نشر موقع “ميدل إيست آي”مقالا لمحرره ديفيد هيرست قال فيه إن الاعتذاريين البريطانيين عن إسرائيل ساعدوا في عنفها ضد مخيم جنين.
ودعا القارئ إلى النظر في اقتباسين يبدو أنهما معاصران، الأول من عميد شحادة، الصحافي الفلسطيني الذي كان في مخيم جنين في أثناء الهجوم الإسرائيلي الواسع هذا الأسبوع: “المشاهد في جنين كانت مخيفة، وهناك نار مشتعلة في كل الاتجاهات والبيوت التي تهدم. ولا يمكن التعامي عن الصراخ الصادر، ولا تزال تدور في رأسي. والصدمة الكبرى حصلت عندما جاء الجنود الإسرائيليون وبدأوا بإطلاق الرصاص على كاميراتنا عندما رأونا”.
أما الاقتباس الثاني، فهو من مايكل غوف، وزير تعديل المستوى والإسكان والمجتمعات، والنائب عن حزب المحافظين الحاكم، ففي الوقت الذي كانت فيها الجرافات الإسرائيلية تشق طريقها في مخيم جنين، وقف غوف أمام البرلمان لكي يدفع بالقراءة الثانية لمشروع قانون سيحظر حركة المقاطعة ضد إسرائيل أو بي دي أس.
وأنهى كلامه الافتتاحي بالقول بأن أي نائب يصوت ضد مشروع القانون سيكون “معاديا للسامية” و”السؤال لكل عضو في مجلس العموم هو إن كانوا معنا أم ضدنا”.
ويطلق على مشروع القانون اسم “النشاط الاقتصادي للمؤسسات العامة (في الأمور الخارجية)”، ويريد منع المؤسسات العامة بما فيها المجالس المحلية من دعم المقاطعة التي تستهدف حكومات أجنبية بناء على أسس أخلاقية وسياسية.
وهاجم غوف حركة المقاطعة بناء على أساسين وهما أنها تقوم بتعزيز معاداة السامية وأنها تتناقض مع السياسة البريطانية من النزاع، الذي يقوم على حل الدولتين، وزعم أن حركة المقاطعة “مصممة تحديدا لمحو هوية إسرائيل كوطن للشعب اليهودي”. وبعبارات وزير الظل السابق في حكومة العمال ريتشارد بيردن، فالقانون يحمي انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل من الفحص في المؤسسات البريطانية العامة، وسيدمر أي نقاش حول التزام بريطانيا بالمبادئ المرشدة التي وضعتها الأمم المتحدة بشأن التجارة وحقوق الإنسان والتي وقعت بريطانيا عليها منذ عقد.
ويعلق هيرست أن توقيت القانون والنقاش حوله ليس عرضيا. فليس مصادفة تاريخية نقاش جانبي مجلس العموم لمشروع قرار سيضيف لإسرائيل طبقة جديدة من الحصانة والإفلات من العقاب، في وقت تنفذ فيه فعلا إجراميا من الحرب ضد مخيم للاجئين مكتظ بالسكان، وعندما تتوقف الحرب يركز جيشها النار على المستشفيات التي تعالج الجرحى.
ويعتقد هيرست أن النقاش البريطاني هو جزء من كتاب إسرائيل، وجزء ضروري تستخدمه للتستر على مشروع الضم الماضية به.
وفي اللحظة التي تكون فيها إسرائيل هي الطرف المعتدي، وهو ما لا شك فيه يسارع طرفي النقاش في لندن لتصويرها بأنها داعمة للضحايا.
ويدخل في هذا خيال، وهو أن الحكومة البريطانية مهما كان لونها جادة في مسألة بناء دولة فلسطينية والتي تستدعي اليوم طرد 700 ألف مستوطن من الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية.
