دعت صحيفة “هآرتس” في افتتاحيتها، اليوم الإثنين، إسرائيل لوقف التستر على وثائق تاريخية سرية، وانتقدت الكشف الجزئي عن وثائق “خلند” الخاصة بمذبحة كفرقاسم بعد 66 عاما، وفقط بعد التوجه للقضاء ضد إجراءات منع نشرها.
وقالت “هآرتس” في افتتاحيتها إن يوم الجمعة الماضي وقع حادث أمني كان من الممكن أن يشكل خطراً أمنياً على اسرائيل، فقد كشفت وزارة الأمن عن مئات الصفحات من المحاضر السرية المتعّلقة بمحاكمات مجزرة كفر قاسم العائدة إلى سنة 1956. ونوهت بأنه طوال خمسة أعوام، حاولت النيابة الإسرائيلية العامة – أي الدولة – من خلال ممثليها في المحكمة العسكرية للاستئناف، محاربة نشر الوثائق وكانت حجتها أن نشر المحاضر يمسّ بأمن الدولة وبعلاقاتها الخارجية “بدرجة يقين شبه مؤكدة”، وهناك “احتمالات معقولة”، في حالات معينة، أن يمسّ بسلامة الأفراد”.
وتضيف “هآرتس” في انتقادات غير مباشرة للقيادات العربية أيضا “وها قد حدثت المعجزة، المحاضر نُشرت، وباستثناء بعض التغريدات على تويتر من ممثلي المجتمع العربي في إسرائيل، لم تحدث هزة أرضية. الكشف عن المحاضر كان أمراً مهماً ويجب الثناء عليه، لكنه يطرح بعض الأسئلة الأساسية”.
وفي معرض انتقاداتها، أكدت الصحيفة العبرية أن دولة عادية لا تخاف من النظر إلى نفسها في المرآة ومواجهة “أخطاء الماضي”، وكان الكشف عن هذه الوثائق سيجري في وقته، وليس بعد مرور 66 عاماً. وقالت أيضا إنه في دولة عادية، الكشف عن الوثائق كان سيجري بمبادرة منها هي، وليس بسبب طلبات استئناف من المؤرخ آدم راز ومعهد الأبحاث “عكيفوت” اللذين يناضلان بصورة فردية، ومن وقتهم ومالهم، من أجل إجبار أرشيف الجيش الإسرائيلي على نشر الوثائق، على الرغم من أهميتها العامة.
كان الهدف من الاعتقالات وإطلاق النار على فلسطينيين في كفر قاسم ترهيبهم وتحويلهم إلى مواطنين خنوعين كنعاج بريئة تجلس بهدوء ولا تثير المشاكل
نعاج بريئة
وتابعت الصحيفة “كي نفهم مدى أهمية نشر الوثائق، يكفي أن نطّلع على بعض ما جاء فيها. يروي جنود وضباط من الجيش ومن حرس الحدود أن الاعتقالات وإطلاق النار الذي أدى إلى مقتل 50 مواطناً في كفر قاسم في اليوم الأول من حرب سيناء، كان الهدف منه ترهيبهم وتحويلهم إلى مواطنين خنوعين كـ”نعاج بريئة” تجلس بهدوء ولا “تثير المشاكل”. وخلصت الصحيفة الإسرائيلية للقول إنه علاوة على ذلك، في رأي الضابط الأعلى رتبة يسسخار شدمي، كان من المفترض أن يدفع إطلاق النار الناس إلى مغادرة منازلهم والهرب إلى الأردن. وهو ما يعني أن الوثائق تدل على أن قتل مواطنين، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، كان الهدف منه الدفع قدماً بالترحيل، الترانسفير”. وتتساءل هآرتس “هل هناك مَن يختلف على أهمية هذا الكلام؟” وتضيف متحاشية استخدام مصطلح “جرائم حرب”: “يوجد في أرشيف الجيش مئات الصفحات السرية التي تتضمن أجزاء من البازل التاريخي المعقد لإسرائيل، وتشكل أدلة على أحداث سوداء. وعلى سبيل المثال، رفضت محكمة العدل العليا الالتماس الذي قُدم (بينهم “هآرتس”) لنشر الوثائق السرية المتعلقة بمجزرة دير ياسين في سنة 1948. يذكر هنا أن إسرائيل ترفض أيضا تحمل مسؤولية عن مذبحة الطنطورة عام 1948 كما هو الحال مع عشرات المذابح الأخرى في النكبة رغم اعتراف جنود وحدة الكسندروني باقترافها كما يرد في صوتهم وصورهم ضمن الفيلم الوثائقي الجديد “طنطورة” للمخرج الإسرائيلي ألون شفارتز.
ضابط إسرائيلي: كان من المفترض أن يدفع إطلاق النار الناس إلى مغادرة منازلهم والهرب إلى الأردن
يتعين على الدولة إنشاء لجنة مستقلة وموضوعية لفحص سياسة نشر الوثائق التاريخية، وتقديم معلومات للجمهور عن تاريخها. وهذا من شأنه أن يساعد في مداواة العلاقات بين العرب واليهود في إسرائيل، وكما كتب في الأمس وزير الشؤون الإقليمية عيساوي فريج “ما دام الإخفاء مستمراً، فإن المواجهة الحقيقية لم تبدأ، اليوم، هذه المرحلة بدأت”.
