بماذا تتأثر ثقافات الشعوب؟ عبد الغني سلامة

الإثنين 01 مايو 2023 07:42 م / بتوقيت القدس +2GMT
بماذا تتأثر ثقافات الشعوب؟ عبد الغني سلامة



استضاف برنامج «رحلة في الذاكرة»، البروفيسورة الروسية «ليبيديفا»، الرائدة في علم النفس العرقي (عبر الثقافي)، وهو العلم الذي جاء رداً على علم النفس السكاني، الذي احتكره الناطقون بالإنجليزية لفترات طويلة، حين كانوا يحللون الجماعات الإثنية وثقافاتها وعاداتها انطلاقاً من مفهومهم الخاص، ودون الغوص أو التطرق إلى العوامل الخفية التي أدت إلى تبلور تلك الثقافات، فاستعرضت الضيفة في حديثها بعض العوامل التي أثّرت في تبلور ثقافات المجموعات العرقية والأفراد بتناولها مثالاً عن قبيلة إفريقية.
كانت تلك القبيلة تقطن في منطقة تكثر فيها ذبابة «تسي تسي»، وهي ذبابة خطيرة تسبب لمن يتعرض للدغاتها النوم الطويل والمزمن، وبما أن البشر بوسعهم اتخاذ تدابير خاصة للوقاية منها، مثل الأغطية وغيرها، لم يكن ذلك ممكناً أو متاحاً بالنسبة للماشية، الأمر الذي أدى إلى تعرض أعداد كبيرة منها لسموم تلك الذبابة، وفي النهاية بدأت تنفق وتتقلص أعدادها، حتى تخلت القبيلة عنها بعد أن صار اقتناؤها مكلفاً ودون فائدة، ما يعني أن تلك القبيلة فقدت مصدراً غذائياً مهماً، وبالتالي سيُحرم أطفالها من حليب الأبقار والماعز، ما استوجب بديلاً عنها حتى لا يتعرضوا لسوء التغذية، وهو أن ترضع الأم أطفالها مدة طويلة تصل إلى ثلاث سنوات، لتعويض الطفل حاجته من الحليب، وهذا الأمر تطلب امتناع الزوج عن ممارسة الجماع مع زوجته طيلة السنوات الثلاث، حتى لا تحمل، وينقطع إدرارها للحليب، أو يأتي منافس للطفل فيتأثر نموه.. وبما أن هذه الفترة طويلة، ولا يمكن للرجل أن يتحملها دون جنس، سُمح له أن يتزوج بامرأة ثانية، أو أكثر بقدر ما يرغب، وبحسب إمكانياته.
ولم تكن تلبية الحاجة الجنسية الدافع الرئيس لهذه الإباحة، بل كانت الحاجة لمواصلة إنجاب الأولاد، لأهميتهم الإنتاجية في مجتمعات الصيد، وهكذا وبسبب ذبابة تغيرت ثقافة القبيلة كلياً وصارت تسمح بالزواج المتعدد، خلافاً للقبائل الأخرى المجاورة والتي تقطن في نفس الإقليم، والتي ظلت تحافظ على مبدأ الزواج الأحادي.
والتغيير الثاني في ثقافة المجتمع طال الأولاد أنفسهم، فبسبب طول مدة مكوثهم في أحضان أمهاتهم، اللواتي سيتولين شؤون تربيتهم، بدأت تتشكل لدى الصبيان معالم وقسمات أنثوية، وهذا ضد مصلحة القبيلة التي تريد شباناً أقوياء وذوي بأس شديد، فصارت القبيلة تعمد إلى ممارسة طقوس قاسية وصارمة للصبيان في سن العاشرة، حتى يتخلصوا من القسمات الأنثوية الناعمة، وينتقلوا إلى عالم الرجولة. وقد لوحظ أنّ تلك الثقافة والطقوس خاصة فقط بالقبائل التي تنتشر في مناطقها ذبابة «تس تسي»، وغير موجودة في القبائل الرعوية والزراعية المجاورة.
