تعيد المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في مخيم جنين الخميس الماضي، ذكرى مجزرة المخيم المرتكبة من قبله ضمن العملية التي أطلق عليها اسم السور الواقي في نيسان 2002، في سياق إعادة احتلال مدن وقرى الضفة الغربية، والتي استشهد فيها ثمانية وخمسون مواطناً إضافة إلى تدمير المخيم على ساكنيه، من أجل تبرير الشروع في بناء جدار الضم والتوسع.
في حينه أجمعت المنظمات الحقوقية التي فحصت ما جرى في المخيم على قيام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، ولكنها وكما هي العادة واصلت الإفلات من العقاب.
رد الفعل السريع والشامل الذي أبداه الشعب الفلسطيني مؤيداً العملية الفدائية التي نفذها الشهيد خيري علقم وسط حي استيطاني في مدينة القدس، يمثل استفتاء على الحق في ممارسة جميع أشكال النضال والمقاومة في الصراع الضاري ضد الاحتلال، وهو ما ظهر أيضاً في استطلاعات الرأي العام التي أظهرت دعم أكثرية الشعب الفلسطيني لحق ممارسة العمليات المسلحة ضد المشروع التوسعي الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس.
يعمل الاحتلال جاهداً على تقسيم وعزل المناطق المحتلة وتجزئتها، من أجل ضمان سيطرته على حركة الفلسطينيين والتحكم في التواصل بين المناطق الفلسطينية، ويسعى لتحويل مدن الضفة وقراها إلى جزر منفصلة يسهل التحكم بها، معيقاً التطور الطبيعي للشعب الفلسطيني، وما يترتب عليه من تفكيك وحدة البرنامج النضالي الجامع من خلال خلق واقع جديد لكل منطقة، وبالتالي تحويل الشعب الفلسطيني من شعب موحد بحقوق وطنية شرعية كالاستقلال والدولة والقدس وعودة اللاجئين، إلى تجمعات سكانية لكل تجمع منها مطالبه الحياتية الخاصة به.
أعادت اللحظة الراهنة تأكيد أهمية وحدة الساحات واستراتيجية الربط الجغرافي بينها التي تجلت أثناء معركة سيف القدس، حيث دفع الهجوم الشرس على مخيم جنين إلى اشتعال جميع بؤر ومواقع المقاومة في الضفة الغربية، علاوة على مشاركة قطاع غزة وكتائب المقاومة في المعركة كما أكدت مشاركة مخيمات وتجمعات الشتات في الاحتفاء بعملية القدس على وحدة الشعب الفلسطيني من أجل حقه في تقرير مصيره وحقه في العودة. وهو ما يملي مأسسة عملية الربط واتساع رقعة المواجهة وتظهيرها بشكل دائم بعيداً عن العفوية والارتجال، من أجل إظهار القضية الجامعة كقضية شعب نصفه تحت الاحتلال ونصفه الآخر مهجر على يد الصهيونية الاستعمارية خارج وطنه.
بعد عشرين عاماً يفقد جدار الفصل العنصري مبررات بنائه، ويفقد فائدته والذرائع الأمنية التي بني من أجلها، بعد أن ضمت إسرائيل مئات آلاف الدونمات، وبنائها مئات المستوطنات والبؤر الاستيطانية في إطار المشروع الاستعماري الذي تطور وتغير خلال عشرين عاماً مضت؛ ما يقود عملياً إلى القضاء على أي فرصة لقيام دولة فلسطينية، وانعدام أي إمكانية لوجود دولة بين النهر والبحر، سوى دولة الاحتلال.
