كل ما ذكر عن مضامين الوساطة الأميركية والعربية بين الفلسطينيين وإسرائيل يبين أنها لا تستهدف إلا مصلحة إسرائيل أمنيا واستيطانيا وسياسيا ، وأن ما قدم فيها للفلسطينيين ليس إلا ما يحقق هذه المصلحة التي عجزت إسرائيل بمفردها عن تحقيقها بكل قوتها العسكرية وعقوباتها المالية المتعسفة ضد الفلسطينيين .
انكشفت إسرائيل أمنيا في الضفة وفي القدس ، وصار استيطانها فيهما مهددا بالخوف من المقاومة الفلسطينية ، وعلقت في مشكلات سياسية داخلية أنتجتها توجهات ائتلافها الحكومي المتطرف ، فباتت بين نارين ، والنار الداخلية عنيفة الحرق والفتك بمصيرها ، وترتفع أصوات مرموقة الوزن والتأثير تحذر من هذه النار التي بدأ اتقادها بسعي الحكومة لإتباع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية والتشريعية : الحكومة تعين القضاة ، وللسلطة التشريعية التي يمثلها الكنيست إبطال أي حكم تصدره المحكمة العليا إذا أجمع على إبطاله 61 صوتا من الأعضاء ال120 . وشرح البروفيسور الإسرائيلي دانيال كاهنمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد الآثار العميقة السوء لإضعاف السلطة القضائية؛ إذ ستقضي على حرية التعبير ، ووسائل الإعلام التي هي ساحة رئيسية لهذه الحرية، والحريات الشخصية .
وهذه الآثار مجتمعة مع تردي الأوضاع الأمنية ستدفع إلى الهجرة المعاكسة التي تخشاها إسرائيل خشية الموت بصفتها دولة مهاجرين ، حياتها موقوفة على بقاء من يهاجر إليها ، واجتذاب مهاجرين جدد تستثمر دائما الحروب والأزمات في العالم لاجتذابهم حتى لو لم يكونوا يهودا . ودفع الخوف من تأثيرات إضعاف النظام القضائي على الاقتصاد بعض أصحاب شركات التكنولوجيا المتطورة إلى نقل شركاتهم إلى أوروبا مثلما فعل توم ليفي صاحب أكبر شركة تكنلوجيا متطورة في إسرائيل .
ونار الفشل الأمني في الضفة والقدس قريبة الشبه في آثارها السيئة على إسرائيل من النار الداخلية : تزيد صعوبة الاستيطان ، وتنفر الجنود من العمل في الضفة ، وتزيد جرأة الفلسطينيين على مقاومة الجنود والمستوطنين بالسلاح ، وتقوي الأمل في نفوسهم بتحرير الضفة مثلما تحررت غزة ، وترسل شحنات إيجابية من الثقة في النفس للشعوب العربية والإسلامية التي تقاسي ظلم حكامها المؤتلفين مع الغرب في الهيمنة على ثرواتها وكرامتها ومصيرها .
وسارعت أميركا لمؤازرة إسرائيل في ضائقتها الأمنية في الضفة والقدس ، فأرسلت رئيس مخابراتها وليم بيرنز ووزير خارجيتها بلينكن اللذين تحادثا مع الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية حول سبل التهدئة في الضفة والقدس ، ولم يقدما للسلطة الفلسطينية أي بارقة لتوجه سياسي لحل المشكلة من جذورها ، واكتفيا بعروض كلها في مصلحة إسرائيل الأمنية والسياسية ، وتحقيق هذه المصلحة بيد فلسطينية بتمويل وتدريب وتسليح مجموعات أمنية تتبع السلطة لتحارب كتائب المقاومة في جنين ونابلس والخليل ، وفي الجانب المالي عرضا إقناع إسرائيل بالتوقف عن عقوباتها على السلطة المتمثلة في الخصم من عوائد المقاصة بحجة ما تدفعه السلطة لأسر الشهداء والأسرى من رواتب شهرية. واستعانت أميركا بأتباعها العرب في مؤازرتها لإسرائيل ، ووجدت في مصر والأردن خير معين ، وسيزور مصر وفدان من حركتي الجهاد وحماس للتباحث في التهدئة مع إسرائيل ، والأردن يتحرك كعادته في السر ، وستضغط الدولتان على الفلسطينيين إرضاء لأميركا وإسرائيل . والتهدئة مؤداها تخليص إسرائيل من محنتها في الضفة والقدس ، وعودة الحال إلى مألوفها : استيطان إسرائيلي يتوسع بأمان واطمئنان فيهما حتى يلتهمهما .
ونتنياهو شرح سياسة إسرائيل التي لا تحتاج شرحا ، فقال إن قوام هذه السياسة التطبيع أولا مع كل الدول العربية ، والاستدارة بعد ذلك نحو الفلسطينيين لصنع سلام ” عملي ” معهم . وسلامه قوامه مقاطعات صغيرة في الضفة يدير فيها الفلسطينيون حياتهم اليومية ، وتحاصر المستوطنات الإسرائيلية المزدهرة والمسلحة تلك المقاطعات ، والمستقبل مفتوح للتخلص من سكانها ، والنفس الطويل يأتي بالمستحيل . والموقف السليم وطنيا للفلسطينيين على ما فيه من تضحيات وآلام هو رفض الوساطة الأميركية والعربية التي ما تحركت إلا لمصلحة إسرائيل أمنا وسياسة ومستقبلا .
كاتب فلسطيني