كما هي العادة في كتابة المقالات، أعود إلى ملفاتي السابقة، التي ربما تنير للكاتب معرفة ما وصل إليه من قبل، فربما يمكن البناء عليه، أو هدم ما سبق قوله ما دام لم يعد مواكباً أو مفيداً لمقتضى الحال.
وجدت مقالين في عنوانهما «فقه الأزمات المركبة»، نُشرا في 7 نيسان و٢٦ تموز٢٠٢٠.
كنا في عام «الكورونا» الأول، وباتت القضية كيف يمكن إدارة أزمات الإرهاب والفيروس والتنمية معاً في ظل أزمات عالمية لم يكن معروفاً لها نهاية، فلا كان هناك لقاح أو دواء للجائحة، أو كان هناك حل لاقتصاد عالمي ينكمش ويتراجع.
القضية كانت كيف نحافظ على المشروع الوطني المصري في التحديث والتقدم في ظل ظروف حرجة وغير مواتية؛ وكانت النتيجة إيجابية لأننا حافظنا أولاً على الثبات في إنجاز المشروع؛ وثانياً لأننا لم نستسلم للظروف، وإنما حاولنا تطويعها للحفاظ على المسيرة حتى وصلنا إلى معدلات للتنمية غير مسبوقة.
الحرب الأوكرانية التي جاءت على غير موعد أضافت مركباً آخر إلى كل ما سبق، وهذه المرة لم تسلم الجَرّة، وجاء جرحها مؤلماً للعالم كله.
لم تكن مصر استثناء لأن معادلة التحديث والتقدم كانت تعني مزيداً من الانخراط في العالم، وعندما تنخرط الأمم في الدنيا فإنها تصبح أكثر انكشافاً للمتغيرات الجارية فيه، التي قد تكون من الحدة إلى الدرجة التي تؤلم وتوجع دولاً مثلنا لم تخرج بعد من دائرة العالم النامي. ولكن كما يبدو أن الحرب كان لها وجهها الآخر، وهي أنها مثل العناصر المُعَجِّلة في معادلات الكيمياء تسرع من التغيرات الدولية والعالمية، وتأخذ العالم ونحن أيضاً إلى منعطف جديد سوف يكون من المفيد التعرف عليه مبكراً علّنا نكون أكثر قدرة على تجنب مخاطره، والاستفادة من فرصه.
الحرب هنا كاشفة بأكثر مما يقدر الكثيرون عن القدرات والقوى الحقيقية في العالم وتوازن القوى بينها؛ وكيف ستجرى إعادة تركيبها مرة أخرى في نظام جديد.
العودة إلى الملفات مرة أخرى تعطى مقالاً بعنوان «معركة خيرسون»، بتاريخ ١١ أيلول ٢٠٢٢، كان فيه التقدير أنها سوف تكون المعركة الفاصلة أو تلك التي يتحقق فيها منعطف جوهري يؤشر على نتيجة الحرب وما تتركه من توازنات.
بتعبيرات الحرب العالمية الثانية، فإنها مثل معركة العلمين في مصر؛ وستالينغراد في روسيا؛ وفي كلتيهما انكسر التقدم النازي، وتراجع في الجنوب والشرق، وبعد ذلك كانت النهاية محض تفاصيل مجهدة.
في المقال المذكور كانت هناك أربع معارك فاصلة، وكلها حول مدن كييف وماريوبول وخيرسون وأوديسا.
الحلقة الفاصلة في المدن الأربع كانت خيرسون، التي لو انتصر فيها الروس لباتت أبواب أوديسا مفتوحة، أما إذا كسبها الأوكرانيون فإن بقاء أوكرانيا في المعادلات الأوروبية لن يكون موضع شك، وثبات قيادتها مستمر، وطريقها إلى البحر الأسود ومنه إلى العالم مفتوح.
النتيجة حتى الآن أن روسيا خسرت معركة خيرسون، وهجرت قواتها المدينة إلى شرق نهر «الدنيبر»، ودخلت القوات الأوكرانية إلى المدينة.
التفاصيل العسكرية لما جرى ليست موضوعنا الآن؛ ولكن ما يهمنا هو أن هذا التغيير في الواقع العسكري ربما يكون بداية منعطف أكثر أهمية في علاقات القوى الكبرى.
