لنتذكر جميعاً أن وزير خارجية أمريكا الأسبق لم يلمع نجمه ولم يخط إلى دائرة الضوء في الساحة العربية، إلا بعد أن نجح في إخراج مصر من الملعب العربي إلى خارج خط التماس بموجب اتفاقية كامب ديفد مع أنور السادات، حتى أنه تحول إلى مكوك أو هكذا وصف في حينه بطريقة توحي أنه كان مستميتاً على أمن إسرائيل فقد كان يعرف جيداً أن مصر هي التهديد الحقيقي والأكبر لوجود إسرائيل، وأنها الحلقة الجامعة التي تشد سلسلة الظهر العربية، ولذا لم يهدأ له بال حتى أقنع أنور السادات بأنه الزعيم الأكفأ والأجرأ على اتخاذ مثل هذه الخطوة، وأن الإقدام عليها شجاعة سيسجلها له التاريخ، وبمعنى آخر لقد لعب على نقاط ضعف السادات وتطلعه لتقمص دور المجد والعظمة خاصة أن الكل لا يرى فيه إلا قزما في ظل عملاق هو سلفه جمال عبد الناصر، وحتى يعفيه من الشعور بالذنب ذكّره أن عبد الناصر قد وافق على مبادرة وليام روجرز للسلام وأن عليه أن يستكمل طريق معلمه.
لهذه الشخصية أكثر من بعد ففي تاريخه السياسي وأثناء توليه منصب وزير الخارجية في عهد كل من نيكسون وفورد عمل على إنهاء الحرب الفيتنامية وفشل ولكنه حصل على جائزة نوبل للسلام كمكافئة لجهده هذا، ولكنه نجح في إحداث انفراجة في العلاقتين الأمريكية الروسية والأمريكية الصينية. وإذن فلربما كان يستكمل جهده في عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل انطلاقاً من قناعة بأن السلام العالمي يرسى لبنة لبنة، وربما لأنه عاش في ألمانيا النازية قبل هروبه للولايات المتحدة وشهد معاناة اليهود من جهة ثم قاتل في صفوف الجيش الأمريكي كمتطوع في الحرب العالمية الثانية وكان شاهداً على ويلات الحرب وفظاعاتها.
أما البعد الآخر فهو اهتمامه بقراءة التاريخ واختياره لزاوية قراءة تحمل رؤيا معينة نحو الحضارة الغربية ويشي بذلك عنوان أطروحته الجامعية” معنى التاريخ تأملات في كتابات شبنجلر وتوينبي وكانت، وهذه الخيارات تشي بأنه كان مدركاً تماماً لأزمة الحضارة الغربية بشقيها الأخلاقي والفكري والاجتماعي، ولربما هذا ما حدا به إلى لعب دور المنقذ واختار طريق السلام وتوجيه دفة السياسة الدولية بعيداً عن خيار الحرب.
ذهب هنري كيسنجر بعدها في سبات واكتفى بتقديم المشورات عن طريق مؤسسته للاستشارات، ولكنه يصحو الآن على قعقعة الحرب الأوكرانية الروسية ويدلي بصوته حولها، وليس غريباً أن يطلب لأوكرانيا تقديم التنازلات لروسيا مخالفاً سياسات بلده ومولياً ظهره لرابطة الدين التي تجمعه بالرئيس زيلينسكي ولكن قلب المسألة وهو البعد الآخر في شخصيته هو إيمانه بتوازن القوى وأحد أركان هذا التوازن هو الميل على الضعيف وإلزامه بتقديم التنازلات، وهذه أحد قناعات هنري كيسنجر الراسخة حيث أنه كان من أنصار الإجماع الدولي في الأمم المتحدة من قبل القوى الكبرى حتى لو كان مخالفاً للعدالة فمن آراءه التي أبداها في حينه أن المهم في سياق العلاقات الدولية هو الشرعية وليس العدالة لأن العدالة مفهوم مجرد ومطلق في حين أن الشرعية هي إجراء وصيغة قانونية وقابلة للتطبيق العملي.
ولعل استقراء مجمل هذه الآراء يشير إلى أننا أمام شخصية ذات بعد إنساني ولكن ضمن معطيات الواقع وبعيداً عن المثاليات والمباديء المجردة.
مع ذلك فقد رسمت له أحد الصحافيات الأمريكيات صورة غير جميلة حيث قالت بعد مقابلتها له أنه نزق وسريع الغضب ولا يحترم أحداً وسريع الملل ولن يتردد مطلقاً في طردك والإلقاء بك في الشارع فليس عنده أي معايير سلوكية.
وعلى أية حال فهذه شخصية خلافية ربما ولكنها لعبت دوراً مشهوداً على الساحة السياسية الدولية فاستحقت إلقاء الضوء عليها وربما يساعد ذلك في فهم الواقع الراهن لمجمل هذه السياسة وتوجهاتها.
كاتب من الاردن