محافظة جنين تتميز عن باقي المحافظات بكونها تشكل الخاصرة الرخوة للاحتلال بسبب وقوعها بالقرب من الخط الأخضر، كما تحتفظ المحافظة بخزّان التضحية والإيثار النضالي الذي لا ينضب، وتاريخها المميز منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الآن في النضال والمقاومة والوحدة الوطنية، فلا تنفك جنين عن تقديم نماذجها بما تمتلك من قوة إرادة وإيمان بطريق النضال، ومن خلال أنماط المقاومة النضالية الصلبة، قدمت نموذج الكتائب المحلية المُوَحِّدة لقوى المقاومة، وقدم أسراها نموذج عملية النفق، ولا يمكن المرور على جنين دون التوقف أمام اختيار المناضل عز الدين القسام منطقة جنين لقيادة النضال الفلسطيني في ذلك التاريخ ضد الاحتلال والانتداب. في جنين ما أن يسقط شهيد حتى يحلُّ مكانه شهيد جديد، لذلك ميزها الاحتلال بالمكانة التي تليق بنضالها وخصص لها مكانه مميزة في خططه الوحشية وميزها بحصة الأسد من مجازره وجرائمه المتواصلة، ووضعها على رأس قائمة أهدافه لكسر النموذج والقدوة، الماثلين أمام نظر الشباب والشابات.
ولا يمكن المرور على الزخم النضالي دون فحص ردّ فعل القيادة وقرار تجديد بعض قرارات متخذة سابقاً في اجتماعات المجلس الوطني والمركزي المتعاقبة منذ العام 2015. فليس أفضل من اللحظة التي يشن فيها الاحتلال ويوجه آلاته العسكرية لذبح الفلسطينيين دون تمييز بين مدنيين وعسكريين في طريقه لإنهاء وحسم الصراع، فالمطلوب للاحتلال ليس رأس المقاومة بل رأس الشعب الفلسطيني للمتنافسين على الموقع الأول في حجم الإعدامات والاعتقالات والمصادرات وتقديم كشف حساب للشعب العنصري المتعطش لإبادة الفلسطيني.
القرار المتخذ في اجتماع اللجنة التنفيذية إثر مجزرة المخيم بوقف التنسيق الأمني وفتح الحوار الوطني، تحيطه الشكوك بناءً على التجارب السابقة، والخشية أن تواجه نفس المصير الذي واجهته في محطات سابقة، فما الذي اختلف جوهرياً في هذه الحالة عن محطات أخرى استدعت وقف التنسيق الأمني والمضي نحو تطبيق اتفاقات موقعة لتغيير المشهد الانقسامي! وما الفائدة من وقف التنسيق الأمني دون تجديد القرارات المتعلقة بسحب الاعتراف بإسرائيل ووقف العمل باتفاقيات أوسلو وباريس الاقتصادية؟
تطرح عملية القدس كأول اختبار أمني للحكومة الفاشية الجديدة برئاسة نتنياهو، السؤال على كيفية تعامل أميركا وغيرها معها في ضوء تخوفاتهم من الخلاف الإسرائيلي الداخلي وطبيعته الفكرية والاجتماعية، ليتضح مبدئياً أنه ليس من أثر معقد مع وصول مسؤول الأمن القومي ووزير خارجية أميركا وسكبهما فائض المشاعر التضامنية مع الاحتلال بإفراط بسبب عملية القدس وإدانتهما لها.
يبدو أننا نستمر في صناعة الأوهام، وقد صنعنا وهماً بأنها أفضل لنا كونها ستتسبب في الإيقاع بينها وبين الولايات المتحدة بسبب القضاء على الديمقراطية من خلال القضاء على القضاء والمحكمة العليا والإكراه الديني المزمع ممارسته رغم أن حكومة بينيت - لابيد من دشنت مرحلة إنهاء حل الدولتين، كما اختبرنا معها توحد الاسرائيليين من الاتجاهين على المجازر والإبادة وعلى مشروع الضم والأسرلة والاستيطان والتهجير القسري والاختياري، موحدة على الاقتحامات المستمرة والمتنقلة لأنها جزء من الاستراتيجية الاستعمارية، الاتجاهات المشاركة في الحكومة والاتجاهات التي نزلت للشارع، موحدة في الأهداف السياسية وفي الرؤية والطريقة للمسار، وله الأولوية في البرنامجين.