تغيير الآخرين، وبالقوة..عبد الغني سلامة

الأربعاء 11 يناير 2023 11:08 ص / بتوقيت القدس +2GMT
تغيير الآخرين، وبالقوة..عبد الغني سلامة



لماذا تنزعج وتغضب إذا قرأت «بوست» أو تعليقاً تضمن أفكاراً ومواقف لا تنسجم مع منظومتك الفكرية والقيمية مع أنك لا تعرف الكاتب، وهو لم يوجه كلامه لك شخصياً؟! وعندما ترد عليه بتعليق، هل تفعل ذلك لتقنعه أنه مخطئ أم لتقنع نفسك أنك على صواب؟  
إذا كنت تحب «رونالدو» ستتعصب له، وسيصبح همك أن تعدد مهاراته وجوائزه، ولتبرهن على أنك في الجانب الصحيح، لا بد أن تحطم خصمه «ميسي» من خلال ذكر مثالبه وأخطائه.
وإذا كنت متديناً، وحتى تقنع نفسك أن دينك هو الصح، وطائفتك هي الفرقة الناجية، لن تكتفي بذكر حسنات دينك وميزات طائفتك، بل ستنقّب عن أخطاء الديانات الأخرى، وتعدد سلبيات الطوائف التي تناصبها العداء.
فلو كنت هندوسياً مثلاً، ستبتهج بشدة، وسيرقص قلبك فرحاً لرؤية ملايين الهندوس في موسم الحج، وهم يستحمّون في نهر اليانج. وستنظر بازدراء لملايين الشيعة وهم يلطمون ويضربون أنفسهم بقسوة في يوم عاشوراء.
وإذا كنت حزبياً، سيفرحك منظر مسيرة جماهيرية حاشدة ترفع رايات حزبك.. وسيكفهر وجهك حين ترى حشوداً مماثلة للحزب المنافس.
بشكل عام، يرغب كل أب أن يكون أبناؤه نسخة عنه.. ويسعى كل مجتمع لتمرير قيمه وتقاليده إلى الأجيال الجديدة.. ويريد الكاتب والمثقف والشيخ والقسيس فرض قناعاته الخاصة على الآخرين.
جميع هؤلاء، وغيرهم، يريدون تغيير الآخرين المختلفين، حتى يصبحوا مثلهم، في الفكر والسلوك.  
الرغبة في التغيير شيء إيجابي ومشروع، لكنه يصبح مشكلة حين يتحول إلى هاجس قهري، ويستحوذ على الفرد، وحين يريد فرضه بالقوة.  
وفي واقع الأمر، نحن نحب من يشبهوننا، ونتقرب منهم، ونثق بهم، ونؤيدهم.. ونكره من لا يشبهوننا، ونتجنبهم، ونشك بهم، ونتعامل معهم بحذر.. لذلك، فأنت تصلي الجمعة فقط في المسجد الذي يخطب فيه الشيخ الفلاني لأنَّ أفكاره تروق لك.. وتقرأ للكاتب العلاني فقط لأنه يكتب ما تحب.. وتستمع لإعلامي معين لأن أطروحاته تعجبك..
السؤال المطروح، لماذا نحب من يشبهنا؟ ولماذا نسعى لجعل الآخرين يشبهوننا؟
الخوف من الآخر «المختلف» متأصل في جينات الإنسان، منذ اندلاع الحرب بين الهوموسابيان والنيانتردال، والتي انتهت بانقراض الأخير قبل أربعين ألف سنة.. وظل هذا الخوف مسيطراً على المجموعات البشرية الأولى في مواجهة غيرها، لأنَّ الصراع بينهم كان «صفرياً» على أبسط مقومات الحياة.. حتى بعد نشوء العائلة والقبيلة والقرية ظل الخوف من الغريب هو الهاجس المسيطر، ومع أنه أخذ يتراجع تدريجياً مع تجارب الالتقاء والتعاون البشري، لكنه بات جزءاً من جينات الإنسان، ومستقراً في أعماق «اللاوعي».
ومع كل التطور الذي أحرزه الإنسان (جينياً، ونفسياً، واجتماعياً) إلا أن عقله تبرمج على ركيزتين: تجنب الألم والخطر، وتوفير الطاقة.. ولأن تشغيل الدماغ يستهلك الجزء الأكبر من الطاقة صار الإنسان يميل إلى عدم تشغيله، إلا في الحدود الدنيا التي تبقيه حياً، وتجنبه المعاناة، وهكذا وفي أثناء طفولته المبكرة تكوّن في عقله الباطن ما تُعرف بِـ»المعتقدات البدائية والثابتة» beliefs core، وهي التي توفر له «منطقة الراحة» comfort zone وتمنحه الأمان والتوازن، وتستمر معه طوال حياته، وهي بالضرورة تتضمن أشياء صحيحة وأخرى خاطئة، لكنه يعتقد جازماً أن جميعها صحيحة.
