تواصل حرب تشرين 1973 إشغال الإسرائيليين بشكل واسع جداً، وسط قيام جهات كثيرة منهم بالمقاربة بين قياداتهم، وقتذاك، وبين القيادة الحالية، والتحذير من وجود مخاطر داخلية بالأساس كامنة، من شأنها أن تنفجر وتأخذهم مجدداً على حين غرة وتصيبهم بصدمة وبجراح بالغة.
وبخلاف كثير من المؤرّخين والمسؤولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين، يؤكد المؤرخ الإسرائيلي الدكتور أوري بار يوسيف، الأكثر دراسة لحرب 1973، أن غولدا مئير، رئيسة حكومة الاحتلال في فترة تلك الحرب، تنتمي لجيل القيادات التي رأت بإقامة إسرائيل عجيبة ينبغي إبقاؤها بـ “الحفظ والصون”. ويتابع: “أما اليوم فنحن ننتمي لجيل باتت إسرائيل بالنسبة له حقيقة واقعة، ولا ينبغي القلق أكثر من اللازم. عندما تنظر على طرق عمل الحكومة الحالية ترى أن أكثر شيء مفقود اليوم هو تحمّل المسؤولية على الدولة ومستقبلها”.
ويؤكد بار يوسيف أن استخفاف رئيس الوزراء نتنياهو بحالة التمرد داخل جيش الاحتياط، بقوله إنه لا يبالي بتناقص عدد الطيارين العسكريين في سلاح الجو، منافٍ للقيم التي تربينا عليها: الاستعداد لتقديم كل شيء كي يتوفر مثل هؤلاء المقاتلين في سلاح الجو. لو كانت غولدا مئير وموشيه ديان يسمعان أقوال نتنياهو هذه لأصيبا بجلطة قلبية”.
ويتساءل بار يوسيف، في حديث لملحق صحيفة “هآرتس” الخاص بـ “يوم الغفران”، المصادف اليوم الإثنين، هل يمكننا الاعتماد على رجاحة القيادة الإسرائيلية الحالية لإدارة الحرب القادمة؟ عن ذلك يقول متشائماً وناقداً ومحذراً: “انظر من يجلس اليوم حول مقود القيادة. ليس مهماً أبداً إذا كانوا قد خدموا في الجيش أو لم يخدموا فغولدا مئير لم تؤد الخدمة العسكرية لكنها فهمت في الأمن بشكل جيد جداً. ويخلص بار يوسيف لتحذير مدوّ بقوله: “إذا ما نشبت الحرب القادمة فإنها ستبدأ بكارثة، وربما تستمر كذلك على نحو كارثي. الدولة ستواصل البقاء، ستشهد، لكننا سنتعرّض لكسر خطير تبدو حرب 1973 لجانبه أكثر بكثير من ناجحة”.
حالة انتعاش
كذلك، وبخلاف الأغلبية الساحقة من المؤرخين الإسرائيليين، يرى بار يوسيف أن جيش إسرائيل في 1973 كان جيشها الأفضل الذي دفعته لساحات الوغى. بار يوسيف، الذي صدر عنه كتاب جديد عن هذه الحرب تحت عنوان “حالة انتعاش”، يقول إنه راجع آلاف المحاضر الأرشيفية التي تعكس ما جرى داخل غرف القيادة العسكرية غداة اندلاعها، فيقول إن من غير الممكن أن لا تتنبّه لـ “تصميم، مهنية، ورجاحة رأي القيادة التي أدارت حرب 1973، خاصة من قبل قائد الجيش دافيد بن العازار”.
وعن ذلك يضيف: “لو كان جيشنا جيشاً كثير العيوب والأعطال، كما يصفه باحثون كثر، لما استطاع أن ينتصر فيها بنهاية المطاف. فاز الجيش في حرب 1973 لأنه كان جيشاً ممتازاً مدرباً كما يجب، ومجرباً وعزيمته صلبة”. كما يشيد بار يوسيف بالقيادة السياسية، ويصفها بالمجرّبة جداً ومسؤولة ومهتمة بمستقبل الدولة.
ويتابع: “رغم ما ينسب لها من صفات الغرور والغطرسة، لم يستخف القادة السياسيون للحظة باحتمال نشوب حرب، حتى عندما لم تبد قريبة أو مطروحة على الأجندة”. ويحاول تبرير تقديراته هذه بالقول إن القيادة الإسرائيلية نجحت بسرعة باستعادة توازنها بعد الصدمة الكبرى في السادس من أكتوبر/تشرين أول 1973، وهكذا تمكن الجيش من لملمة ذاته بسرعة. ويضيف: “لا يوجد مثال في التاريخ العسكري الحديث على جيش فعل هذا الانتقال بسرعة كما فعل الجيش الإسرائيلي في 1973. “حالة الانتعاش” هذه هي مكسب عسكري غير مسبوق. في صباح اليوم الثاني من الحرب تحدث وزير الأمن موشيه ديان عن “خراب الهيكل الثالث”، فاقترح استخدام السلاح النووي، لكن الوحدات العسكرية، في اليوم الثالث، فتحتْ بحملة عسكرية مضادة في الجبهتين: سيناء والجولان.
