرائيلية نجحت في شمال الهضبة بصد السوريين، تأخرت في جنوبها، لكن القوات السورية عادت ونجحت، في اليوم الثالث من الحرب، من ضرب الجيش الإسرائيلي المستنزف، والذي عانى نقص الذخائر، فأصيبت أرتال من الدبابات الإسرائيلية بما فيها، ووصل الجنود السوريون لمسافة عشرات الأمتار منها”. وعن الرد الإسرائيلي يضيف: “أدرك الخطر قائد وحدة المدرعات رقم سبعة الجنرال يانوش بن غال، وخشي من اختراق سوري أخطر، فقرر تركيز كل قواته، بما فيها المدفعية ضد القوات السورية، وعيّن قائد السرية البرية 77 أفيغدور كهلاني قائداً للمنطقة الشمالية في الجولان، والتي عرفت لاحقاً بـ “وادي الدموع”، لكثرة الضحايا في الجانبين الإسرائيلي والسوري. ومع قوات معززّة نجح كهلاني بصد الهجوم السوري، بعد أربعة أيام قتالية دموية، ولاحقاً قال قائد لواء الشمال في الجيش الإسرائيلي يتسحاق حوفي إن كهلاني وقواته أنقذوا إسرائيل من الموت.
المعركة على جبل الشيخ
ويتوقف نسيم مشعال عند المعركة الدامية على جبل الشيخ، ويقول إنه بدون السيطرة على “التل 16” لم يكن بالإمكان استرداد جبل الشيخ الذي سقط في الأيام الأولى من الحرب بيد الجيش السوري. وعن ذلك يقول: “كل ثانية أصيب جندي إسرائيلي. شبكة الاتصالات اللاسلكية اكتظت بالبلاغات حول الإصابات والقتلى والجرحى، وتعالت أصوات القادة يصرخون يستغيثون طلباً للمساعدة. المعركة بدت خاسرة، وعندما طلع الفجر اكتشفنا أن عشرات الجنود القتلى والجرحى ممددين على الأرض، وبادر قائد الوحدة يوعيد زليبينسكي لجمع الجنود الذين كانوا ما زالوا قادرين على القتال، وجدد إطلاق نار المدفعية نحو السوريين، وتسببوا لهم إصابات كثيرة، وتمكّنَ الجيش الإسرائيلي من استعادة السيطرة على قمة جبل الشيخ بعد مقتل 56 جندياً وإصابة 80 جندياً آخر”.
يشار إلى أن صحيفة “هآرتس” استعرضت، ضمن تقاريرها الواسعة جداً، المعركة الدامية في “مرج الدموع”، في التاسع من أكتوبر/ تشرين أول 1973، وتنقل ما كتبه قائد القوات الإسرائيلية هناك في ذاك المكان والزمان ضمن يوميات الحرب: “الوضع خطير. أنا على حافة اليأس، فالسوريون يدفعون بقوات كبيرة بهدف الوصول لشارع القنيطرة- مسعدة. الاقتتال محتدم، والسوريون يوقعون بنا خسائر فادحة، والقادة يقتلون تباعاً، وكنّا على حافة فقدان السيطرة حتى أنقذنا كهلاني في بقية قواته، ونجح بوقف الهجوم السوري، وسط القتال وجهاً لوجه، وعلى بعد 50150 متراً فقط، وأحياناً وقعت اشتباكات بالأيدي والأسلحة الخفيفة، فكانت الحرب قاسية وموجعة للطرفين”.
وتستذكر “هآرتس” أن السوريين بدأوا الهجوم بقصف مدفعي، إلا أنهم فشلوا في تحريك دباباتهم عبر الخندق المضاد للدبابات. لكنهم تمكّنوا من اختراق الدفاعات الإسرائيلية في الليل بمساعدة أجهزة الرؤية الليلية. في الصباح التالي، شنّ السوريون هجوماً ثانياً، وفي إحدى لحظات الالتحام وجدت 40 دبابة إسرائيلية نفسها تواجه نحو 500 دبابة سورية. وفي اليوم الرابع، تلقى اللواء السابع المدرع الإسرائيلي تعزيزات عندما انخفض عديده إلى نحو 12 دبابة ونفذت ذخيرته. تقهقر السوريون لأسباب ما زالت موضع جدال. المؤرخ العسكري الإسرائيلي مارتن ڤان كرڤلد قال إن إسرائيل هددت سوريا بهجوم نووي”.
وهذا ما أكدته مصادر إسرائيلية كثيرة، في الأيام الأخيرة، بقولها إن وزير الأمن الراحل موشيه ديان كاد ينهار، في الأيام الأولى من الحرب، وهو يتلقى أنباء الكوارث من سيناء والجولان، حتى بادر لمقترحه على غولدا مئير باستخدام السلاح النووي، لكنها صدّته، ورفضت، وذهب بعض المعلقين للقول إن غولدا كانت “الرجل الوحيد” في غرفة القيادة، في ظل اهتزاز الثقة بالرجال من الساسة والعسكريين الإسرائيليين في مطلع الحرب.
صدمة الإسرائيليين
في كتابه يقول مشعال إن الفشل الاستخباراتي والعسكري الكبير، وأعداد القتلى والجرحى المهولة في الجانب الإسرائيلي، كل ذلك أصاب المجتمع الإسرائيلي بالصدمة، بعدما تبيّن أن إسرائيل وقعت بفخ التضليل ببنات أفكار أنور السادات، رغم المؤشرات والإنذارات المتتالية باحتمال نشوب حرب.
ويشير مشعال إلى أن الإنذارات المذكورة شملت إنذاراً قدّمه العاهل الأردني الراحل الملك حسين، الذي أبلغ بشكل شخصي رئيسة حكومة إسرائيل غولدا مئير بنيّة مصر وسوريا شنّ حرب وشيكة، وقبل ذلك كان السادات بنفسه هدد بالحرب، وبالجاهزية للتضحية بمليون جندي من أجل استرداد سيناء. كما يقول إن المستشارين العسكريين السوفييت غادروا مصر، قبيل يوم واحد من الحرب، لكن الاستخبارات العسكرية، برئاسة الجنرال ايلي زعيرا، أبقت على تقديراتها المغلوطة بأن حرباً لن تنشب، وأن استعدادات الجيش المصري ليست سوى جزء من مناورة عسكرية مصرية.