محمد عبدالرحمن عريف
منة الله محمد عبدالرحمن
كغيرها من المناطق كانت المنطقة التي عرفت باسم “شرق الأردن” جزء لا يتجزأ من بلاد الشّام التي خضعت للعثمانيين منذ عام 1516، وعاشت تحت حكمهم مدّة أربعة قرون، واكتسبت هذه المنطقة أهمية خاصة لوقوعها على طريق الحج الشّامي، ممّا دعا الدّولة العثمانية إلى بناء القلاع والبرك فيها لتأمين حماية الحجّاج، وتسهيل سفرهم وضمان راحتهم.
أخذ اهتمام الدولة العثمانية بشرق الأردن يزداد منذ بداية النّصف الثّاني من القرن التاّسع عشر، ففي عام 1851 جعلت من المنطقة الواقعة بين نهر اليرموك، ونهر الزّرقاء قضاء مركزه إربد، وعينت له قائم مقام يتبع متصرّف حوران، كما جعلت من المنطقة الواقعة بين نهر الزرقاء، ونهر الموجب قضاء اخر مقرّه السّلط، ويتبع متصرفية نابلس.
ازدادت أهمية شرق الأردن بعد مد خط سكّة حديد الحجاز من دمشق إلى المدينة المنورة، الذي أفتتح عام 1908، وكان هذا الخط يقطع شرق الأردن من شمالها إلى جنوبها حتى يدخل إقليم الحجاز.
أثناء الحرب العالمية الأولى، تعرضت منطقة شرق الأردن لما تعرضت له بلاد الشّام من ضائقة اقتصادية بسبب الحكم العسكري الذي فرض على البلاد خلال سنوات الحرب، نتيجة للسياسة المنتهجة من طرف الدولة العثمانية، والمتمثلة في الاستيلاء على المواد الغذائية، وتجنيد شباب المنطقة، للاشتراك في المعارك العسكرية، ومصادرة المحاصيل الزراعية والحيوانات، مما زاد في شقاء الناس.
نتيجة لسياسة التّتريك التي انتهجها حزب الاتحاد والترقي الذي سيطر على الحكم بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909، ظهرت النّزعة القومية عند عرب الشّام والعراق وغيرها في مواجهة هذه السياسة، وبدأ الخلاف بين الطّرفين منذ ذلك الوقت بسبب محاولات الأتراك الانتقاص من مكانة الحجاز، والغاء الامتيازات التي كانت تتمتّع بها، وكان هذا الخلاف بداية لما عرف بالثّورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين وأبناؤه، ضد الأتراك بالتّعاون مع بريطانيا ودول الوفاق عام 1916، بعد اتّفاق الطّرفين على تحقيق مصالحهما في اطار ما عرف بمراسلات (الحسين – ماكماهون)، التي بلغت عشر رسائل، والتي اتفقا من خلالها على اشتراك الشريف حسين في الحرب إلى جانب بريطانيا ضد الأتراك، في المقابل تعترف بريطانيا بالخلافة العربية عند اعلانها وانهاء الخلافة العثمانية، واعتراف بريطانيا كذلك باستقلال العرب في اطار دولة عربية كبرى، رغم تعهد بريطانيا بأنّ قيام الدولة العربية سوف يكون في منطقة معينة، أي لا تتضمّن كل البلاد العربية، وإن أظهر هذا الاتّفاق أنّ شرقي الأردن سوف تكون ضمن الدولة العربية المستقلة المنتظرة. وبعد الانتهاء من تحرير الحجاز، توجّهت القوات العربية شمالًا صوب الشام، حيث انظمّت الحويطات القاطنة جنوب شرق الأردن إلى قوات الأمير فيصل ابن الحسين.
في أوائل شهر تموز/ يوليو 1917، هاجمت قوات فيصل محطّة معان وشتّت شمل القوى التّركية المرابطة هناك، وفي آب/ أغسطس من نفس العام وصلت هذه القى إلى العقبة، واستولت عليها، وأسرت حاميتها التّركية المؤلفة من 720 جندي، و30 ضابط، وبلغت خسارة الترك في معان والعقبة نحو 600 قتيل وجريح.
على إثر هذا الفوز قرّر الأمير فيصل الانتقال إلى العقبة، فاتّصل بالجيش البريطاني بفلسطين، وفي أوائل شهر شوال، احتل الجيش الكويرة مواصلًا الزّحف إلى الأمام، وفي منتصف شهر شوال، توجّهوا لغزو محطة تبوك، وتمكّنوا من الاستلاء على قلعة مطران.
في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تتقدّم في جنوب فلسطين، تحتل بئر سبع وغزّة، ويافا( )، والخليل، وتستولي على القدس( )، وفي أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1917 أخذت القوات العربية في مناوشة القوات التركية في معان، والمناطق المجاورة لها، وفي منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 استولت على الطفيلة والشوبك، الاّ أنّ القوات التركية استعادتها من جديد، وتمكّنت القوات البريطانية من احتلال السّلط في 24 أزار/ مارس 1918، ثمّ اضطرّت إلى الانسحاب منها في 29 من نفس الشهر حوفًا من تجمّع القوات التركية واستعادتها.