الإخفاق الاستخباراتي
ويرى بار يوسيف أن الثمن الباهظ الذي سددته إسرائيل لم ينبع من إخفاقات أساسية في فهم أمن إسرائيل، أو في تحضير جيشها للحرب، بل هو نتيجة سلسلة أخطاء شخصية ارتكبَها عددٌ من القادة العسكريين الكبار، أخطاء في التقديرات تسببت بفشل في الإنذار وفي اتخاذ قرارات عجولة ومغلوطة. ويضيف: “الثمن الباهظ نمّ عن إخفاق استخباراتي لرئيس الاستخبارات وليس لكل المنظومة المسؤولة الاستخباراتية، وهكذا لم يحصل صنّاع القرار على الإنذار الذي توقعوه، وبالتالي الجيش لم يستعد للحرب بهذا التوقيت. من هنا نبعت سلسلة أحداث فاقم بعضها البعض الآخر، كما يجري في منظومات معقدة مثل المفاعلات النووية، أو المصانع البتروكيماوية، الطائرات والقطارات، فسلسلة أخطاء أولية من شأنها أن تقود لكارثة”. وماذا عن مسؤولية المستوى السياسي؟ رداً على سؤال “هآرتس” هذا يرى بار يوسيف أن “النقطة المركزية تتعلق بالسؤال كيف عملت القيادة السياسية في حرب 1973 مقارنة مع عمل القيادة الحالية. لو أوجزنا الفرق بكلمة واحدة أقول: “مسؤولية”. في 1973 شعر القادة أنهم مسؤولون، وآمنوا أن ما قاموا به هو صحيح، وعملوا على أساس معطيات استخباراتية كاذبة ومغلوطة غررّت بهم وضللّتهم. لكن كل ما قاموا به تمّ بمسؤولية مع تفكير وقلق كبيرين على مستقبل الدولة”.
بين السادات وغولدا مئير
ولكن هذا زعم سياسي خلافي، فهناك من يقول إن غولدا مئير قادت إسرائيل عمداً لهذه الحرب، كي لا تتراجع من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ عن ذلك يقول بار يوسيف إنه “من الصعب معرفة ما كان سيحدث بناء على “لو”. عدد غير قليل من الإسرائيليين، وأنا من بينهم، اعتقدوا في تلك الفترة أن غولدا مئير هي كارثة من هذه الناحية، وأنه يجب التقدم نحو مسيرة سلام، لكنها تصرفت بمسؤولية وفق فهمها معتقدة أن الجغرافيا تؤمن الأمن، ورفضت الانسحاب لحدود 1967، واعتبرته كارثة، وآمنت بتفوق الجيش الإسرائيلي وقدرته على إلحاق الهزيمة الماحقة بالعرب، ولم تتصرف وفق اعتبارات سياسية داخلية، بل حركها شعور عميق بالمسؤولية حيال مستقبل إسرائيل، وكان سلم أولويات غولدا مئير مختلفاً عن سلم أولويات أنور السادات، فهي رغبت بالحفاظ على “الوضع الراهن”، وبدون خيارات أخرى آثرت حرباً تنتصر فيها إسرائيل على مسيرة سياسية تعيد إسرائيل لحدود 67. من ناحية السادات فإن استمرار “الوضع الراهن” انطوى على كارثة متواصلة، ففضّل مسيرة سياسية على حرب مكلفة من المحتمل أن تخرج فيها مصر جريحة، لكن إسرائيل رفضت ذلك فذهب مضطّرا للحرب”.
ورداً على سؤال عما إذا كان الوقت حان للكف عن البحث في دفاتر تلك الحرب، قال بار يوسيف إن هناك أجزاء من حرب 1973 لم تبحث بعد، منوهاً أنه بادر لتأليف كتاب “حالة انتعاش” بعد الانتخابات العامة الأخيرة للكنيست، في 2022، لأن نتائجها دفعت إسرائيل لحالات صعبة تذكّر بأزمة الحرب عام 1973، أكثر من مرة. وعن ذلك يضيف: “من هذه الناحية فإن حرب 1973 مستمرة بيننا، رغم مرور 50 عاماً”.
إسرائيل دولة في حالة فوضى واضطراب
وهذا ما يؤكده رئيس إسرائيل السابق رؤوفين ريفلين الذي يطلق صافرة الإنذار مجدداً، في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” تحت عنوان: “ما الذي نحتاجه كي ننقذ إسرائيل من نفسها؟
يقول ريفلين إن إسرائيل 2023 تبدو كدولة في حالة اضطراب وفوضى تدار يوماً بعد يوم وفق معايير وحسابات شخصية وضيقة، بدلاً من العمل وفق مصالحها العليا.
