يرى نيتشة ان الرجل مكمن القسوة، لكن المرأة مكمن الشر، فهل كان محقا؟إذا كان الشر طاقة فمتى تكون طاقة إيجابية ومتى تكون العكس؟ثم هل يتم توظيفها تلقائيا أم بفعل فاعل هو مكمن القسوة؟ الاجابة في كل الاحوال ليست مهمة لان التأمل أكثر جدوى، والكاميرا قد تؤدي هذا الطقس بجدارة طالما انها تحول المعرفة الى طاقة تأملية، تؤرشف الحدث بعد استعارته من الواقع ومن ثم تضعه تحت عين المجهر كي تراه انت بوضوح تام موثقا وموثوقا به طالما أنه يستعين بذاكرة مصورة..برنامج ’تحت المجهر’ الذي تبثه ’الجزيرة’ كل جمعة سلط الضوء هذه المرة على مجموعة من النساء المقاتلات في لبنان، على تجربتهن مع السلاح سواء اراديا او اضطراريا، عن ذاكرتهن الحربية، وعن انوثتهن المنسية في ادراج الزينة المهملة ! إنهن نساء لبنان بين الحرب الاهلية والاجتياح الاسرائيلي وحرب المنظمات والمخيمات، ووووووو.بعد مضي زمن تختمر الذاكرة، وتنضج حتى يحين قطافها، وهذا تحديدا ما يحدث في ذاكرة الحروب، لانك تحتاج لوقت، لمهلة تفرغ او لإجازة من الحرب على اعتبارها مهنة سياسية، كي تستطيع استحضار الهاجس الامني ليس كحاجة ماسة بقدر ما هو قيمة تستحق التقدير، وقد ينطبق هذا على النضال وليس العراك فحسب، يعني ان تخوض حربا من منطلق الايمان بضرورة الحرب من اجل السلام، فلابد انك ستتعامل مع الهاجس الامني باستراتيجية نفسية مماثلة تقريبا.هن مجموعة من النساء اللبنانيات اللواتي وقع عليهن اختيار الكاميرا كي يحكين عن تجربتهن مع السلاح في بلدهن لبنان خلال سلسلة من حروب دموية لم تبق ولم تذر الا صورة يتيمة هي الارض الخراب، لكن البرنامج لم يغفل موضوعة انتمائهن لصفوف المقاومة اللبنانية، حيث لم يكتف بالذاكرة فحسب انما عرج على وضع المرأة المجاهدة الراهن ومدى جاهزيتها واستعدادها لمواجهة اي اعتداء اسرائيلي محتمل.ما يدهشك حقا ان هنالك مجموعة منهن بدين اقرب الى هيئة الرجل منهن الى المرأة، فصوتهن، حركاتهن، وطريقة تعاملهن مع الاخرين توحي لك بذكورة لا شك فيها، وخشونة مكتسبة أصبحت جزءا من شخصيتهن، احداهن امرأة اربعينية لقبها العسكري مايا ،كانت تتطبع طبع الرجال ترتدي ما يلبسون وتنهج ما ينهجون حتى بدأت تتعرف على انوثتها رويدا رويدا وترى النساء اللواتي في عمرها وتشتاق لذاتها، الكاميرا اتجهت الى ادوات الزينة من ماكياج وطلاء أظافر لتدل على وجود انثى في هذا المكان كانت يوما تسدد الرصاص من شرفة غرفتها طفلة، حيث علمها ابوها مهارة القتال والدفاع عن النفس، ربما كانت هذه هي المرأة الوحيدة في البرنامج التي ستشعر بمرارة حديثها عن ذاكرتها كمقاتلة لانها تخبرك وانه بلا شعور لما أنجبت طفلها الاول لم تحمله على جهة القلب بل على الكتف اليمين الذي اعتادت ان تحمل عليه سلاجها، ودون وعي، بدا في صوتها اصرار أمومي على أنها لن تضع ايا من ابنائها في الموضع الذي وضعها ابوها فيه لانها هي من ستتولى مسألة الدفاع عنهم ولن تضطرهم لفعل ذلك بانفسهم.كان واضحا ان البرنامج يعقد مقارنة ضمنية بين القتال في صفوف الميليشيات اللبنانية أثناء الحرب الاهلية، وبين النساء اللواتي استجبن للوازع الفطري الذي يحتم عليهن مسالة القتال بدافع المقاومة وليس الحقد الطائفي أو العنصرية..وهذا يخلق نوعا من النقمة والتعاطف لدى المشاهد، فانت بالضرورة ستحترم من تواجه اسرائيليا بما اتيح اليها من أساليب حتى لو كانت تتمثل بحرق بعض الجنود في جيش الاحتلال بالزيت المغلي، إنه دفاع مشروع عن الارض والكرامة، ولن يندرج تحت مسألة القتل المجرد ابدا، لذا فان سؤال المذيع عن مسألة الندم ومسألة الضحية بدا محاولة لاظهار التوازن بين طرفي المعادلة اللبنانية.