في 31 آب/ أغسطس 1918، أعدّ الأمير فيصل حملة صغيرة بقيادة نوري السعيد لاحتلال الأزرق التي بلغتها في 22 ايلول/ سبتمبر واتّخذتها مقرا لها، وفي 28 من نفس الشهر، تمكّنت الحملة من احتلال درعا، واضطرّ الجيش التّركي إلى الانسحاب من عمان في 24 أيلول/ سبتمبر متّجهًا إلى دمشق، وتمكّنت قوات الأمير فيصل من دخول عمّان في اليوم الأول من كانون الأول/ ديسمبر 1918 متّجهًا إلى دمشق، وتمكّنت قوات الأمير فيصل من دخول عمّان في اليوم الأول من كانون الأول/ ديسمبر 1918.
وما يمكن ملاحظته، أنّ أهالي شرقي الأردن قد ساهموا مساهمة فعّالة مع جيش الثّورة العربية في العمليات العسكرية التي جرت في بلادهم، وتلك التي جرت في سوريا الشمالية وبعد تمكّن العرب من احتلال دمشق، اعتقدوا أنّهم سيحضون بالاستقلال، بناء على الاتّفاق الذي كان بينهم وبين الحلفاء.
غير أن الجنرال اللنبي القائد العام لقوات الحلفاء في بلاد الشّام، استقبل الأمير فيصل في اليوم الثالث من احتلال دمشق، على أن يكون حكّامها العسكريون وموظفوها المدنيون من العرب، ومرتبطين مباشرة بالأمير الذي سيكون بدوره مسؤولا أمام الجنرال اللنبي طوال فترة الحرب، وبعد ها اللقاء بيومين تشكّلت بأمر من الفيصل أول حكومة عربية في دمشق برئاسة الفريق علي عبدالله الركابي( ) الذي منح لقب الحاكم العسكري العام.
بعدها طلبت فرنسا من بريطانيا تنفيذ اتفاق (سايكس – بيكو) الذي عقد سرًا عام 1916، فاتّفقا الطّرفان في 30 أيلول/ سبتمبر 1918 على تنظيم ادارة بلاد الشّام، وتوزيع السلطات بينهما ريثما يبث في مصيرها نهائيًا، وذلك دون استشارة العرب.
ينصّ الاتفاق على تقسيم بلاد الشّام إلى المنطقة الشرقية، وتشمل ولاية سوريا القديمة من معان جنوبا حتى حدود تركيا شمالًا، مع أقضية أواب، وجسر الشغور، والباب غربًا، والفرات شرقًا، وجعلت هذه المنطقة وتولى ادارتها العليا الأمير فيصل. ويلاحظ أنّ هذه المنطقة تشمل منطقة شرقي الأردن. أما المنطقة الغربية، وهي عبارة عن سواحل سوريا وقد وضعت هذه المنطقة تحت النفوذ الفرنسي مباشرة. والمنطقة الجنوبية، وتشمل فلسطين، وقد تولت السلطات الانجليزية ادارتها.
بانعقاد مؤتمر الصلح عام 1919 في باريس، بعد الحرب العالمية الأولى، عقد اتفاق في باريس بين فرنسا وبريطانيا في 15 أيلول/ سبتمبر 1919، نصّ على اعطاء كل الأراضي السورية لفرنسا مقابل حصول بريطانيا على شمال العراق، وبهذا الاتفاق لم يحدث أي تغيير بالّنسبة لمنطقة شرقي الأردن، فقد بقيت ضمن منطقة النفوذ البريطاني، كما نصت عليه اتفاقية (سايكس – بيكو)( ) وقد قسمت شرقي الأردن في العهد الفيصلي إلى ثلاثة ألوية هي لواء الكرك، ومركزه بلدة الكرك، وتتبعه اقضية الطفيلة ومعان، والعقبة، ونواحي الشوبك، والعراق وذبيان، وتبوك. ولواء البلقاء، ومركزه السلط، ويتبعه قضاء الجيزة، وعمان، وناحية مادبا. ولواء حوران، ومركزه درعا، وتتبعه أقضية أزرع والمسمية، وبصرى الشّام وعجلون وجرش.
ترتبط بهذه الألوية خمسة عشر قضاء، ويرأس كل لواء حاكم عسكري عام باسم مدير الداخلية، كما أقام الأمير فيصل مجلسا للعشائر يعمل على تسوية أمورها حسب العادات والتقاليد المتعارف عليها، وقد اسندت رئاسته إلى الشريف محمد علي البدوي، كما تم تعيين الفريق علي عبدالله الركابي حاكمًا عسكريا لمنطقة شرقي الأردن.
الحكومات المحلية 1920- 1921
بعد انسحاب القوات البريطانية من جميع الأراضي السورية بما في ذلك شرقي الأردن قبل انهيار المملكة السورية، وباحتلال الفرنسيين لمدينة دمشق لم يتوغلوا بقواتهم في أراضي شرقي الأردن، فبقيت هذه الأخيرة خالية من القوات البريطانية، بلا حكومة وبلا جيش، وبلا شرطة تحفظ الأمن.