يشار إلى أن ريفلين سبق أن أطلق صرخة كبيرة ضمن ما عرف بـ “خطاب الأسباط”، خلال مؤتمر المناعة القومية عام 2015، وقال فيه إن حالة الاحتراب بين فئات الإسرائيليين أشد خطراً على إسرائيل من قنبلة إيران”، وبذلك كان يشير لانقساماتهم بين علمانيين ومتديّنين، وشرقيين مقابل غربيين، بين النخب القديمة والجديدة وغيره. وعن ذلك يقول اليوم في مقاله الجديد: “في خطاب الأسباط حذّرت، قبل سنوات، من أننا نعيش داخل دولة تجمع أسباطاً أقامتها كي تعيش فيها وتخدمها معاً تحت مبادئ وقيم وردت في “وثيقة الاستقلال”: يهودية وديموقراطية ومساواة لكل المواطنين فيها وأسباطها. واليوم، في يوم الغفران الحالي، أجد نفسي أفكّر وأتأمّل بالواقع البائس الذي تدهورنا نحوه، وفيه نشأت أسباط ترى في الدولة وسيلة وأداة للخدمة إلى درجة الاستعداد لتحدي قيم الدولة وتجاهل الحاجة للمساهمة بها ولها”.
الصراع على الطابع والهوية والروح
وعشية “يوم الغفران”، حيث يفترض أن يتصافح اليهود في ما بينهم، ويعتذر الواحد للآخر، ويطلبون المغفرة عن ذنوبهم وأخطائهم، شهدت تل أبيب مواجهات ساخنة بين متديّنين وعلمانيين، على خلفية رغبة إقامة مجموعة متدينين متزمتين صلوات في الشارع العام، وسط فصل بين الرجال والنساء، ما لم يرق للعلمانيين الذين يرون بذلك أمراً مخجلاً، قلقين من احتمال وصول الزحف الديني للمدينة التي تعتبر رمزاً لـ “العلمانية” الإسرائيلية، تل أبيب. وهذا مثال عن أن السجال الساخن الدائر في إسرائيل، منذ مطلع العام، لا يقتصر على خلاف حول مكانة المحكمة العليا، وعلى الفصل بين السلطات وتوزيع القوة بينها، إنما هو صراع خطير نتيجة جذوره العميقة الناجمة عن تحولات ديموغرافية وسياسية وثقافية وغيرها ترتبط بالصراع بين النخب القديمة والنخب الجديدة، صراع بين متديّنين وعلمانيين، بين شرقيين وغربيين، بين من يريد إدارة أو تسوية الصراع مع الفلسطينيين ومن يريد حسمه عنوة، ويمتاز بتوجهات دينية غيبية وفاشية متشددة ودموية.
مناهج التعليم
ومن العوامل التي تغذّي الاختلاف والخلاف وتسبب انفجار هذه السجالات واتساع وتفاقم خطاب الكراهية والتشظي مسيرة التغيير الجوهري في مناهج التعليم الإسرائيلية، منذ سقط حزب “العمل” للمرة الأولى من سدة الحكم عام 1977، حيث بادرت حكومات اليمين الصهيوني من وقتها لزيادة المضامين اليهودية والعنصرية والعسكرية للكتب التعليمية، واختزال التربية للقيم الليبرالية والديموقراطية.
وهناك جهات إسرائيلية ترى أن “الانقلاب على النظام” الحاصل اليوم بدأ في “احتلال المناهج المدرسية”.
في سياق الحديث عن حرب 1973 ومدى تعلم الدروس واحتمالات الإصابة بصدمات ومفاجآت جديدة، تقول المحللة شيري كادري عفاديا، في مقال نشرته “هآرتس”، اليوم، تحت عنوان “حساب النفس في وزارة المعارف”: “تقول معلقة إسرائيلية إن من يساورهم القلق على القيم الصهيونية التي باتت فارغة المضمون يتساءلون كيف يمكن الإيمان بالديموقراطية رغم ما حصل ويحصل؟”. وعن ذلك تقول: “هؤلاء ليسوا واثقين بقدرتهم على شرح الوضع الحالي للتلاميذ، وهم يكتشفون ازدياد التوجهات الغيبية ودخولها للمدارس. النقاش الذي أجراه رؤساء وزارة التربية والتعليم بعد أيام من نشوب حرب 1973 يبدو اليوم ذا صلة أكثر من أي وقت مضى”.
وتنوه إلى أن الجيل الإسرائيلي الصاعد اليوم لا يستمع لنشرات الأخبار، بل يتغذى من أخبار كاذبة، ومن شائعات، والدرس التربوي الأهم بالنسبة له هو “مصلحتك الشخصية”. أما المعلمون فهم مشغولون بـ “توزيع الكعكة”، وبزيادة رواتبهم، لا بالتربية للقيم. أما قيادة الوزارة فتتحدث عن تكنولوجيا وبناء الغرف التعليمية دون أن تنبس بكلمة واحدة عن “الفيل داخل الغرفة”، حيث تدخل جهات غيبية مسيانية للفراغ الحاصل الذي تركه التعليم الرسمي في مجال تعليم اليهودية، وهناك من يعتقد أن هناك حاجة لإقالة من ينتمي لمنظمات اليسار الراديكالي لأنهم يفسدون التلاميذ”.