يحذر جنرال إسرائيلي في الاحتياط من أن الأجواء السائدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تشبه تلك التي سبقت الانتفاضة الأولى، في وقت حذّر فيه رئيس سابق للمخابرات العامة (الشاباك) من استمرار “القتل المتبادل مع الفلسطينيين”.
تزامناً مع ذكرى الانتفاضة الخامسة والثلاثين يقول الجنرال في الاحتياط، الباحث في جامعة تل أبيب ميخائيل ميليشتاين، إن كثيرين في الحلبة الإسرائيلية قد ادعوا أن انفجار الغضب المتمثل بالانتفاضة الأولى سرعان ما سيذوي، لكنه استمر وتعاظم، وانتقل في غضون بضعة أيام إلى الضفة الغربية وإلى القدس، وأصبح واقعاً ثابتاً حتى اتفاق أوسلو.
في مقال نشرته صحيفة “معاريف” يرى ميليشتاين أن الانتفاضة الأولى جسّدت الاحتكاك الملموس جداً للجمهور في إسرائيل مع الأرض المحتلة منذ 1967، وقال إنه حتى ذلك الحين أبدى معظم الإسرائيليين اهتماماً محدوداً بما يجري خلف الخط الأخضر، وانحصرت معرفتهم للفلسطينيين بالاتصال بعمال غزة والضفة ممن عملوا في السوق الإسرائيلية، وبالعمليات التي وقعت في أوقات متباعدة ضد الإسرائيليين الذين كانوا يتسوقون في المناطق الفلسطينية”. منوهاً أنه، بين الحين والآخر، ثار في الخطاب السياسي العام سؤال إذا كان ممكناً مواصلة حكم الفلسطينيين دون أن يؤثر الأمر على طابع إسرائيل وعلى ميزانها الديموغرافي.
ميليشتاين: العدد الكبير للواقط التلفزيونية على أسطح المنازل في المناطق الفلسطينية شكّل دليلاً على أنه يمكن دحر الفلسطينيين نحو التركيز على الحياة اليومية والشؤون المادية وليس المسائل السياسية والوطنية.
القرار بعدم التقسيم
مشيراً لتشوّش الاهتمام الجماهيري المحدود بالفكرة التي سادت في القيادة السياسية منذ 1967، وصاغها يغئال الون في القرار بعدم القرار، أي عدم تقاسم البلاد مع الفلسطينيين. وعن ذلك يقول: “شعر الكثير من السياسيين من جهة بانعدام الراحة في ضوء الوضع غير المحدد الذي ساد في “المناطق المحتلة” منذ 1967. لكن من الجهة الأخرى عارضوا تغيير الوضع الراهن، سواء انطلاقاً من اعتبارات أمنية– إستراتيجية، أم بمبررات أيديولوجية قومية ودينية، أي معارضة كل تغيير في وحدة البلاد الإقليمية مثلما صُممت في أعقاب حرب 1967. ويقول إن الفرضية بالنسبة للقدرة على مواصلة الواقع القائم على مدى الزمن، والذي تغير عملياً كل الوقت في أعقاب مشروع الاستيطان والانصهار بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي، رافقت الفكرة التي كانت تقول إنه يمكن شراء الهدوء الأمني بوسائل اقتصادية، وعلى رأسها تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين. ويضيف: “العدد الكبير للواقط التلفزيونية على أسطح المنازل في “المناطق الفلسطينية” شكّل، برأي الكثيرين في الحكم الإسرائيلي، دليلاً على أنه يمكن دحر الفلسطينيين نحو التركيز على الحياة اليومية والشؤون المادية وليس المسائل السياسية والوطنية. تفجّر هذا الاعتقاد الجماعي الذي يعود إلى 20 سنة دفعة واحدة. وتسلل الموضوع الفلسطيني عميقاً في الحاضر الإسرائيلي عبر شاشات التلفاز التي جلبت الواقع العاصف في المناطق الفلسطينية إلى صالونات البيوت، وفي أعقاب عمليات “الإرهاب” التي نفذت في قلب الدولة وهزت إحساس الأمن العام.