مما دفع بالمندوب السامي البريطاني في فلسطين إلى أخذ زمام المبادرة، فبعث برسالة إلى الملك فيصل في 16 آب/ أغسطس 1920، أكد فيها أن مشايخ من منطقة شرقي الأردن زاروه في تموز/ يوليو من العام نفسه وطلبوا إليه انشاء ادارة بريطانية في منطقتهم( )، موضحًا أن الحكومة البريطانية تميل إلى تعيين عدد قليل من الضباط لمساعدة أهالي شرقي الأردن على تنظيم حكومتهم، ووسائل الدفاع عنها.
وجاء المندوب السامي هيربرت صمويل( ) وألقى خطابًا على أعيان الأردن مجتمعيين في السلط( )، موضحًا من خلاله أن الحكومة البريطانية لا تقصد الحاقهم بإدارة فلسطين، بل تريد تأسيس ادارة منفصلة تساعدهم على حكم أنفسهم، وذلك بإرسال عدد قليل من المعتمدين السياسيين، ورجال القضاء ذوي حنكة ودراية تامة بالأهالي واللغة العربية، لمساعدتهم على تنظيم القوات للدفاع عنهم أمام أي تعد من الخارج، وتنظيم الدرك المحلي، وترويج التجارة السلمية( ). مشيرًا أن هؤلاء الموظفون في ادارة بلادهم تحت رئاسة الموظفين البريطانيين، ينتخبون من أهالي البلاد( ). وبعد الاجتماع قام صمويل بتعيين عدد من الضباط السياسيين البريطانيين إلى مختلف أنحاء شرق الأردن، وحددت واجباتهم في تشكيل هيئات بلدية وادارية، وتشجيع الحكم الذاتي، واعطاء المشورة للآهلين.
من أجل السّيطرة على العشائر الأردنية وقواها الاجتماعية وتفتيتها، عملت الحكومة البريطانية على تقسيم ادارة منطقة شرق الأردن إلى حكومات محلية منفصلة، وتأتمر كل منها بأوامر ضابط سياسي بريطاني، ولم تلق هذه الحكومات أي معونة مالية أو عسكرية من بريطانيا( )، وهي حكومة دير يوسف، برئاسة الشيخ كليب الشريدة. وحكومة عجلون، برئاسة الشيخ راشد الخزاعي. وحكومة الوسطية، برئاسة الشيخ ناجي العزام. وحكومة الرمثا، برئاسة الشيخ ناصر الفواز الزعبي. وحكومة جرش، برئاسة علي المغربي( ).
استمرت هذه الحكومات تمارس أعمالها حتى 11 نيسان/ أبريل 1921، كما تأسست في الكرك حكومة محلية، حملت اسم حكومة “مؤب” تحت اشراف الميجر” كلينفك” الذي حل محله بعد فترة من الزمن “اليك كيركبرايد” الذي غدا فيما بعد معتمد بريطاني في عمان( ). وقد سادت منطقة شرق الأردن طيلة مدة ثمانية أشهر، منذ قيام الحكومات المحلية في أيلول/ سبتمبر1920 إلى نيسان/ أبريل 1921، حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وأثبتت هذه الحكومات عجزها عن مواجهة المشاكل العامة. وقد وصف المؤرخ خير الدين الزركلي حسبما جاء في مقال “دور بريطانيا في تأسيس شرق الأردن عام 1921، الواردة في مجلة أبحاث ميسان، أن الوضع في منطقة شرق الأردن في فترة الحكومات المحلية بقوله: لم يكن للمنطقة نظام خاص في ذلك الحين، ولما كان الحكم فيها يميل إلى العرف، ولو كان الحكم العرفي شاملًا كل أنحائها لسميناها نظامًا، ولكن الفروق كانت كبيرة بين كل بلدة، أو قرية وأخرى، فقانون مدني ونظام عسكري، وقضاء عشائري، وشرع وعرف واستبداد وشورى، كل شبكة واحدة وقعت في أسرها منطقة شرق الأردن( ).
وقد واجهت هذه الحكومات صعوبات عدة منها، لم يكن لها صفة دولية، أو معترف بها. مع تعدد المستشارين البريطانيين، حيث شمل كل حكومة مستشار، فانعدم التنسيق، والرؤى السياسية بينهم. واعتمدت في ادارتها على رؤساء العشائر في انشاء هذه الحكومات، دون عامة الشعب ورأيهم( ).
-الموقف والرؤية السياسية البريطانية الجديدة
ما أن شارفت “الفترة التجريبية” لدولة الإمارة، على الانتهاء حتى أخذت الأوضاع في شرقي الأردن تتفاقم( )، ولم يبد الأمير عبدالله خلال أشهر التجربة الستة دلائل تشير إلى كفاءته، فالجيش لم يكن فاعلاً في فرض الأمن ومنع الاضطراب، فحدثت خلال الفترة نفسها عدداً من الاضطرابات والانتفاضات المحلية التي شكّلت خطراً على استمرار السلطة، مثل محاولة اغتيال غورو، وانتفاضة الشريدة ، لدرجة أن تشرشل طلب من صموئيل أن يمارس درجة عالية من الضبط والرقابة على الوضع المالي، في نفس الوقت الذي ارتهنت فيه المعونة المالية المقدمة لحكومة دولة الإمارة بشرط اتخاذ إجراءات فعَالة في البلاد، وقد اشتكى المعتمد البريطاني في عمان من أن الأمير لم يكن قادراً على أن تكون لديه الإدارة المناسبة، أو على التخلص من الوطنيين السوريين، وبناء عليه فقد كانت تسوية تشرشل التي تجسدت في اتفاق القدس، في خطر وكادت السياسة البريطانية أن تصاب بنكستها الأولى في شرقي الأردن( ).
