دحلان في قراءة نقدية: ولا يجرِّمنكم شنآنُ قومٍ ألَّا تعدلوا!! د. أحمد يوسف

السبت 12 أغسطس 2023 04:26 م / بتوقيت القدس +2GMT
دحلان في قراءة نقدية: ولا يجرِّمنكم شنآنُ قومٍ ألَّا تعدلوا!! د. أحمد يوسف



ليس من السهل أن تكتب بإنصاف عن شخصٍ هو خصمٌ لك في مشهد الحكم والسياسة، وخاصة مثل النائب محمد دحلان، والذي تعدَّى زمن الخلاف معه أربعة عقود، بدأت في مطلع الثمانينيات، حيث كان التنافس في الجامعة الإسلامية محتدماً علىمن يتصدر مشهد العمل الطلابي،فالإسلاميون الذين يمثلون المُجمَّعالإسلامي كانوا هم رأس الحربة في الدفاع عن عرين الجامعة وقيادة جميع مؤسساتهاالإدارية والأكاديمية والطلابية، فيما كان الطالب محمد دحلان وأحداً من أبرز كوادر الشبيبة الفتحاوية ورموزها المؤسسين.

كانت تلك المرحلة في الثمانينيات هي بداية المواجهة بين التيار الإسلامي (الاخوان المسلمين) والشبيبة الفتحاوية الممثلةبالطالب محمد دحلان وما يُعبر عنه كواجهة لحركة فتح الطامحة لأن تكون عنواناً نضالياًيتمتع بامتلاك حاضنة طلابية واسعة، تمنح الحركة ما تصبو إليه من مكانة تليق بشعارها (أم الجماهير) وسمعتها الكفاحية؛باعتبارها صاحبة (الطلقة الأولى).

كان دحلان (ابن المخيم) لديه من حسِّالشقاوة والمشاغبة الكثير، مما أوقعه في خصومة مع شباب المُجمِّع الإسلامي داخل حرم الجامعة الإسلامية، والتي ظلَّت تداعياته تلاحقه كواحدةٍ من ذكريات دحلان الطالب (المشاغب) وصراعه مع الإسلاميين.

اعتقلت سلطات الاحتلال دحلان عام 1981ثم أبعدته بعد خمس سنوات قضاها في السجن إلى الأردن عام 1988، ثم انتقل إلى مصر وبعدها تمَّ ترحيله إلى العراق، ومن هناك حطَّ رحاله في تونس، ولم نسمع عنه خلال تلك الفترة إلا أنه كان شخصاً مقرباًللقائد خليل الوزير (أبو جهاد)، وأحد أبرز المسؤولين في متابعة شؤون القطاع الغربي وانتفاضة الحجارة، وقد شاع ذكره -آنذاك- بأنه بمثابة ذراعه الأيمن في جعل تلك الانتفاضة فعلاً نضالياً، حصلت فيه حركة فتح على حظٍّ وافرٍ من الشهرة مثل حركة حماس.. وبعد اغتيال الإسرائيليين للقائدأبي جهاد (رحمه الله) في تونس 16 إبريل 1988، انتقل دحلان للعمل إلى جانب القائد ياسر عرفات، حيث ضمّه إلى دائرة الثِّقاتمن رجالاته المقربين.

ومع توقيع اتفاقية أوسلو في أغسطس1993 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وعودةياسر عرفات إلى قطاع غزة مع آلاف الكوادر الفتحاوية وغيرها من فصائل العمل الوطني،حطَّ دحلان رحاله إلى جانبه مع قيادات حركة فتح التاريخية، حيث كان له دور أساس في انشاء جهاز "الأمن الوقائي"؛ المسؤول عن استقرار الحالة الأمنية في قطاع غزةوالضفة الغربية.

كانت حركة حماس رافضة لاتفاقية أوسلو ومعارضة للسلطة الفلسطينية، رغم محاولات ياسر عرفات التقرب من الشيخ أحمد ياسينوقيادات إخوانية أخرى في قطاع غزة والضفة الغربية، إذ كانت رغبته أن تكون حركة حماس إلى جانبه في شراكة مشهد الحكم والسياسة.