ولو طبقنا هذه القاعدة على شعوب أخرى ربما نخلص إلى نتائج مماثلة، فمثلاً شعب الإسكيمو صاغ ثقافته وعاداته بناء على طبيعة المناخ والبرودة الشديدة في مناطق سكناهم، وهذا انعكس على قيمهم المجتمعية، وأنواع مأكولاتهم، وأزيائهم، وفولكلورهم الشعبي، وبالتالي على أنماطهم السلوكية.. وتلك القاعدة واضحة تماماً لدى الشعوب البدائية (أي قبل انفتاحها على بعضها)، وأيضاً على الشعوب التي ما زالت تسكن إلى الآن في مناطق نائية ومعزولة، كما الحال في الجزر المحيطية، والمناطق الاستوائية، وفي حوض الأمازون، وأعماق الصحارى الشاسعة.
ومع ذلك، حتى في عصر العولمة والحداثة، ما زالت أزياء الشعوب ومأكولاتها وطقوسها (خاصة الفولكلورية) انعكاساً للظروف الطبيعية والبيئية التي تحيط بهم.
المجتمعات الزراعية البدائية بلورت لنفسها ثقافة تشاركية وتعاونية، لأن ذلك كان ضرورياً لإنجاز العمل ومن أجل زيادة الإنتاج، ونلاحظ هنا أن الآلهة التي تصوروها كانت مسالمة، فهي مسؤولة عن الخصب والنماء وسقاية النباتات، وهذه المجتمعات الزراعية هي التي تطورت لاحقاً إلى مدن.. بينما في مجتمعات الصيد التي تتطلب أشخاصاً أقوياء البنية، ويتمتعون بالشجاعة، ويحتاج كل فرد منهم أن يتخذ قراراً فورياً بنفسه، فلم تتكون لديهم ثقافة تشاركية، كما أنهم تصوروا آلهتهم قوية ومحاربة وشرسة، فذلك يتناسب مع تكوينهم النفسي المتأثر بالبيئة وسبل العيش المتاحة.  
أما المجتمعات الرعوية والتي تقطن في الصحراء، فقد اعتادت على الغزو، فقسوة الظروف ومخاطر الحياة والصراع على الموارد الشحيحة تتطلب روحاً قتالية وعدوانية، ولا مجال هنا للتسامح والتشارك.  
وبالإضافة للعامل البيئي والجغرافي، سنجد أثراً مهماً للعامل التاريخي في تكوين ثقافات الشعوب، فأحياناً كان لحدثٍ معين (حتى لو بدا صغيراً آنذاك)، أو لوجود شخصية ما (على الأغلب شخصية مؤثرة) تأثير بالغ الأهمية في تغيير ثقافة مجتمع ما، أو إعادة إنتاج ثقافته بصورة مغايرة، خاصة مع تعاقب الأجيال وتغير الظروف، وعادة ما تكون المجتمعات الدينامية والحيوية المنفتحة أكثر تقبلاً لتغيير ثقافتها، فتجري هذه العملية بصورة أسرع وأيسر، فالانفتاح والتقاء الناس ببعضها تجعلهم أكثر إيجابية تجاه الغرباء، فيكفّ الفرد عن الاعتقاد بأن ثقافته كاملة، وأنها احتوت على كل شيء، وأنها الأفضل.. خلافاً للمجتمعات المحافظة والمنغلقة، ذات الثقافة الانطوائية.
الشعب الياباني حتى بدايات القرن العشرين كان شديد العدوانية تجاه الغرباء، فقد ظل يعيش في عزلة تامة عن العالم، وعندما بدأ ينهض ويطور صناعاته، عانى من شح الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة اللازمة للإنتاج الصناعي، والأمر ذاته عانى منه الشعب الألماني، لذا ظهرت لدى هذين الشعبين نزعات كولونيالية عدوانية وروح شوفينية متعصبة؛ فاتجها للحروب التوسعية. ولكن هزيمة البلدين أثرت بشكل فعال وجوهري في إعادة بلورة ثقافة جديدة بروح منفتحة وتعاونية.
ولو تتبعنا مسار تشكل ثقافة كل مجتمع سنجد جذوراً تاريخية ضاربة في القدم، وتعود لمئات أو آلاف السنوات، بدأت بطقوس وممارسات ومعتقدات معينة كانت بالضرورة تنسجم مع تلك المراحل الموغلة في التاريخ، وتتناسب مع الأرضية المعرفية التي كانت سائدة آنذاك، ومع أن الظروف تغيرت، وأجيال كثيرة أتت وتعاقبت، إلا أن بعضاً من تلك الطقوس والمعتقدات ما زالت موجودة، وتتجدد بصيغ مختلفة، قد تجد آثارها في الأمثال الشعبية، أو بعض العادات، وفي الكثير من المعتقدات.