ظل صموئيل يتحين الفرص من أجل إفشال تسوية تشرشل، خاصة وأنه من بين أشد المعارضين لها، انطلاقاً من اعتبارات صهيونية كانت ترى في شرقي الأردن جزءاً من الوطن القومي اليهودي، وقد وجد في الاستعصاءات التي واجهت بناء دولة الإمارة مبرراً للعودة عن التسوية ذاتها وإعلان فشلها، فقد أبدى صموئيل وأعوانه (ابرامسون ويونج) عدم موافقتهم على استمرار “أمير بدوي” في حكم شرقي الأردن، وظلوا يحاولون استغلال الاحتجاجات الفرنسية لإيغار صدر كبار رجال الحكومة البريطانية ضد الأمير وحكومته، ويضعون كل ما أمكن من عراقيل وعقبات في وجه تلك الحكومة، ودفعها لإعلان فشلها كمبرر تأخذه الإدارة البريطانية لصرف انتباهها عن تسوية تشرشل( ).
لم يثق تشرشل بتقييم صموئيل وفريقه للوضع العام في شرقي الأردن، باعتبارهم فريق المعارضة لتسويته السياسية، فبعث إلى لورد كرزون وزير الخارجية يطلب منه الإفادة من خدمات لورنس، والإيعاز له بالسفر إلى شرقي الأردن بأسرع ما يمكن، من أجل فحص الوضع العام فيها على الطبيعة، وتقديم توصية بالخطوات التالية التي يجب إتباعها: “إما بتعزيز سلطة الأمير عبدالله في شرقي الأردن، أو بإتاحة المجال له للانسحاب من الوضع البالغ الصعوبة الذي أقنعناه بأخذه على عاتقه”( ).
(كان لورن آنذاك في جدة (الحجاز) يفاوض الملك حسين بن علي كموفد لوزارة الخارجية من أجل تصفية العهود التي قطعتها بريطانيا للعرب في أثناء الحرب وقد عرضت بريطانيا في تلك المفاوضات على الملك حسين مشروع معاهدة، غير أن الأخير رفض توقيعها مشترطاً أن تنص صراحة على اعتراف بريطانيا بأن فلسطين كانت من جملة الأراضي العربية التي تعهدت بريطانيا بالاعتراف باستقلالها فابرق لورد كرزون في (16 أيلول / سبتمبر 1921) إلى لورنس يطلب إليه الإسراع في اختتام مفاوضاته مع الملك حسين من أجل السفر إلى شرقي الأردن والتشاور، مع السير في هربرت صموئيل حول السياسة التي يجب إتباعها في المستقبل هناك)( ).
وجد لورنس نفسه بعد محادثاته مع فريق صموئيل، أنه أمام فريق معارض للتسوية، ويقوم في نفس الوقت على انفاذها، ومن أجل أن يعطي التسوية/ الاتفاق فرصاً معقولة للاختبار، أوصى بتعيين فليبي في وظيفة المعتمد بدلاً من ابرامسون، وبناء عليه طلب تشرشل من فليبي الحضور إلى لندن، لتزويده بالخطة السياسية البريطانية في المنطقة، وكلف لورنس بتولي وظيفة المعتمد البريطاني في عمان بصورة مؤقتة، وأعطاه صلاحية إبقاء ابرامسون أو صرفه، ولم يكتف لورنس بإزاحة ابرامسون، بل أزاح أيضاً الميجور سمرست من اربد والكابتن كركبرايد من الكرك( ).
يمكن القول أن عملية تطهير الأجهزة الأمنية في الإمارة الذي عمل عليه لورنس، كان بسبب خضوع قادة الأجهزة من فريق صموئيل إلى برنامج الحركة الصهيونية، الذي عمل بتضاد مع برنامج وزارة المستعمرات والخارجية البريطانية من جهة، وبسبب نفور أهالي البلاد منهم، نظراً لنشاطهم المشبوه من جهة ثانية، وعدم ثقتهم أخيراً بكل تلك الإجراءات بما فيها، بناء واهداف دولة الإمارة، لتي اتضحت لجماهير البلاد منذ تشكيل أول حكومة، خاصة وأن جماهير البلاد ما زالت ترى نفسها من خلال أعضاء حزب الاستقلال، الذي كان له دور بارز في احتضان أهالي شرقي الأردن لبرنامجهم الكفاحي، ملتزمة بهذا البرنامج ومعنية به، كما اتضح لها حقيقة برنامج الأمير وبريطانيا، الذي عكس بشكل جلي المخطط البريطاني الكولونيالي في المنطقة، وتخوف جماهير البلاد من شمول وعد بلفور لبلادهم( ).