مجزرة كفر قاسم: القتلة لم يتصرفوا كجنود يطيعون الأوامر بصورة عمياء
وضمن تقرير عن المذبحة استنادا لأرشيفات تاريخية جديدة، قالت “هآرتس” إن محاضر محاكمة كفرقاسم مروعة وشائنة – ليس لأنها تكشف حقيقة تاريخية لم تكن معروفة، بل لأن جرائم الحرب الإسرائيلية تلعب دوراً هامشياً للغاية في صوغ القيم الأساسية للدولة. وتابعت “خطة الخلد” لطرد عرب المثلث معروفة منذ 20 عاماً لأن الشخص الذي كتبها – بأمر من رئيس الأركان موشيه دايان – كشف عن وجودها، واسمه أبراهام تامير، رئيس قسم العمليات في القيادة الوسطى، وقتذاك، وأصبح بعدها طائراً غريباً للغاية في السياسة الإسرائيلية. وكانت الفكرة استغلال حرب مستقبلية مع الأردن والقيام في ظلها بإخلاء قرى المثلث: جزء من السكان يهرب إلى الأردن، والآخرون يُرسَلون إلى مخيمات مغلقة في إسرائيل”.
ونوهت بأن روفيك روزنتال، صحافي وكاتب وعالم لغوي، اقتبس من تامير في كتابه: “كفر قاسم أحداث وأسطورة”، الصادر عام 2000 وقبل ثلاثة أعوام، نشر المؤرخ آدم راز “بيوغرافيا سياسية” عن المجزرة التي ارتكبها الجنود في كفر قاسم في ساعات ما بعد الظهر في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956، في اليوم عينه الذي بدأت فيه حرب العدوان الثلاثي. يومها، أُعلن منع التجول في قرى المثلث وكان 53 شخصاً من قرية كفر قاسم قد عادوا من قطف الزيتون ولم يعلموا بمنع التجّول وتأخروا في العودة من عملهم، فأُطلقت النار عليهم وقُتلوا. وتابعت “بين دير ياسين (1948) وصبرا وشاتيلا (1982) ما من رمز أكثر بشاعة من جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل. مجزرة كفر قاسم جرى الاعتراف بها بمرور السنوات على أنها حادثة مأساوية كان يجب ألا تقع. ووُضعت خطة “الخلد” في أدراج النسيان إلى جانب خطط أُخرى من أجل تقليل عدد السكان العرب. لقد أراد آدم راز أن يثبت وجود علاقة بين “خطة الخلد” وبين مجزرة كفر قاسم. لكن أرشيف الجيش الإسرائيلي رفض الكشف عن الوثائق التي تتعلق بذلك. وطالب راز، من بين أمور أُخرى، الاطلاع على محاضر محاكمة أفراد القوة التي نفّذت المجزرة، وبعد صراع قضائي وعام استمر سنوات، سُمح فيه بعد 66 عاما على المذبحة”.
خطة خلند
وتقول “هآرتس” إنه كما في كل المرات التي يجري فيها رفع السرية عن وثائق الدولة، فإن السؤال الأول الذي يُطرح: لماذا أُخفيت بهذه الصرامة. كم كان مشجعاً ومفاجئاً لو كشفت هذه المحاضر أوامر تطالب بعدم إلحاق الأذى بالمدنيين الأبرياء، لكن ليس هذا ما جرى. وأضافت “كما هو معروف منذ أعوام كثيرة، كانت الأوامر هي بالقتل. بقي السؤال: إلى أي حد هناك علاقة عملانية بين خطة الخلد – التي أُلغيت قبل تنفيذ المجزرة – وبين ما جرى في كفرقاسم. الانطباع الذي يظهر من المحاضر بأن هناك علاقة ظرفية: بعض مرتكبي المجزرة كانوا على علم بالخطة، وأيضاً علموا بإلغائها، ومع ذلك فعلوا ما فعلوه. لكن العلاقة الدقيقة بين عملية الخلد وبين المجزرة ليست هي المهمة، المهم أن الأمرين كانا نابعين من الروحية عينها، وقتلة أهالي القرية لم يتصرفوا كجنود يطيعون الأوامر بصورة عمياء، بل كانوا مقتنعين بأنهم يفعلون ما يجب القيام به ومحاضر محاكماتهم تؤكد ذلك جيداً، ومن هنا أهميتها الأساسية”.
المواطنون الأعداء
وتستذكر “هآرتس” أنه في سنة 1956 شهد العديد من الإسرائيليين حوادث حرب 1948 واعتُبر العرب في إسرائيل أعداء وكانوا يخضعون لقيود الحكم العسكري، وهو آلية تعسفية وفاسدة عكست مقاربة دافيد بن غوريون حيال العرب في البلاد. وأكدت “هآرتس” أيضا أن بن غوريون رأى فلسطينيي الداخل عقبة وخطراً ينبغي إزالته منوهة، بأنه لم يعتقد أن في الإمكان إقامة سلام معهم وهو أيّد عدة خطط للترحيل – فرار العرب في حرب 1948، وفرارهم وطردهم كانا يتطابقان مع هذه الروحية. “العربي هو قبل كل شيء عربي”، قال بن غوريون قبل بضعة أشهر من مجزرة كفر قاسم وهذه الروحية تعاظمت أيضاً في الجيش الإسرائيلي. “آمل في الأعوام المقبلة أن يكون هناك إمكانات لتنفيذ ترحيل للعرب من “أرض إسرائيل”، قال أيضاً موشيه ديان.
وتشدد “هآرتس” على أن مَن يخفي جرائم حرب – هو مثل الذي يغطيها ويبيحها وتقول إن الإعراب عن الندم العلني على جرائم الحرب يساعد أحياناً في صوغ قيم أساسية إنسانية. وتضيف “في إسرائيل، هذا صعب جداً، ليس فقط بسبب الحاجة الدائمة إلى الدفاع عن النفس في مواجهة العدو العربي، بل أيضاً بسبب الحاجة إلى الإيمان بأن الدولة على حق. وهذه حاجة أيديولوجية صهيونية وجودية. إذا لم نكن على حق، لما كنا هنا، هذا ما تعلّمه المدارس الإسرائيلية”.