ساحات المعركة مختلفة تماما، فان تقتل لبنانيا او فلسطينيا او عربيا غير ان تقتل اسرائيليا، اليس هذا امرا مفروغا منه؟رافقت الكاميرا امرأة برأس شائب تتعبد في الكنيسة، وتتحدث عن معرفة الله عبر القراءة وعبر التقائه في الميدان، جوسلين خوري رغم روعة حديثها، وهيئتها المطمئنة وهي تتعبد وتصلي بخشوع جميل ورائق، تصدمك لما تربط بين طاقة الامومة التي تحملها المرأة في داخلها وطاقة المحبة والحياة وبين طاقة القتل والقتال في المواجهة اللبنانية مع المنظمات الفلسطينية المسلحة، فاين وجه الربط بين طاقة الحياة وطاقة الحقد؟! انا لا أعفي بعض الجهات الفلسطينية تماما، لكنك يا أخي تستغرب ايما استغراب لما تستمع الى شهادات البعض حول العدو الحقيقي للبنان!!المفروض ان يكون في التعبد نوع من التأمل لان التعبد طاقة تمنح الخشوع والسلام والنقاء، كيف استطاعت تلك المرأة ان تتحدث عن المحبة كرديف للقتل! بل انها تصرح انها قتلت الكثير خلال المعارك وان القتل لم يعطها وقتا للتفكير وهي التي تدربت على السلاح الذي بنى لها ذاتها وشخصيتها، ومدها بغريزة الدفاع عن الحياة، لذا فانها لم تندم ’ولا مرة’ ولا تعرف تفسيرا لهذا التصالح مع النفس!كنت ارغب بعدم التعليق على هذه المرأة تحديدا، احتراما للطقس الديني الذي ظهرت فيه من خلال البرنامج، مما اوحى لي بداية بسكينة خفية مشوبة بالحذر، لمعرفتي بخلفية الوضع الفلسطيني اللبناني جيدا، وكم كنت اتمنى لو ان ذلك الخشوع رافقه حديث عن رغبة في مواجهة العدو الاسرائيلي، والتعامل مع غويزة الدفاع عن الحياة في مواجهة الصناع الحقيقيين للموت! الان في لعبة الاخراج شيء من الايهام، والتشويق والصدمة! المفاجأة تأتيك من احداهن لما تعترف وبكل جرأة وصراحة وبرود اعصاب انها لم تندم يوما على قتل احد اثناء الحرب الاهلية وحرب المخيمات، وانها لوعاد بها الزمن ستفعل ذات الامر! حسنا إذن نرجوك ألا تعود أيها الزمن أبدا! فلدينا ما يغنينا ويكفينا من ازمنة سوداء قادمة!الرفيقة ميسلون ظهرت بزيها العسكري، تحدثت عن موقع الصمود 3 سنوات في مواجة العدو الاسرائيلي وكيف انها حملت السلاح وهي تنتظر جنينها، وعن استشهاد زوجها واعتقال ابنها في معتقل الخيام لعشر سنين وعن فلذات اكبادها مشاريع الشهادة، الحديث هنا يدعوك للاعتزاز بهذه المرأة وأقل ما ستقوله انها اخت الرجال!أما المناضلة سهى بشارة فقد روت تجربتها مع السلاح من زاوية اخرى، لم ترتد سهى بشارة زيها العسكري عندما نوت القيام بمهمتها المقدسة الا وهي قتل الخائن!ارتدت اللون الوردي وتزنرت بسلاح وارته عن عيون الحرس، اول مرة لم تقم بالمهمة كما تقول لانها اصطدمت مع ذاتها، الا انها في المرة الثانية لم تتردد مطلقا واطلقت طلقتين بالعدد الاولى رسالة الى الشعب اللبناني ليوقف الحرب الاهلية ويطلق رصاصة على العدو الحقيقي والثانية تحية لاطفال الحجارة، تحدثت عن ذاكرة السلاح في المعتقل، الشريط ذاته يدور في رأسها 6 سنوات، ثم تجربة الكتابة، فالطلقة كانت بهدف التحرير أما الكتابة فللحفاظ على ذلك التحرير، وفي سؤال حول ماذا لوالتقيت انطوان لحد الان، قالت: لا شيء سيموت بسكتة قلبية مني قبل ان تطلق عليه الرصاص مرة اخرى!’لم أدخل بيته وانا خائفة لانه رمز للاحتلال الاسرائيلي’ لم ينس البرنامج عروس الجنوب الشهيدة ’سناء محيدلي’ الذي ابتدا بمشهد تمثيلي لها وبتأريخ لعملية استشهادها في عمر الـ18 سنة نيسان 1985، وفي شريط مسجل قالت ’دمي بغسل ارض جنوبي’ يا الله على مثل هكذا نساء، ان سلاحهن هنا وفي هذه الحالة بالذات ما هو الا اكليلهن، وموتهن حياة، وعرسهن شهادة، لقد اعيد جثمان هذه الشهيدة الى لبنان في 2008 ليوارى في حضن جنتها..