القولبة والتنميط وثقافة القطيع..عبد الغني سلامة

الأربعاء 22 مارس 2023 06:45 م / بتوقيت القدس +2GMT
القولبة والتنميط وثقافة القطيع..عبد الغني سلامة



يعتقد كل إنسان على وجه البسيطة أن خياراته وقناعاته صحيحة، لأنه اتخذها بناء على وعي وبعد تفكير عميق، وبإرادته الحرة.. تعالوا نناقش هذه المقولة.
بعد لحظات من ولادة الإنسان سيحمل تلقائياً أهم مقومات هويته: الدين، القومية، اللغة، الانتماء الطبقي.. وفي سنواته المبكرة سيتم تشكيل شخصيته وطباعه وتكوينه النفسي، بناءً على نمط تربيته وظروف أسرته المعيشية.. ومنذ طفولته وحتى شبابه ستقوم كلٌ من الأسرة والمدرسة والمحيط الاجتماعي بإيداع القيم السائدة والثقافة الموروثة في عقله الباطن.. وما أن يبلغ رشده حتى يكون بناؤه الفكري والقيمي والهوياتي قد اكتمل.. وقد تم كل ذلك دون استشارته، ودون موافقته، وقبل أن ينضج عقله النقدي.
الأغلبية الساحقة من الناس تنساق وراء هذا المسار بسهولة ويسر، وحتى لو كان الفرد ذا شخصية قلقة، ودائم التفكير والبحث فغالباً ما سيوجه قراءاته ومطالعاته ومشاهداته واختيار أصدقائه وأساتذته بما ينسجم مع المنظومة الفكرية والثقافية والقيمية السائدة، والتي وجد نفسه منتمياً إليها، لأنه سيجد في هؤلاء ما يعزز قناعاته وما يثبّت فؤاده ويقنعه بأن خياراته وتوجهاته صحيحة فعلاً، بدليل أن كل هؤلاء يتشابهون معه في نمط التفكير، وفي معيار الانتقاء والاختيار والحُكم.. وتكون التباينات بين فرد وآخر طفيفة، وعلى المستوى السطحي وفي التفاصيل، أما الجوهر فمتطابق إلى أبعد حد.
وهذا الأمر يسري على جميع المجتمعات الإنسانية دون استثناء، مع وجود فروقات وتباينات بين مجتمع وآخر، فيكون التطابق والانسجام بين الأفراد ومكونات المجتمع في الدول التعددية والديمقراطية والمنفتحة أقل مقارنة بالدول الاستبدادية والمتخلفة، والتي يصل فيها التطابق إلى حد مدهش.
في حالات نادرة جداً يستفيق بعض الأفراد، ويتنبه إلى الفقاعة التي وجد نفسه محصوراً فيها، ويقرر أن يمارس حريته، فيخرج عن السياق العام، وفي الأغلب سيجابَه بالرفض والنبذ والتقريع، وربما السجن والقتل.. إذا لم يكن على يد الدولة، فعلى يد المجتمع، الذي لا يتساهل مع أي خروج عن المنظومة السائدة.
صحيح أن المجتمعات تتغير وتتطور وتطور قيمها بحكم تغير الظروف الاقتصادية والسياسية، وبفعل التعليم والمعرفة، وتدافع الأجيال، وبفعل الأفكار الثورية التي يطرحها الرواد.. ولكن هذا التغيير يظل بطيئاً، وخاضعاً للقوى الداخلية المسيطرة (الاجتماعية والدينية والاقتصادية)، ومحكوماً بمصالح الطبقات الحاكمة والتي بيدها العسكر والمال والإعلام..
ما يجري فعلياً، ومنذ أقدم الأزمنة، أن القوى المسيطرة (النظام المتحالف مع القوة الرجعية) تستمد عناصر قوتها من خلال سيطرتها على المجتمع، وقد كيفت مصالحها استناداً إلى المنظومات الثقافية السائدة، وبالتالي أي خروج عنها سيشكل تهديداً لمصالحها، لأنه سيقود إلى استفاقة الجماهير من غيبوبتها التاريخية، فالوعي يؤدي بالضرورة إلى التغيير، وهذا التغيير يعني زعزعة أركان الحكم.