كتب لورنس تقريراً لوزارة المستعمرات عن الوضع السياسي في شرقي الأردن في (24 كانون الأول/ ديسمبر 1921) حيث أكد فيه شعور الأهالي بـ”عدم الثقة المتزايدة بحقيقة الـدوافع (البريطانية) في شرقي الأردن”، واستنتج لورنس “أن الخوف ناتج عن نشاط (الحركة) الصهيونية، ويجب أن يكون بالإمكان تبديده”، حتى يتم الاستيعاب المحلي للسياسة البريطانية( ).
رأى لورنس بعد فحص الوضع العام في البلاد، ضرورة انتهاج سياسة رسمية على أساس أن تستمر إدارة الأمير عبدالله الشرقي الأردن في الوقت الراهن بدون إعلان رسمي جديد عن ذلك. مع إبعاد بعض الموظفين السوريين. وخفض الإعانة المالية الخاصة بالأمير عبدالله من خمسة آلاف جنيه شهرياً إلى ألف جنيه. وإصدار بيان سياسي رسمي يوضح أن مواد صك الانتداب المتعلقة بالصهيونية لن تنطبق على شرقي الأردن. والضغط على الأمير عبدالله مرة أخرى ليتخذ إجراءات فعَالة لتأمين القبض على الأشخاص الذين هاجموا الجنرال غورو. كذلك دعوة عبدالله لزيارة لندن بعد الشتاء( ).
يلاحظ أن السياسة التي اقترحها لورنس كانت ترمي إلى دعم الأسرة الهاشمية ممثلة بالأمير عبدالله، وقد نال هذا التوجه موافقة تشرشل، غير أن ذلك أبرز فوق السطح اتجاه آخر عبر عن نفسه بصوت عال، يدعو إلى إنهاء حكم الأمير عبدالله، وإعادته إلى الحجاز، وتزعم هذا الاتجاه، صموئيل الذي لخّص موقفه في تقرير رفعه إلى تشرشل قال فيه “إن استقلال شرقي الأردن، تحت حكم بدوي لن يؤدي إلى الأمن والاستقرار” المنشود، واقترح في نفس التقرير، التخلص من الأمير عبدالله والسوريين وطلب سحب الامير من المنطقة ودعوته إلى لندن ثم اعادته للحجاز، واستبداله بالأمير زيد إذا كان لا بد من الاستمرار في سياسة التعاون مع الهاشميين، كما اقترح إصدار بيان رسمي حول السياسة البريطانية في المنطقة، يؤكد مبدأ الانتداب، وينص صراحة على أن المنطقة لن تخضع لإدارة بريطانية مباشرة، ولن تخضع لأحكام وعد بلفور، كما أوصى صموئيل بخفض الإعانة المالية لشرقي الأردن، وإعادة تعيين المعتمدين السياسيين البريطانيين في كل من عجلون والكرك، وإلحاق معان والطفيلة بشرقي الأردن، التي تتبع مملكة الحجاز ، وإبقاء مظهر رسلان في وظيفته رئيسا للحكومة( ).
مع إدراك تشرشل لأهمية اقتراح لورنس وصموئيل الخاص بإصدار البيان السياسي المشار إليه، الا أنه رفض وجهات نظر واقتراحات كل من صموئيل ولورنس بحجة أن وجود الأمير عبدالله في شرقي الأردن يشكل “ضماناً في وجه المجازفة بالتغلغل الصهيوني في المنطقة وشكلاً من أشكال الحماية لها من الامتداد الصهيوني”، وأما بالنسبة لفكرة صموئيل بإزاحة عبدالله فقد رفضها تشرشل بحجة “أنه لا يوجد سبب رئيسي وقوي للتعجيل بترحيله من المنطقة”( ).
أحدث اتجاه صموئيل عاصفة في دائرة الشرق الأوسط وفي مقر الحكومة الانتدابية في القدس، وعزز فيلبي فيما بعد هذه العاصفة عندما وصف الحالة في شرقي الأردن آنذاك بأنها “أسوأ ما تكون عليه الأحوال”، وأثار في تقرير رفعه إلى وزارة الخارجية بتاريخ (22 أيار/ مايو 1922)، إلى أن السلطات البريطانية المختصة قد توصلت إلى نتيجة هي أن انسحاب الأمير “خطوة أولى ضرورية لأي تقدم هناك”( ).