وفي هذا الجزء من الدماغ (beliefs core) تتشكل معتقداته الدينية والفكرية وقيمه الاجتماعية، ومعاييره في الحكم على الأشياء.. تتشكل بسهولة وسلاسة لأنها أتت عن طريق التلقين من الأهل والمجتمع، أي اكتسبها بالوراثة ودون عناء التفكير.. ولذلك حين يسمع الفرد رأياً لا ينسجم مع ما خزنه في عقله الباطن، أو يرى مشاهد لا تتفق معها سيعتبرها شاذة، وخاطئة وسيطلق أحكامه المسبقة، ببساطة لأنها خلخلت قناعاته الأولية، وأخرجته من منطقة الأمان «المريحة»، وهنا تنطلق عنده آليات الدفاع التقائية (الرفض، الإنكار، التجاهل، التبرير..).
وفي معرض تفسيره لهذه الظاهرة، يقول الدكتور عصام الخواجة: إن التكيف مع المجتمع يتم بطريقتين: إما من خلال تغيير الذات، أو من خلال تغيير الآخرين، ولأنَّ تغيير الذات عملية مؤلمة وتتطلب مجهوداً كبيراً وطاقة هائلة، على عكس متطلبات تغيير الآخرين، فإننا نلجأ إلى الخيار الثاني أي تعزيز الشعور بالانتماء، والتكيف والخضوع والسير مع الجماعة «ثقافة القطيع»، وهي أكثر آلية مريحة للنفس والدماغ، ولكنها دليل على عدم النضوج النفسي، وعدم القدرة على التحكم بالمشاعر السلبية، حيث تسيطر على الشخص «المعتقدات الثابتة» ومشاعره النرجسية ويجعل منها معياراً للحكم على الأشياء والآخرين، فينقسم عنده العالم إلى حدين متناقضين: الجمال والقبح، الخير والشر، الحق والباطل.. ولا وجود لمناطق رمادية، وتمنحه نرجسيته اعتقاداً مؤكداً أنه دوماً يمثل الجمال والخير والحق والصواب، وأن كل ما هو مختلف عنه يمثل النقيض. لذلك، بمجرد رؤيته أي شخص أو ظاهرة لا تتفق مع معتقداته الثابتة ومع ثقافة القطيع ستزعجه وسيحاول تغييرها، ولو بالقوة. وهذه الظاهرة ستنتقل مباشرة من المستوى الفردي إلى الجمعي، فتظهر المجموعات الحدية التي ترى نفسها ممثلة للحق والعدالة والصواب، ولا تستطيع التعايش مع المجموعات الأخرى لأنها من وجهة نظرها على الباطل، وهكذا تنشأ الصراعات.  
لننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، ونتتبعها منذ البداية: تخرج من رحم أمك بصرخة، وتبكي لخروجك من الملجأ الأمين، ولأنك اكتشفت نفسك وحيداً، في دنيا جديدة وغريبة، ولكن سرعان ما تضمك أمك إلى حضنها، حيث الطعام الوفير والدفء والحنان.. فتهدأ لوعتك. ولسنوات عديدة تظل تبكي وتصرخ كلما قرصك الجوع، أو شعرت بالخوف، فتأتي أمك وتهدئ مخاوفك، وتسكت جوعك وتعيد لك توازنك. في طفولتك المبكرة كل رغباتك مجابة، حتى لو كانت سخيفة ومتعبة، وأثنائها سيتم تشكيل منظومتك الفكرية والعقائدية والأخلاقية. ستكبر، وسيكبر معك هذا الإحساس وستظل محتفظا بنفس المنظومة. الكثير منا يستقل بنفسه، وينمو جسدياً وعاطفياً بشكل متوازن.. مع مساحة صغيرة مستقرة في اللاوعي تبحث عن حضن الأم، وترجع إلى نفس المنظومة الأولية، لكنه يتحرر من حاجاته العاطفية، ويبدأ بمراجعة وتقييم منظومته البدائية.  
والبعض يتأخر نموه العاطفي، وتظل تلك البقعة الصغيرة في عقله الباطن مسيطرة عليه، وتُستثار في كل مرة يشعر بالجوع.. ولأنه كبير لن يبكي، ولكنه سيصرخ بنفس عصبية الطفل، إذا تأخر موعد الغداء، وسيختل توازنه كلما واجه ما يخرجه من منطقة الأمان التي اعتاد عليها.