وتقيم في الوقت نفسه ستارة عالية للخداع. وفي هذه الحالة، من الإسرائيليين مثل المستوطن موردخاي كوهين الذي قال لقناة “كان” الإسرائيلية أن الهدف الرئيسي من الهجمات غير المسبوقة على القرى والبلدات الفلسطينية هي دفع سكانها للمغادرة، وأضاف “يجب على الفلسطينيين الذهاب إلى الأردن إن كان يريدون حياة طبيعية”. وعبر كوهين عن فرحه لمشهد 3 آلاف فلسطيني يهربون من بيوتهم في المخيم، الذي كان يتعرض لهجوم جوي وبري من الجيش الإسرائيلي. وكان على الفلسطينيين الفرار أكثر من مرة في السنوات الـ75 الماضية، وعائلاتهم من حيفا ويافا وكل المناطق التي احتلت في عام 1948. ويعلق هيرست من أن “الفحش في هذا النقاش الذي جرى داخل مجلس العموم، وفي الليلة نفسها التي هاجمت فيها القوات الإسرائيلية مخيما فلسطينيا يسكنه 15 آلاف نسمة محشورين في مساحة لا تزيد عن نصف ميل بالمسيرات والدبابات والجرافات والقناصة كان واضحا مثل الشمس”.
وفي ظل قيادة كير ستارمر، جرد حزب العمال نفسه من أي شبه للحزب الذي كافح ضد التمييز العنصري في جنوب إفريقيا أو أي زعم بأنه حزب تقدمي.
ولا فرق بين ستارمر وغوف إلا في التعبير وليس النية.
وللمرة الثانية في مسيرته السياسية يستعين ستارمر بالمستشار القانوني.
وكان الأول، مارتن فورد، الذي توصل إلى نتيجة “من المضلل تماما” التأكيد على أن زعيم العمال السابق جيرمي كوربن تدخل بشكل عملي لوقف التحقيق في حالات معاداة السامية. وهو ما لم يكن ستارمر، الذي كان مرة محاميا في مجال حقوق الإنسان، استماعه، ولهذا تجاهل فورد وأغلق على نصيحته.
ولم يكن ستارمر أفضل في الحالة الثانية عندما استعان بريتشارد هارمر. فقد وجد هارمر أن مشروع قانون حظر بي دي أس مرفوض، مهما اعتبر الواحد حركة بي دي أس مثيرة للاشمئزاز أو بشكل آخر حركة شرعية لا تدعو إلى العنف. ووجد هارمر أن مشروع القانون سيترك أثره المحدد على قدرة بريطانيا لحماية حقوق الإنسان في الخارج وأنه غير متناسق “مع التزاماتنا بالقانون الدولي وسيخنق حرية التعبير”. و”لو كان لدينا تشريع كهذا في الثمانينيات من القرن الماضي، لكان رفض التعامل مع البضائع القادمة من جنوب إفريقيا باعتبارها أمرا غير قانوني”، ومرة ثانية تجاهل ستارمر النصيحة وامتنع عن التصويت في القراءة الثانية. ونتيجة كهذه هي مثل “المن” النازل من السماء للجنود الإسرائيليين والمستوطنين الذين يهاجمون اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم وقراهم وبيوتهم. وكذا التصريح الذي صيغ بطريقة لطيفة من رئيس الوزراء ريشي سوناك الذي حث إسرائيل التي قتلت 12 فلسطينيا وجرحت أكثر من مئة، على “إظهار ضبط النفس”. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إسرائيل بأنها “الحليف الذي لا يستبدل ولا يستغنى عنه”، ولماذا لا يقول؟ فقد دعمت وزارة الخارجية تبرير إسرائيل في الهجوم على مخيم جنين، وقال المتحدث باسمها، نيد برايس “لإسرائيل الحق الشرعي للدفاع عن شعبها وأرضها ضد كل أشكال العدوان بما فيها الجماعات الإرهابية”.
وبشكل تراكمي، فإن التصريحات هي بمثابة ضوء أخضر لأكثر حكومة تطرفا في تاريخ إسرائيل، وفيها عدد من الفاشيين والإرهابيين الذين يريدون القيام بعملية تطهير عرقي في الضفة الغربية. و”يظل الإفلات من العقاب أمرا أساسيا للسماح لإسرائيل بالسخرية من السياسة المعلنة لداعميها الرئيسان وهما بريطانيا وأمريكا”.