حينها لاتقل لي ان من ماتوا في الحرب الاهلية او حرب المنظمات هم شهداء، بل الاولى برفاقهم ان يبكوا عليهم الدهر، لان الموت في حالتهم هباء، وعمرهم ارخص من موتهم!البرنامج كان رائعا والمفارقة التي بدت ذكية ومحكمة في الحربين كانت مهنية وحقيقية وبعيدة عن اي تحيز يذكر، لانها راعت الشمولية والاختلاف والدقة.الاخبار المحلية لكل قطر عربي الحرية والحق بان يكون اعلامه منبره الذي يوصل عبره رسالته ويعكس اتجاهاته واهدافه، بحيث يكرسه لهذا المضمون تكريسا تاما، لم نقل شيئا، حلال عليهم، ولكن ما يثير ضحكك وبكاك هو طبيعة هذا الاستغلال للاعلام واسلوب طرح الذات!بلادنا العربية تعج بالفقر والبطالة والجريمة التي يتستر عليها هذا الجهاز الأعور الدجال، وتتراكم فيها المشاكل الاجتماعية من تفكك اسري الى جرائم اغتصاب الابناء، الى العمالات الوافدة الى مشاكل اللجوء والمخيمات الى الضرائب والقضاء والتجارة والاستهلاك المحلي والتصدير والاستيراد والعولمة والتدريس وووووووووو، وحينما تريد ان تتعرف الى المجتمعات المحلية العربية لابد انك اول ما ستلجأ اليه هو اعلامها، الا انك يا عزيزي اللاجئ الاعلامي ستصاب بالذهول من حالة الخديعة المستشرية في المنظومة العربية الاعلامية!لماذا؟بكل بساطة لان لا شيء مما ذكرت يتم عرضه، وان فعلت بعض القنوات فانها لن تقوم بفعلتها هذه على اكمل وجه، بل لن يتعدى الامر مرور الكرام كأن المسالة مسالة رفع عتب!الباقي من الاخبار المحلية يتم تخصيصه للقائد العربي فالقائد تغدى وتمدى القائد تعشى وتمشى، والقائد صافح الرئيس الفلاني و استقبل التهنئة من اخيه الخليفة الفلاني، وافتتح معرضا وقص الشريط وووووومن امور لايمكن ادراجها في نطاق الخبر المحلي مهنيا.الخبر المحلي له شروطه المهنية التي تكاد معظم دولنا العربية تغفلها عن سابق قصد وتعمد، فلن تهتم بالمساكين وابناء السبيل واليتامى وضحايا العنصرية القطرية والنطاق الصحي المتردي، أو الأمني المخابراتي، ولن تلتفت طبعا الى افواج العاطلين عن الحياة العزيزة ولا الى مثقفي النواصي والمقاهي الشعبية ولا الى تجار المخدرات والحشيش، وصفقات رجال الاعمال المشتبه بها، ولا الى العصابات الوزارية ولا الى (هشك بشك يا باشا)! ولا حتى الى شؤون المعتقلين والاسرى، والمختطفين ولا الى شؤون المعاقين والعجزة. كل ما سيهمها بالضرورة هو ان تلمع الصورة المحلية قدر الامكان وتمارس الادعاء المتقن انها تعرض المشكلة وان على استحياء وتناقش المسؤول.هذه لعبه لم تعد تجدي اصحابها نفعا لان الاجهزة الاعلامية في بلادنا اصبحت اشبه بشواطئ العراة الذين لا تسترهم مياه البحر ولا حتى ما اتيح من اوراق شجر هرمة! واقرب الى حفلات تنكرية هابطة أو رقص تعر والحدق يفهم! هنالك ديناميكة مغشوشة، غير موثوق بها على الاطلاق لانها ليست اكثر من استعراض تلفزيوني اشبه بالتهريج، وبرامج منتهية الصلاحية طالما انها لا تضع الكاميرا على الجرح الحقيقي وتكتفي باستعارة الالم وقصه وتلصيقه، حتى الالم قابل للمنتجة في الاخبار العربية المحلية!ما عليك ايها الشعب العربي الابي سوى ان تتدرب على ظهور على الشاشة بدور كومبارس للحاكم بامر الخبر، واترك البطولة للتصفيق والتمجيد الرئاسي، فلا احد يلتفت اليك حتى اضواء الكاميرات المطفاة والعمياء، والعوض بسلامة الخلفاء الاعلاميين!شاعرة عربية لندن