2023-02-02
أشعر بالاستياء لدرجة لا توصف حين أجد الأطفال وفي سن صغيرة يحملقون في شاشة التلفاز، ويحملقون أكثر في شاشات الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية واللوحيات مثل "الآي باد"، وهكذا فهم يحملقون في عالم غريب وغير منتمٍ لواقعهم وبيئتهم، وليس مخصصاً لطفل عربي لدى أهله ثقافة وتاريخ وعادات وتقاليد وموروث تراثي غزير بالقصص والحكايا.
يقول ستري كالند جيليان: "قد يكون لديك ثروة مالية ضخمة تملأ بها الكثير من الخزائن، ولكنك لن تكون أبداً أغنى مني، فقد كانت لي أمّاً اعتادت أن تقرأ لي"، وهذه المقولة صادقة فعلاً، لأن الطفل في سنيّ عمره الأولى يكون مثل الرقعة البيضاء التي تمتص أي شيء يتم نقشه عليها، ولأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فمن الطبيعي أن يصدق هذا القول، فامتلاك الثروة من خلال القراءة قبل النوم لا يمكن أن يعادلها كل المال، لأنك حين تسرح مع قصص وحكايات الأمهات فأنت تعد خطتك المستقبلية لمواجهة الحياة بل الكون بأكمله، ولأنك حين تسرح مع أبطال حكايات الأمهات فأنت تعدّ العدة لكي تكون بطلاً، مهما عصفت بك عواصف وأنواء الحياة.
كلنا في طفولتنا عشنا ذلك الإحساس، وهو التحلّق حول الأم، لكي تحكي لنا حكاية مكرّرة ومُعادة، ولكنها في كل مرّة ترويها بطريقة مختلفة، وفي كل مرّة فهي توسع خيالك وتغذّيه وتلهبه، فهي تصف نفس الشيء، ولكن بطريقة أجمل وأكثر دقة.
إن الثروة التي تحصل عليها حين تقرأ لك أمك لا تعادل بالمال فعلاً، لأنها دوماً تجد لك إجابة على كل سؤال، وتعثر على حل لكل عثرة، وعلى فجوة في كل كهف أو غارة، وعلى حبل نجاة يتدلى من السقف المعتم، وعلى جدائل أميرات نائمات يتسلقهن البطل والأمير لينقذ المحبوبة الجميلة.
لا تدري كيف تبتدع الأمهات الحلول، ولكن حلولهن سحرية بامتياز، مثلما يفعلن وهن في مطابخهن الدافئة، ففي كل مرة تعتقد أن الأرز قد احترق فوق الموقد، ولكنها تضع فوقه قطعة خبز طرية تمتص رائحة الاحتراق وتنقذ وجبة الغداء، وفي كل مرّة هي لديها طريقة سحرية لإعادة تدوير طعام اليوم السابق، فلا يكتشف أحد من الصغار ولا حتى الأب الكبير أنه ليس صنفاً جديداً، ولكنها ماهرة جداً في تقديم ما يعرف بـ "الحواضر"، والذي نكتشف أنه أكثر شهية من الطعام الطازج المكلف.
في حكايات الأمهات ذلك الدفء الحنون والملاذ الأخير من صخب العالم، والمحطة الأخيرة حين تتقاذفك كلّ المحطات خلال النهار بلا رحمة، فهناك صفعة أو ركلة أو زجرة، وربما ضربة على مؤخرة من معلمة شديدة العصبية، ولكن حكايات الأم تطهر القلب وتمسح فوق جروح الروح، وتعيد كل شيء إلى مكانه، وتعدك من جديد قويّاً، ومصقولاً لكي تواجه من جديد.
لا يفعل المال، ولو كان أطناناً، ما تفعله كلمات الأم التي تنساب على وقع موسيقى هادئة، وهي تترنم بأنشودة ليلية، ولا هي تمثل بصوتها صوت دجاجة ولا صوت عصفور ولا حتى قطة عابثة ومشاغبة، كل المال لا يمكن أن يطرب قلبك كما كنت تطرب حين تغني لك عن الحمام المخدوع الذي لا يذبح أبداً، ولكنه يقدَّم لك ذات يوم محشياً ومحمّراً، بعد أن يُربّى فوق سطح البيت العتيق.
إن ما تقرأه الأمهات ثروة بحق، ولكنها أصبحت مهدورة، لأن الأمهات بائسات ضائعات ومشتتات هذه الأيام، ومتعبات ومرهقات وممزقات، ويأتي آخر النهار عليهن وهن لم يخبزن ولم يقفن بالساعات في المطابخ، ولكنهن رغم ذلك طافحات بالطاقة السلبية وممتلئات بضجر متعدد الأسباب، هادر ومزعج وسارق لكل ملذة، ويجعلك تبحث فعلاً عن حدوتة وقصة ولا تجدها، وتعتقد أن المال ربّما يمنحك ما حصل عليه غيرك، ولكنك واهم يا صغير، واهم لأن الثروة لا تبدأ إلا من حيث انتهت الحدوتة الحلوة غير الملتوتة.