ثمن الاحتلال
كما يقول ميليشتاين إن الانتفاضة أثارت نقاشاً حاداً حول الثمن الذي جبي من إسرائيل لقاء السيطرة على المناطق الفلسطينية، وكان الموضوع في مركز خطاب انتخابات 1992، التي برزت فيها دعوة إسحق رابين “إلى إخراج غزة من تل أبيب”، والعمل على الفصل بين الشعبين بروح الخطة التي عرضها الون فور حرب 1967. وبرأي الباحث الإسرائيلي، المختص في الشؤون الفلسطينية في جامعة تل أبيب منذ خدم ضابطاً رفيعاً في الاستخبارات العسكرية، أن الانتفاضة عكست تحولاً إستراتيجياً من ناحية إسرائيل: فبعد عشرات السنين ركزت فيها على التصدي العسكري للدول العربية والمواجهات التي دارت في مناطق الجبهة والحدود، وقف الفلسطينيون في 1987، والذين اعتُبروا حتى ذلك الحين تحدياً هامشياً نسبياً في جدول الأعمال الأمني، وأصبح ميدان المعركة هو ساحة الداخل. ويضيف: “لم يكن هذا صراعاً عسكرياً آخر من النوع الذي اعتادت عليه إسرائيل، بل جولة أُخرى في مواجهة طويلة السنين بين مجتمعين كانت قوة الصراع بينهما هي الأعلى منذ العام 1948”.
الانتفاضة عكست تحولاً إستراتيجياً: فبعد عشرات السنين ركزت فيها (إسرائيل) على التصدي العسكري للدول العربية، وقف الفلسطينيون في 1987، وأصبح ميدان المعركة هو ساحة الداخل.
قرار صعب
منوهاً أنه في الجانب العسكري كان الحديث يدور عن مواجهة أولى واسعة النطاق تشهدها إسرائيل، وفي إطارها اختلط الحيز العام والتهديدات الأمنية، ونشأت معضلات قيمية عن الاحتكاك المكثف بين الجنود والسكان المدنيين. ويتابع: “بالنسبة لمحافل الاستخبارات قدمت الانتفاضة درساً مهماً عن انفجار مفاجئ ينطوي على سياقات أساس نضجت على مدى زمن طويل، مثل تبدل الأجيال وتغييرات المفاهيم، والتي في الغالب لم يحس بها جسّاسو ومسؤولو جمع المعلومات الذي كانوا يركزون على الأبعاد السياسية والأمنية”.
وبرأيه انطوت الانتفاضة الأولى أيضاً على تغيير عميق في الساحة الفلسطينية، فقد كان هذا هو الصراع الأول الذي جرى في «المناطق الفلسطينية»، ساحة كانت حتى ذلك الحين في هوامش الفعل الوطني، الذي قادته «م ت ف» من الخارج. وينوه إلى أنه على رأس المواجهة وقف جيل فلسطيني شاب ومثقف نشأ بعد 1967 وكان هذا الجيل الفلسطيني يعرف المجتمع الإسرائيلي، وتأثر به، ومثّل تياراً اجتماعياً (ولا سيما مخيمات اللاجئين والقرى). وحسب ميليشتاين، سعى قادة الانتفاضة للدفع قدماً بنموذج بديل عن الكفاح المسلح، كفاح يستند إلى مشاركة الجمهور الغفير، ولهذا السبب نال التعاطف والشرعية الدولية، وأثار ضغطاً عالمياً متزايداً على إسرائيل. ويقول إن الفلسطينيين يتذكرون، حتى اليوم، الانتفاضة الأولى بحنين كمثال أعلى للكفاح شارك فيه قسم كبير من الجمهور، ترافق ومظاهر تضامن داخلي، وتمتع بتعاطف خارجي واسع. ويضيف: “عملياً، ذوت التعابير الشعبية للانتفاضة في غضون وقت قصير، وأخلت مكانها لمواجهات مسلحة انتهجتها المنظمات المختلفة، وعلى رأسها “حماس”، عامل قوة اندفع إلى مقدمة المنصة الفلسطينية في أعقاب الانتفاضة وتأسس بعد أسبوع من بدايتها. ويقول إن الحركة مثّلت تطلعاً ثورياً لطرح بديل كامل، سياسي وفكري، لـ «م ت ف» بروح الإسلام وبالتوازي لخوض “جهاد” لا هوادة فيه ضد إسرائيل، حتى ثنيها.
سعى قادة الانتفاضة للدفع بنموذج بديل عن الكفاح المسلح، يستند إلى مشاركة الجمهور الغفير، ولهذا السبب نالوا التعاطف والشرعية الدولية، وأثاروا ضغطاً عالمياً متزايداً على إسرائيل.