إن إقامة إدارة في شرقي الأردن من وجهة النظر البريطانية بقيادة الأمير عبدالله كانت تهدف إلى إقامة كيان سياسي في شرقي الأردن يمنع تمدد الحركة الصهيونية إليها، لاعتبارات خاصة. وتشير بعض المعلومات المتوفرة في بعض المصادر إلى أن الأمير عبدالله كان يعيش ظروفاً صعبة، فلا مقومات دولة، ولا أمن، ولا استقرار، وليست هذه مواصفات العرش حلم الذي الأمير، فقد راودته فكرة الانسحاب من شرقي الأردن، ونستدل من رسالة بعثها فيصل لأخيه زيد بتاريخ 21 كانون الأول/ ديسمبر 1921، أن الأمير عبدالله وصل به الأمر إلى حد العزم على ترك البلاد، ويقول فيصل في رسالته، “أرى سيدي عبدالله متضجر، وإني لم أفتأ من تشجيعه على المحافظة على هذه البقعة الصغيرة الحجم الكبيرة الأهمية” ويبدو من ذلك أن صموئيل نجح إلى حدٍ معين في ممارسة الضغوط المختلفة على الأمير، فقرر أن يجس نبضه بعد أن طرق مسامعه أن الأمير يفكر جدياً في الانسحاب من البلاد، فزاره في (حسبان) بالقرب من عمان في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 1921، بعد انتهاء مدة التجربة وقال له “لا بد أنك قررت العودة إلى الحجاز” فانتفض الأمير وثارت ثائرته، خاصة وأنه ينتظره ولا شك مصير سيء، إذا ما قرر ترك البلاد والعودة إلى الحجاز وهدد بالعودة إلى الثورة من جديد، فما كان من صموئيل إلا أن أبلغه بأنه على استعداد للتعاون معه هو وحكومته دائماً، فهدأ روع الأمير واستقرت حالته( ).
مع ذلك في ظل صموئيل يؤكد للإدارة البريطانية، أن الأمير لا يرغب في البقاء في شرقي الأردن، ثم ما لبث أن تراجع عن تأكيداته تلك، بعد أن فشلت محاولاته بإقناع الأمير بالانسحاب وبعد أن تأكد أن توجه الإدارة البريطانية يميل إلى التجديد للأمير عبدالله. وهنا نلاحظ أن سياسة صموئيل وكبار المسؤولين في إدارة انتداب فلسطين، الرامية إلى إخراج الأمير عبدالله والاستقلاليين هي امتداد لسياسة صموئيل وفريقه قبل إقرار الإدارة البريطانية إقامة كيان سياسي هاشمي في شرقي الأردن( ).
هذا ما يفسر سخط صموئيل وكبار المسؤولين في حكومته الانتدابية على توصيات لورنس التي تمت الإشارة لها سابقاً، وكانت سبباً مباشراً للانتقادات الغاضبة التي تضمنتها ملاحظات صموئيل على تقرير لورنس سالف الذكر، لدرجة أن صموئيل اتهم لورنس بأنه وقع عند كتابة تقريره تحت تأثير آراء السوريين المحيطين بالأمير، وشكك في اقتراحات لورنس ووصفها بأنها متناقضة وغير واقعية، إذ شدد في تقريره على ضرورة إخراج الأمير والسوريين، مفترياً على الحقيقة بإدعائه أن “معظم أهالي شرقي الأردن يؤيدون إشرافاً بريطانياً مباشراً على الإدارة المحلية في البلاد” ورأى صموئيل أن أفضل شكل لحكومة مقبلة محلياً يكون بـ “تنصيب حاكم عربي من غير البدو السوريين، مع حكام إداريين لمناطق شرقي الأردن الثلاث، يساعد هؤلاء موظفين بريطانيين، ويتسلم أمور المالية موظف بريطاني، وتوضع قوة احتياطية تحت إمرة وقيادة ضابط بريطاني”، واقترح أسماء مثل رشيد المدفعي وعبدالسلام بك( ).
نلاحظ هنا من خلال تحليل مجمل الدوافع والأهداف والتوجهات التي أثرت على الموظفين الإنجليز في تعاملهم مع شرقي الأردن، ببساطة، وجود خطين أو اتجاهين للسياسة البريطانية المستقبلية في المنطقة، كما أن أصحاب الخط المؤيد للأمير عبدالله اتجاه تشرشل – لورنس. وأصحاب الاتجاه أو الخط الثاني اتجاه صموئيل وكبار موظفي حكومة فلسطين الانتدابية – الداعي لسحب الأمير عبدالله، وإقامة حكومة محلية، كانوا جميعاً يهدفون إلى الوفاء بالتزاماتهم تجاه الحليفة فرنسا، وإبقاء فلسطين بعيدة عن الاضطرابات في المستقبل، وتسهيل مناخات مناسبة لتنفيذ وعد بلفور وكانت الدوافع التي حفزت تشرشل على تمديد فترة تسويته المؤقتة مع الأمير عبدالله، هي إدراكه لنفوذ الأمير عبدالله في المنطقة، الذي جعله يعترف بأن لدى الأمير في المرحلة الراهنة، القوة التي تمكنه من خلق اضطرابات مكلفة في المنطقة ويبقى أن نرى إذا كانت لديه القوة لمنعها وكان هذا الشرط بشكل خاص هو الذي سيحكم على نجاح الأمير أو فشله. ويعزى قرار تشرشل بالتجديد المؤقت لسلطة الأمير إلى الالتزامات البريطانية تجاه الأسرة الهاشمية وإلى هيبة الأمير ونفوذه باعتباره “صمام أمان” في المنطقة، ويمكن القول أن الثقة البريطانية ألحذرة بالأمير تعكس عدم الاستقرار السياسي في المنطقة من جهة وعدم استقرار السياسة البريطانية في المنطقة من جهة ثانية( ).