وعندما نقول الحكم لا نعني فقط النظم السياسية، بل وأيضاً التشكيلات الأخرى القائمة (وهي غالباً متحالفة أو مستفيدة من النظام السياسي) وهي التكوينات الطائفية والقبلية والأحزاب السياسية.. فشيخ القبيلة يظل آمنا ومسيطراً طالما ظلت القبيلة متماسكة ومتمسكة بقيمها وعاداتها.. وزعيم الطائفة يظل آمناً ومسيطراً طالما أبناء طائفته يعتقدون أنهم "الفرقة الناجية" وأن زعيمهم هو المخلّص.. وقائد الحزب يظل آمناً ومسيطراً طالما أعضاء حزبه ومؤيدوه يعتقدون أن حزبهم هو الأفضل، وهو الخيار الصحيح والوحيد، وقرارات قائده دائماً حكيمة وصائبة.. ورئيس الدولة يظل آمناً ومسيطراً طالما هذه المنظومة قائمة، وطالما ظل قادراً على إخضاع الشعب، والإخضاع لا يتم بالقمع السلطوي وحسب، بل والأهم من ذلك من خلال التنميط والقولبة.  
التنميط والقولبة تتم من خلال أشكال كثيرة، بحسب القائمين عليها: تبدأ مستويات التنميط من الولادة حتى الشباب كما أشرنا في المقدمة، وتنتهي بغسيل الأدمغة.. وهذا يعتمد على مدى دكتاتورية النظام، وعلى انغلاق المجتمع أو انفتاحه.
عند الوصول إلى المستوى النهائي للتنميط يكون الأفراد متشابهين في كل شيء: الدين، أو الأيديولوجيا الحاكمة، طريقة التفكير، الخيارات الشخصية، القناعات الفكرية والسياسية، الطقوس الدينية والاجتماعية، معيار الحكم على الأشياء وعلى الآخرين، القيم، والعادات والتقاليد، الملابس والأزياء والمظهر الخارجي.. ومن أجل التخفيف وتجميل الصورة يتم منح الأفراد حدوداً معينة من الحريات الشخصية (قائمة أطباق الطعام على ألا تتعدى نوعيات محددة، لون الزي دون التنازل عن شكله العام، مشاهدة مسلسل السهرة أو فيلم يمجد بطولات وأمجاد الأمة أو نشرة أخبار تمدح حكمة القيادة أو برنامج عن الحيتان، قراءة كتاب يشرح فلسفة الحزب، أو كتاب عن حياة الزعيم.. ) ويصل التنميط منتهاه وغايته حين يظن الفرد فعلاً أنه حر، في حين أن التنميط سلبه روحه وسيطر على عقله.
وبالمناسبة هذا التنميط لا يقتصر على النظم الدكتاتورية (نراه بوضوح في كوريا الشمالية)، لكنه يسري أيضاً على الدول ذات المظهر الديمقراطي، وعلى أغلب المجتمعات المحافظة، وعلى جميع الأحزاب الأيديولوجية، وخاصة الدينية منها.. ونسميها هنا أنظمة وأحزاباً شمولية توليتارية، لأن حكمها يشمل كل شيء، ولأنها تقوم بتجريد الإنسان من إنسانيته، ولا أقصد هنا تحويله إلى وحش متبلد المشاعر، بل المقصود تجريده من حقه في الاختيار، وحقه في الاختلاف، وحقه في الحرية (حرية التفكير والتعبير)، وحقه في التصرف بجسده وحياته وتوجهاته..
الأساليب المتبعة في التنميط أيضاً كثيرة ومتباينة: في الجيوش والمدارس تتم بأسلوب فرض "يونيفورم"، وترديد نشيد معين، وشعارات محددة، وطابور الصباح وتحية العَلم.. في المؤسسات العسكرية والمدنية تتم من خلال التراتبية ونظام الثواب والعقاب.. في المجتمع تتم من خلال الإعلام الموجه (البروبوغاندا والديماغوجيا) ومناهج التعليم وبالقمع السلطوي.. ثم يعيد المجتمع إنتاج التنميط من خلال فرض موروثه الثقافي، ومحاربة أي محاولة للخروج عنها.. الأحزاب الشمولية تستخدم الشعارات الرنانة، والتحشيد الجماهيري، والخطابة، وأهمية التضحية في سبيل الله، وفي سبيل الوطن، والقائد، ومن أجل الدولة، والتصدي للثورة المضادة وللخونة.. وعندما تتضافر كل تلك الأساليب تكون النتائج مدهشة.  
وبالمناسبة أيضاً، هذه ليست ظاهرة خاصة بالعالم الثالث؛ الولايات المتحدة أكثر وأذكى من يستخدم التنميط وتوجيه المجتمع وبصورة مروعة.. بالإعلام وأفلام هوليوود وغيرها من الوسائل.  
ملاحظة توضيحية: الخراف يسهل رعيها وقيادتها لأنها قطيع متماسك ومنسجم، خلافاً للماعز الذي يتصرف بصورة فردية.