ما كان مصاحباً للحدث كان مجموعة من التطورات التي لا يمكن تجاهلها: أولها أن المتحدث العسكري الروسي في بيانه عن الواقع الجديد في خيرسون صرح بأن انسحاب القوات الروسية كان بأوامر من وزارة الدفاع الروسية، وهي مقولة لم تكن ذائعة من قبل، فلا بوتين كان مذكوراً ولا القيادة العسكرية للعمليات كانت متاحة؛ وما ذكره إضافة لذلك كان مثيراً للاهتمام، حيث نوه بأن خيرسون هي مدينة روسية، وسوف تسترجعها روسيا بالمفاوضات!، وثانيها أن الرئيس بوتين أعلن عن قراره عدم الذهاب إلى بالي في إندونيسيا لحضور مؤتمر الدول العشرين؛ كما أنه لن يقوم بإلقاء خطاب عبر «الفيديو»، ووصل لافروف، وزير الخارجية الروسي، ممثلًا للدولة الروسية، بعد أن مثلها في مؤتمر المناخ في شرم الشيخ.
وثالثها جرى اجتماع في تركيا بين رئيسي جهازي المخابرات في روسيا والولايات المتحدة في تركيا، كان واحدة من نتائجه استئناف المفاوضات الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية.
ورابعها جرى الاتفاق على عقد اجتماع في بالي الإندونيسية بين الرئيس بايدن الأميركي، وشي جينبينج الصيني؛ وما تسرب عن الاجتماع كان أن الطرفين وضعا الخطوط الحمراء للعلاقات بينهما، وقوامها أن هناك «صيناً» واحدة، وأنه ليس معنى ذلك أن هناك حقّا للصين في غزو تايوان، وأن العلاقة بين واشنطن وبكين ستقوم على تنظيم «المنافسة» بينهما، وهو ما وُصف في الدوائر الأميركية بأنه عودة إلى «وفاق Detente»، النصف الأول من السبعينيات، والذي قام على إدارة العلاقات التصادمية بين القوتين العظميين في العالم، بحيث يستبعد الصراع المسلح ويجري تقنين وتحديد سباق التسلح.
هذه التطورات مجتمعة تضعنا على أول طريق منعطفات مهمة في السياسة الدولية؛ فهي مع ما أسفر عنه مؤتمر التغيرات المناخية «cop 27» والطفرات التكنولوجية ربما تقودنا إلى عالم آخر. ولكن المهم في هذه المرحلة هو أن «الليلة لا تزال خضراء» أو في أولها، ولا تزال هناك حاجة إلى المزيد لكى يخرج ضوء النهار.
العالم الآن سوف تكون عليه مراقبة إلى أين تمضى الأحوال في روسيا، بعد أن تحولت «المغامرة» الروسية إلى «مقامرة» بمستقبل الدولة ونصيبها في «القطبية» العالمية، التي كان يراها الرئيس بوتين حقاً مكتسباً للدولة الروسية تعيدها إلى أيامها السوفييتية والقيصرية.
ومن ناحية أخرى فإن العالم سوف ينتظر مدى الحكمة التي سوف تمضى إليها الدولة الأوكرانية وإدارتها لما حققته من نصر، فالحقيقة الجغرافية والتاريخية، فضلاً عن عناصر القوة، لا يمكنها إغفال روسيا في السياسة الأوروبية، ولا في التوازن العالمي، الذي جعلها طرفاً في الحروب النابليونية والحربين العالميتين الأولى والثانية، وطرفاً مهماً في الحرب الباردة.
وما لا يمكن تجاهله أيضاً أن النصر الأوكراني، فضلاً عن الإرادة والشجاعة الأوكرانية، اعتمد على العون العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي الأوروبي والغربي في العموم، وخاصة من قِبَل حلف الأطلنطي.
استمرار الحرب هنا لن تكون له أثمان فادحة على أوكرانيا فحسب، وإنما في أوروبا والدول الغربية عامة، التي خرجت منها ثروات كبيرة، فضلاً عن استضافة ما يقرب من سبعة ملايين أوكراني، وكلاهما خلق ضغوطاً اقتصادية وسياسية على المجتمعات والدول الغربية، وباتت تطالب معها أوكرانيا بالمزيد من الحكمة في التعامل مع مطالبها في مفاوضات مقبلة.
الخلاصة أن العالم بات على مشارف «إدراك الحدود» بالنسبة لجميع الأطراف، وعندما يحدث هذا الإدراك فإن خطوطاً جديدة للواقع تظهر، وأهمها أنه لا أحد يريد للصراع أن يستمر، ولا فتح جبهات جديدة بات مطلباً، ليس فقط لأن التكلفة السياسية والاقتصادية باتت عالية، وإنما لأن هناك تحديات لا قِبَل لأحد بها، بعضها يأتي من الفضاء وبعضها الآخر من الأرض.