المهم في الأمر أن الأمير عبدالله اجتاز وضعه وخرج من عنق الزجاجة وأستطاع أن يتجاوز العقبات التي اعترضت طريق استمرار حكمه في شرقي الأردن، ساعده في الرؤية السياسية البريطانية التي رأت في التجديد للأمير عبدالله، مقدمات لبناء مؤسسة حكم قادرة على الإسهام مستقبلاً في حمل وتنفيذا البرنامج السياسي البريطاني في المنطقة. فقد كانت الإدارة البريطانية مهتمة بإنشاء الدولة الأردنية لأغراض تتعلق بخدمة المصالح البريطانية في منطقة الشرق الأوسط.
هنا تطلبت المرحلة الجديدة، رجل سياسة جديد خاصة بعد أن أنجز رسلان الدور المطلوب منه، وانتهت في عهده الأزمة السياسية التي تعرضت لها البلاد، إبان حكم رشيد طليع، كما رأينا سابقاً، وتمكنت الإدارة البريطانية خلال فترة حكم رسلان من تمرير كامل إجراءاتها( ).
كلف الأمير على رضا الركابي بتشكيل حكومة جديدة في 10 آذار/ مارس 1922، ونلاحظ أن التشكيل الوزاري الجديد يخلو من أردنيين أيضاً وهذا من شأنه أن يزيد حالة الاستياء التي عاشها الأردنيون بسبب استثنائهم من إدارة شؤون بلدهم، هذه الحالة التي ستأخذ تعبيرات صدامية شعبية مع الأمير وحكومته والسلطات البريطانية السياسية/ العسكرية في دولة الإمارة، كما هو الحال في انتفاضة العدوان عام 1923.
الموقف البريطاني والفرنسي من قدوم الأمير عبدالله
سارع الفرنسيون بتقوية دفاعاتهم خشية مهاجمتهم من قبل الأمير عبد الله بن الحسين ومن معه من القادة من الجيش العربي السوري المنحل ومن القادة العرب في الجيش التركي الذين انضموا إلى الثورة العربية( )، بمجرد إعلانه القدوم إلى شرق الأردن، فظهر للعيان اضطراب الفرنسيين وخصوصًا بعد ثورة حوران وجبل الدروز إذ ارسلوا مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطالبونها العمل على وقف حركات الأمير عبدالله متهمين بريطانيا بتشجيع حركاته بالأسلحة والأموال وعليه فقد استدعى اللورد كروزن وزير خارجية بريطانيا الملك فيصل مبلغًا إياه استياء بريطانيا مما يجري في شرق الأردن مطالبًا الملك فيصل والملك حسين التدخل، فارسل الملك فيصل رسالتين احداهما إلى الملك حسين والثانية إلى الأمير عبدالله يخبرهما بما حدث ويطلب في الرسالة التي بعثها إلى الأمير عبدالله وحملها صبحي الخضرا توقيف كل حركة ضد الحلفاء وخصوصًا فرنسا وستجرى مباحثات بشان القضية العربية( )، كما طالب الملك حسين من الأمير عبدالله عدم ارباك الحكومات المحلية خصوصًا أن أهالي شرق الأردن ممتنعين عن دفع الضرائب( ).
ردت بريطانيا على منشور اذاعته حكومة فلسطين جاء فيه “تروج شائعات في شرقي الأردن بأن قوة عربية تقصد مهاجمة الفرنسيين وايضًا تروج اشاعات بأنه إذا حدثت هذه الحركات فالحكومة البريطانية تستحسنها فليكن معلومًا بأن هذه الاشاعات كذب وبهتان، وإن حدثت الحركات فالحكومة البريطانية بالعكس لا تستحسنها ولا توافق عليها مطلقا بل تحتقر الذين يشتركون فيها..”( )، كما اتصلت بريطانيا مع الحكومات المحلية في مناطق شرقي وتهديدهم بعدم الاتصال والعمل مع الأمير عبدالله) ).
يبدو أن الأمير عبدالله رضي بالحل السياسي والدليل على ذلك أن إحدى الرسائل التي بعث بها أحمد مريود إلى علي خلقي بتاريخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 1920 أن الضابط البريطاني في عمان ابلغ الشريف الحارثي بما يلي “أن بريطانيا والملك فيصل وفرنسا على وشك إتمام المفاوضة بشأن القضية السورية والمفاوضة تسير سيرًا حسنًا”( ).
اما الرسالة الثانية فهي بتاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر 1920 يقول فيها أحمد مريود أن صبحي الخضرا وصل عمان يحمل توصية من الملك فيصل إلى الأمير عبدالله والزعماء الوطنيين “مآلها واحد هو أن تتوقف الحركات ضد الفرنسيين لأن المفاوضات جارية سيرًا حسنًا بين جلالته وحكومة لندن” وقالت الرسالة “إن هربرت صموئيل وغيره من الممثلين الانجليز”( )( )، يشتمون رائحة عداء نحوهم من حركة الأمير بينما الواقع أن نيات الأمير حسنه نحوهم ويريد أن لا يحصل اقل اثر لسوء التفاهم معهم” ويؤكد مريود “إذا اردنا أن ننجح بحركتنا الوطنية فيجب أن نكون مكتسبين صداقة بريطانيا”( ).