حاول الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله)التعايش مع السلطة ومهادنتها بتجنبالدخول معها في أيّة صراعات أو مواجهات مسلحة، إلا أنَّ موقفه هذا كان مبنياً على حساب أن تظَّل يدُّ المقاومة طليقةً في تصدِّيها ومناجزتها للاحتلال، إلا أنَّ ما قام بارتكابه المتطرف اليهودي باروخ جولدشتاين من جريمة بشعة داخل المسجد الإبراهيمي، والتي راح ضحيتها أكثر من ثلاثين شهيداً من المُصلِّين وقرابة المئةجريحٍ في فجر الخامس عشر من رمضان الموافق 25 فبراير 1994، أحدث ردة فعل كبيرة بين الفلسطينيين، أخذت على إثرها قيادة كتائب القسَّام قرارها بالانتقام لهؤلاء المُصلِّين الأبرياء، من خلال القيام بخمس عمليات استشهادية تردُّ فيها الصاع صاعين، إذ أودت تلك العمليات بمئات القتلىوالجرحى من الجنود والمستوطنين الصهاينة.

وعليه؛ جاء ردُّ الفعل الإسرائيلي ثقيلاً على الرئيس ياسر عرفات، مما اضطره لتحريك الأجهزة الأمنية الفلسطينية لاعتقال العشرات من كوادر حركة حماس، بهدف إرضاء حكومة رابين.

وهنا، كانت المواجهة الثانية مع دحلان، الذيكان هو المسؤول الأمني الأول في السلطة الفلسطينية، وبالتالي عادت ذكريات المواجهة مطلع الثمانينيات داخل حرم الجامعةالإسلامية، مما تنامى معه منسوب الخصومة تجاهه وتصاعد العداء للجهاز الأمني الذي يقوده.  

المحطة الثالثة للخصومة كانت مع انتخابات 1996، إذ قاطعت حركة حماس الانتخابات التشريعية، وشككت في نزاهتها، وكررت اتهاماتها للسلطة بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وهذا ما فتح الباب لاعتقال الكثير من قيادات حركة حماس وكتائب القسَّام،وتعرض البعض منهم للضرب والإهانة أمثال الدكتور إبراهيم المقادمة والدكتور محمود الزهار، مما عاظم منسوب الحقد والكراهية بينهم وبين حركة فتح وأجهزتها الأمنية،وخاصة جهاز الأمن الوقائي الذي يقودهالعقيد محمد دحلان.

وبناء على ذلك، جرى تحميل دحلان "وِزر"كلَّ هذه المواجهات التي وقعت فيالثمانينيات والتسعينيات، والتي لم تترك تُهمهً في السياق الوطني والديني إلا وتمَّإلصاقها به وبكلِّ من كان يعمل معه.

وخلال جولات المفاوضات التي قادها الرئيس محمود عباس وشاركه العديد من جلساتها العقيد محمد دحلان.. كان يتبدى إخفاق تلك المفاوضات في التوصل إلى أية نتائج إيجابية، مع التسليم للاحتلال بما فرضه من شروط، اعتبرها الكثيرون في فصائل العمل الوطني والتيار الإسلامي مجحفة وغير عادلة، واستمراراً لنهج أوسلو المتهم بـ(الخياني) فيما يتعلق بالحقوق والثوابت الفلسطينية.

في تلك المرحلة، طال دحلان المشارك في تلك المفاوضات بعض الاتهامات، كما تسرَّبتشائعات بأن الأمريكان -وربما الإسرائيليين-يعملان على تجهيزه كوريث للرئيس عرفات!!

كان دحلان ما يزال شاباً طموحاً أكثر من غيره في حركة فتح، وقد تغيَّرت تصرفاته ونبرته بعض الشيء، مما أوقعه في خلافٍ مع الزعيم ياسر عرفات (رحمه الله)، رغم كلّ التقدير والاحترام الذي يكنَّه له كقائد تاريخي وأبوي للحركة الوطنية الفلسطينية.