أوجه الشبه
ويرى أنه من مسافة ثلاثة عقود ونصف العقد، يمكن تشخيص أوجه شبه عديدة مع الواقع الذي نشأ عشية الانتفاضة الأولى، ويقول إن المواجهة ذاتها أدت إلى إقامة السلطة الفلسطينية بعد أوسلو، والتي، وإن كانت مثلت في بدايتها تحقيقاً لهدف الانفصال، لكنها ولدّت لاحقاً تهديدات حادة في أعقاب عودة الفلسطينيين إلى الكفاح المسلح، ما أثار نفور أجزاء واسعة في الجمهور الإسرائيلي من رؤيا الدولتين. ويتابع الباحث الإسرائيلي، المؤيد لتقسيم البلاد، بالقول إن “إسرائيل اليائسة من إمكانية الدفع قدماً بتسوية في الساحة الفلسطينية قررت العودة للتمسك بـ “القرار بعدم القرار”. ويضيف: “عملياً، ينعقد نوع من الحلف بين جمهور في معظمه لا يهتم بما يجري خلف الخط الأخضر (ويستيقظ لذلك فقط في أوقات تصاعد «الإرهاب») وبين قيادة سياسية غير معنية، أو غير قادرة، على خوض نقاش معمق حول مستقبل إسرائيل والفلسطينيين، لبلورة إستراتيجية مرتبة وواعية في الموضوع، وبدلاً من ذلك تركز على تحقيق الهدوء في ظل الاستناد إلى السلام الاقتصادي”.
لكن انتفاضة 1987، برأيه علمت الجانب الإسرائيلي أنه منذ الآن لا يمكن الفرار من الموضوع الفلسطيني، وأن من يمتنع عن اتخاذ مبادرات واتخاذ قرارات حاسمة، فنهايته أن يقع الواقع على رأسه، بينما يوجد هو في حالة إستراتيجية دون مطالب بأن يبلور جواباً في ظل تعرّضه للضغط الشديد. ويتابع: “توجد أمام إسرائيل، اليوم، قلة من البدائل الإستراتيجية، بعضها سيء، والآخر أسوأ. رؤيا الدولتين بروح «أوسلو» لا توجد اليوم قدرة عملية على تحقيقها، ضمن أمور أخرى بسبب الانقسام العميق في الساحة الفلسطينية، بينما أفكار الحل الوسط التي تطرح بين الحين والآخر مثل إعادة الحكم الأردني في الضفة، وتقليص النزاع دون فاصل مادي بين المجتمعين، وإقامة كونفدرالية مشتركة، ليست قابلة للتنفيذ عملياً. بين هذا وذاك يتحقق بالتدريج انصهار يومي غير واع بين إسرائيل والضفة يجد تعبيره في اندماج اقتصادي، وشبكات بنى تحتية مدنية وجغرافية”.
الفلسطينيون يتذكرون، حتى اليوم، الانتفاضة الأولى بحنين كمثال أعلى للكفاح شارك فيه قسم كبير من الجمهور، ترافق ومظاهر تضامن داخلي، وتمتع بتعاطف خارجي واسع.
خياران لا ثالث لهما
ويقول إن إماطة لثام الأوهام، والشعارات والمفاهيم من الماضي، تبين أنه لم يتبقَ، اليوم، إلا بديلين إستراتيجيين معقدين يلزمان إسرائيل بأن تختار الأقل سوءاً الأول، استمرار التقدم نحو واقع الدولة الواحدة، بينما في المستقبل سيكون الإسرائيليون مطالبين بأن يحسموا بين دولة فيها مكانتان مدنيتان منفصلتان وبين تجنيس الفلسطينيين في الضفة الغربية. أما البديل الثاني برأيه فهو فصل مادي بين إسرائيل والضفة، حتى وإن كان من طرف واحد إذا لم يتوفر شريك في الجانب الفلسطيني. وبرأيه من المتوقع للخطوة هذه أن تكون مفعمة بالتحديات، وعلى رأسها استمرار التهديدات الأمنية من جهة الضفة، والتعلق الاقتصادي العميق للفلسطينيين بإسرائيل، لكنها ستساعد على منع واقع على نمط البوسنة والهرسك والذي من شأنه دفعة واحدة أن يصبح مصيبة بمقياس تاريخي للمجتمعين”.