في كتابه “الحساسية الجيوبوليتيكية Jeopolitik Duyarlılık كتب الباحث سوات الهان: “تركيا هي الدولة المحور الواقعة على أكبر قطعة أرضية في العالم والمتكونة من أوروبا، آسيا وإفريقيا أو جزيرة العالم بالمعنى الجيوبوليتيكي. تركيا هي المفتاح والقفل لهذا المحور، فلطالما لعبت جغرافية تركيا وبشكل فعّال دورها كمفتاح وقفل، لأنه ولفترة طويلة كانت فقط جزيرة العالم القطعة الأرضية الوحيدة على الكوكب، وجميع الحضارات والأديان الأساسية المشهورة تطورت حول نقطة تقاطع هذه القارات الثلاث بسبب موقعها الجغرافي”.
حقيقة الأمر، قد تكون النظريات السياسية واقعية إلى حد كبير، لكن الواقع يفرض بمعطياته السياسية والعسكرية، وقائع قد تناقض جوهر النظريات السياسية، خاصة أن التاريخ الحديث يحوي الكثير من الشواهد على ما سبق، واليوم في سوريا، تترسخ نظريات سياسية جديدة، وينبغي حُكماً وواقعاً اعتمادها بل وتدريسها، فالواقع السوري بمعطياته السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية، فرض على جميع القوى الإقليمية والدولية، والتي تعتمد النظريات السياسية الحديثة، واقعاً جديداً ينبغي اعتماده تُجاه سوريا، وهذا الأمر ليس من باب التحيز لسوريا، لا سيما أن الدولة السورية وقائدها وجيشها فرض على الجيران الإقليمين، اعتماد مقاربات مختلفة للتعاطي مع الملف السوري.
ربطاً بما سبق، ثمة مستجدات عسكرية كثيرة رسمت مشهد شمال شرق سوريا؛ هي مستجدات ستغيّر خارطة التحالفات السياسية ليس في سوريا فحسب، بل على مستوى الإقليم، فالتطورات في شمال شرق سوريا، وما تحتويه من منجزات ذهبية حققها الجيش السوري خلال السنوات المنصرمة، سيكون لها معادلة ناظمة للمشهد السياسي في سوريا، كما أنّ تداعيات هذه المعارك والمنجزات، ستؤثر بالمطلق على المناخ العسكري شرق الفرات وإدلب، لكن اليوم الأولوية لهندسة تحالفات إقليمية جديدة، تكون سوريا عنوانها الأوحد، فما هندسته الدولة السورية وجيشها، تردّد صداه لدى مسامع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، حيث بلغ التوتر بين سوريا وحلفائها وتركيا وحلفائها مستويات مرتفعة سياسياً وعسكرياً، واليوم فإن أردوغان يبحث عن طريق يوصله إلى دمشق.
في وقت سابق، فإن خروج تركيا عن مسار تفاهمات سوتشي وبيانات أستانا، دفع سوريا وروسيا على حدّ سواء لوضع حدّ للتدخلات التركية الغير مبرّرة في سوريا، وتطاولها على السيادة السورية، فضلاً عن جُملة الإستحقاقات الداخلية التي تنتظر أردوغان، وعلى رأسها الإنتخابات الرئاسية في تركيا، الأمر الذي وضع أردوغان أمام واقع سيُطيح بمستقبله السياسي، وعليه كان لابد من الإستدارة مجدداً نحو سوريا، ضماناً لبقاءه في السلطة، خاصة بعد فشله في مشروع إسقاط النظام السياسي في دمشق، والأهم أن أردوغان لا يرغب بخسارة روسيا الحليف الإستراتيجي لدمشق والرئيس الأسد.
ختاماً، أوراق كثيرة خسرها أردوغان في سوريا، ولم يعد بإمكانه استثمار التطورات الاقليمية والدولية وتوظيفها في سياق الملف السوري، فاليوم بات كل شي متغير ويصب مباشرة في صالح دمشق، فلم تعد الجغرافية السورية ملعب أردوغان الجيوسياسي، ولم تعد ورقة اللاجئين سلاحاً في وجه الغرب، لتكون بذلك المعادلة الجديدة لأردوغان، البحث عن مسارات توصله الى دمشق، فالتصريحات التركية تؤكد بأن المعادلات اليوم باتت متغيرة، ومن الحكمة السياسية الإستدارة وبقوة نحو دمشق، وتلبية مطالبها كافة.
كاتب فلسطيني