ولهذا السبب تجاوزت إسرائيل نقطة قبول الفلسطينيين كجيران لها. وبات الأمر هو حل الدولة الواحدة تقوم فيها أقلية يهودية بمحاولة دفع الأغلبية العربية إلى المغادرة، مستخدمة كل ما لديها من قوة ومصادر.
ويقول هيرست: “التظاهر بأن الدولة الفلسطينية لا تزال ممكنة هو واحد من الخرافات القبيحة التي تخدم النفس وتواصل الحكومة البريطانية تأبيدها”. في وقت لا يخفي وزير الأمن المتطرف إيتمار بن غفير موقفه، ثم إن قادة المستوطنين لا مشكلة لديهم عندهم بالحديث عن نواياهم، وفي الحقيقة يتفاخرون بذلك، ويريدون إجبار الكثير من الفلسطينيين على ترك بيوتهم في الضفة الغربية، من خلال إرهابهم وحرق بيوتهم وإطلاق النار عليهم. ويحظى المستوطنون بحماية الجنود الذين يمارسون السياسة نفسها في جنين ونابلس وعموم الضفة الغربية.
ولا يخفي بتسلئيل سموتريتش، زعيم القوة الصهيونية نواياه بشأن الضفة الغربية، ففي “خطة القرار” التي كتبها عام 2017، إن الفلسطينيين ليسوا موجودين كشعب بالأساس، “الشعب الفلسطيني” لا شيء ولكن حركة مضادة للصهيونية، جوهرها وحقها في الوجود. وتعرف الأحزاب الفلسطينية المطالبة بحق تقرير المصير من أن “شعبا” كهذا لم يكن موجودا قبل المشروع الصهيوني وأن “فلسطين” كان اسما جغرافيا لقطعة من الأرض ليس إلا. وهذا ما يقوله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أوكرانيا والأوكرانيين. ويتوصل سموتريتش قائلا إن “استمرار تطلعين متناقضين على أرضنا الصغيرة يضمن لنا سنوات أخرى من الدم والعيش على حد السكين. وعندما يتنازل طرف بطوعية عن طموحه الوطني في أرض إسرائيل، سيحل السلام الدائم، وعندها سنعيش حياة مدنية”. ومن الخيال التظاهر أن هذا الكلام ليس سياسة دولة إسرائيل، مستوطنيها وجيشها ومحاكمها. فكل كلمة يقولها ستارمر ووزير الظل لتعديل المستوى في حزبه دعما للدولة اليهودية، وفي كل مرة يمتنع فيها حزب العمال عن التصويت فإنهما يرسلان رسالة إلى إسرائيل بأنها تستطيع عمل ما تريد. فهذا يحفز تعبير الدولة اليهودية التي تعرف نفسها على أنها دولة تقرير مصير للمواطنين اليهود ولمواصلة مهمتها التي بدأتها عام 1948 لطرد الفلسطينيين. ولا ترى إسرائيل المعاناة التي تسببت بها ولا إنسانية ضحاياها فهي ترى فيهم عائقا لطموحاتها القومية. و “لا أعرف من نلوم سموتريتش، بن غفير أو الذين يعتذرون عنهم في بريطانيا”. وعند هذه النقطة في التاريخ، فهم يخدمون القضية نفسها، وفي النهاية فسموتريتش واضح بالنسبة إلى نواياه.
وليست هذه المرة الأولى التي تتم فيها تسوية مخيم جنين بالجرافات. واعتقد أرييل شارون أنه أنهى الأمر في معركة جنين في ذروة الانتفاضة الثانية عام 2002، والتي قتل فيها 52 شخصا نصفهم من المدنيين تقريبا. واعتقد توني بلير أنه حل المشكلة من خلال محوره الاقتصادي. وبعد 21 عاما بالضبط لا تزال جنين معقل المقاومة بجيل من المقاتلين لم يولدوا عام 2002، ولن تسكت جنين وتقبل بأنها محتلة، ولم تسكت في أثناء الاحتلال البريطاني ولن تسكت على الاحتلال الإسرائيلي. ولو اعتقد نتنياهو أن فصلا قد أغلق بالعملية، فهو مخطئ جدا، فقد بدأ فصل جديد سيحفز جيلا آخر من المقاتلين لمواصلة قضية تحرير وطنهم من كل المحتلين.