وبعد وفاة عرفات عام 2004، كانت المحطة الرابعة والأخيرة هي الأخطر في الخصومةبين دحلان وحركة حماس، والتي أعقبت الانتخابات التشريعية في 25 يناير 2006، والتي فازت فيها حركة حماس بالأغلبية، ونجحت في تشكيل الحكومة العاشرة (حكومة هنية) وحدها ودون أي مشاركة سياسية من حركة فتح التي أعلنت المقاطعة لها، بل كانت عناصر وقيادات تلك الحركة في سجال لا يتوقف من المناكفات السياسية،وكانت تُمارس التحرش والتحريض والتشويه، بهدف إفشال حكومة حماس في الحكم، وإسقاط شعبية الحركة داخل الشارع الفلسطيني.

للأسف؛ كان لتسريب بعض المغرضين جملة خرجت عن دحلان -آنذاك- وهو يتحدثلكوادر فتحاوية -بانفعال جامح- عن حركة حماس، وتركت هذه الجملة معها أثراً سلبياًفي العلاقة بين الطرفين، وكانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس والشعرة التي قصمت ظهر البعير، حيث حاول البعض -وأنا منهم- إصلاح ذات البين، وتلطيف أجواء الخصومة في أكثر من محطة كانت مواتية للإصلاح، إلا أننا -مع الأسف- أخفقنا في إنجاز مهمتنا.

ومع حالة الانفلات الإعلامي، وجِّهت كلُّ سهام حماس باتجاه دحلان، متهمة إياه بكلِّما يُجرِّمه في السياقين الوطني والديني، وكان هناك -بالطبع- من يدافع عنه، ويُلقي برماحه وحجارته الإعلامية باتجاه حماس وقياداتها وحكومتها واتهامها بالتخلف والظلامية.

في تلك الفترة التي أعقبت تصدر حماس لمشهد الحكم والسياسة، تعالت وتيرة الخلاف واشتدت مظاهر الخصومة، ووقعت الكثير من حوادث الاغتيال لشخصيات من حماس وأخرى من فتح، وظلت تتصاعد تلك المواجهات إلى أن وقعت المواجهات المأساوية المسلحة في 14 يونيو 2007، والتي سالت فيها دماءُ الكثير من مقاتلي الطرفين، وخاصة في ساحة قطاع غزة، والتي حُسمت معاركها لصالح حركة حماس، فيما أصبحت الحركة في الضفة الغربية محاصرة ومقيدة وتحت رحمة حركة فتح، وانتهت العلاقة -للأسف- إلى تبني لغة الانتقام وسياسة العقاب!! فما يجري في قطاع غزة أصبح يقابله رداً في الضفة الغربية على طريقة واحدة بواحدة (tit for tat).

وبناءً على خريطة الصراع هذه، أخذت يد السلطة تطال كلَّ ما تمثله حماس في مشهد الحكم والسياسة، عبر سياسة الفصل من العمل وقطع الرواتب وإغلاق المؤسسات، والتضيق على كلِّ من له علاقة بحركة حماس أو حكومتها في قطاع غزة أو الضفة الغربية.

كان النائب محمد دحلان؛ العضو باللجنة المركزية لحركة فتح، على خلافٍ أخذ بالتجذر والاتساع مع الرئيس محمود عباس حول إدارته للعملية السياسية والتنظيمية، وهذا ما جلب عليه الكثير من المتاعب والتحديات، والتي لم يجد من يعينه على تخطيها، بل تكاثرت أعداد المزايدين والسحيجة من المرجفين وأهل النفاق الطامعين في التخلص منه، عبر أساليب الوشاية ومحاولات "توشيب" الرئيس عباس لسحب صلاحياته ودفعه للزاوية، والتعجيل بخروجه من تحت عباءة السلطة في رام الله!!

بعد تعرض دحلان لعملية إطلاق نار عليه، وسحب حرسه الخاص، وجد نفسه عام 2011 مضطراً لمغادرة البلاد إلى الأردن،ومن هناك إلى الإمارات، حيث توفرت له مثابة آمنة هناك.

لقد نجح دحلان في اقناع كلِّ من تعامل معه بما لحق به من ظلم، جراء حالة التفرد وسياسة الفرعون التي عليها الرئيس عباس، وهذا ما أوجد حالة من التعاطف السياسي مع قضيته، وشجَّعه في اتخاذ خطوته -الأهم وهي التحرّك لجمع كوادر وقيادات فتحاوية تشاطره الشعور بالمظلومية وخلاف الرأي مع الرئيس عباس، وتأطيرها في تنظيم جديد أتخذ منحىً إصلاحياً ديمقراطياً، ولكن على قواعد ومنطلقات حركة فتح ونهج الزعيم المؤسس ياسر عرفات.

لا شكَّ أن دحلان يتمتع بالكاريزما والعلاقات الوطيدة داخل حركة فتح، مما مكَّنه من حشدعشرات الكوادر القيادية من أصدقاء الزمن الجميل ليلتحقوا به، ويجاهروا بخلافهم ورفضهم لسياسات الرئيس عباس التعسفية.

كان ذلك "التيار الإصلاحي" يتنامى عددياً،ويأخذ مع السنين طابعاً تنظيمياً وحركياً لا تُخطئه العين، والحديث عن كتلة انتخابية وازنة قد تتجاوز المئة ألف من الشباب والشابات في قطاع غزة وحدها.

لقد تمكن دحلان من خلال علاقاته الجيدة في دول الخليج -وخاصة مع الإمارات- من حشد الدعم الإنساني والإغاثي لقطاع غزة، مما أهلَّه لاستعادة مكانته في الوجدان الشعبي، وتشكيل كيانية حزبية تمثل من 12-15% من القاعدة الانتخابية العامة، والتي لا يمكن تجاهلها عند تشكيل أي حكومة وحدة فلسطينية قادمة.

في الحقيقة، نجح دحلان الذي يتمتع بعلاقات قوية مع مصر في العثور على "حجر رشيد" السحري لفك شِفرة الخلاف بين النظام المصري وحركة حماس، وهذا ما أسهم في انفراج العلاقة مع التيار الإصلاحي واللقاء المتكرر لقيادات من حماس مع قيادات ذلك التيار، بمن فيهم محمد دحلان وسمير المشهراوي وأسامة الفرا.

كما سبق وأن ذكرت، فإن دحلان في نظر البعض هو شخص "خلافي -مثير للجدل" ولكنه -بلا شك- سياسي طموح ورجل دولة،ويتمتع بالكثير من العلاقات الإقليمية والدولية، كما أنه في ذاكرة حماس "الخصم اللدود"، إلا أنَّ هذه الخصومة آخذةٌ هذا اليوم في التلاشي، وخاصة إذا ما تحركت الحياة السياسية وجرت الانتخابات التشريعية، حيث إنَّ حسابات المصالح،المحرك الأهم والأقوى في عالم السياسة،ستطغى على أية أعتبارات أخرى.

وبناء على ذلك، يمكن القول: إنَّ دحلان بذل الكثير من الجهد لتحقيق التقارب مع حركة حماس، وقدَّم من المواقف والمساعدات الإنسانية الكثير لقطاع غزة، ما أسهم في تمهيد الطريق نحو علاقة أفضل مع قيادات الحركة ومؤسساتها، ومكَّنه من القفز فوقسنوات الخصومة والشنآن، التي تجاوزت الأربعة عقود من التشهير والتحريض والمناكفات السياسية.

ختاماً.. دحلان اليوم لا يتم التعامل معه – من وجهة نظري- إلا في إطار الشراكة السياسية المستقبلية مع حركة حماس، وهو قد يكون بمثابة رأس الجسر لتمكين الحركة من العبور لذلك المشهد السياسي القادم،وصياغة توافق وطني قائم على أرضية من القواسم التي تجمع ولا تفرق، والقادرة على ترميم تصدعات المشهد السياسي واجتماع شمل الكلّ الفلسطيني.

2