كما كانت فرنسا تكن العداء للأمير عبدالله وكانت على استعداد لأرسال قوة فرنسية لمطاردة الاشراف عبر حدود منطقة النفوذ البريطاني، لكن بريطانيا تدخلت لأنها لن تسمح لفرنسا القيام بأية اعمال عسكرية في حدود منطقة انتدابها”().
ربما نقول أن موقف بريطانيا كان مائعًا في شرقي الأردن فتركوا الأمور تسير في مجراها الطبيعي خصوصًا بعد أن شاهدوا حماس السكان والتفاهم مع مندوب الأمير عبدالله في عمان الشريف علي الحارثي”( )( )، وبعد قرار الوطنيين في عمان وجهوا دعوة للأمير عبدالله القدوم إلى عمان فأرسلوا وفدًا للحضور معه منهم سعيد خير وسعيد المفتي وكامل القصاب وعوني عبدالهادي الذي كان مقيمًا في مصر وكان حلقة الاتصال بين الأمير وهربرت صموئيل فغادر مصر إلى القدس واجتمع مع هربرت صموئيل إذ طلب أن يوصل رسالة للأمير مفادها النصح للأمير بالعودة إلى الحجاز وعدم تحريك ساكن في معان قبل اجراء مفاوضات مع تشرشلSir. W. Churchill وزير المستعمرات البريطاني في القاهرة، كما انضم إلى الأمير مظهر رسلان متصرف السلط الذي كان من معارضي دخول الأمير إلى شرقي الأردن”( )( ).
في 29 شباط/ فبراير 1921 انتقل الأمير عبد الله من معان إلى عمان بعد أن ودع الأهالي فوصلها في 2 آزار/ مارس 1921 لتبدأ أولى الخطوات لأنشاء الإمارة وإعلان أول حكومة مركزية في شرقي الأردن تحمل اسم الشرق العربية”.
مؤتمر 1921 في القاهرة
من تفاصيل الاجتماع الذي عقد على نيل القاهرة في فندق سميراميس، والذي من خلاله تم رسم مستقبل الشرق الأوسط، حيث تبادل أعضاء المؤتمر الآراء حول إنشاء عروش لحكام عرب ترضي المنطقة بحكاية الحكم العربي مع استمرار الولاء لبريطانيا. وفي هذا الخصوص يقول المؤلفان كارلماير وشارين بريساك، في كتاب (عملية اختراع الشرق الاوسط) “كان يومًا ربيعيًا من أيام آزار/ مارس.. بالتحديد يوم 12 آزار/ مارس سنة 1921. وكان المكان هو فندق سميراميس المطل على نيل القاهرة. وكانت المناسبة مؤتمرًا استغرق أسبوعين واستمد أهميته من أنه -كما يقول مؤلفا كتاب- جمع كل «صانعي العروش» ممن شاركوا في تصنيع ما أصبح يسمى في مجال السياسة والاستراتيجية باسم الشرق الأوسط.
من نجوم المؤتمر كان الكولونيل لورنس إياه الذي أرسل خطابا لشقيقه في لندن يصف ما أحاط بالاجتماع من ضروب الأبهة من حيث جمال المكان وفاخر الأثاث وسخاء الضيافة.. «لدرجة أن كل هذه الفخامة وكل هذا الترف.. جعلوني يا أخي في عداد البولشفيك (الشيوعيين)».. إلى المؤتمر المذكور جاء الاستعماري العتيد ونستون تشرشل.
في اليوم التالي لانعقاد المؤتمر جاءت «المس» -الآنسة- وهو اللقب الذي كان معتمدًا وقتها ليصدق على الإنجليزية المستعربة التي ما زال اسمها مرتبطًا في حوليات التاريخ العربي المعاصر باسم العراق.. ابتداء من إنشاء الدولة العراقية بشكلها وتكوينها المعروف وليس انتهاء بتنصيب أول ملوك العراق المعاصر وهو فيصل الأول نجل الشريف حسين قائد التحرك ضد الأتراك الذي نشب عام 1915 باسم «الثورة العربية الكبرى».
امرأة بين الرجال
كانت «المس جيرترود بل» هي المرأة الوحيدة المدعوة إلى هذا المؤتمر الفائق الأهمية.. أما النساء الأخريات فكن حاضرات على الهامش بغير دعوة رسمية ولا طبعًا مشاركة جوهرية.. بل كان حضورهن لاستكمال لقطات التصوير.. لماذا دعوها؟.. لأنها كانت أكثر المحيطين علمًا بأحوال منطقة الشرق الأوسط بل ارتبط اسمها في دوائر وزارتي الخارجية والمستعمرات في لندن بالتقرير الذي كانت قد قدمته إلى المراجع العليا بالحكومة البريطانية( ).
كان تقريرًا من 149 صفحة ويحمل العنوان التالي: استعراض الإدارة المدنّية في بلاد ما بين النهرين. كتبت التقرير بناء على طلب مكتب الهند وهو الدائرة الاستعمارية المعنية بشؤون شبه الجزيرة الهندية من جهة والطامعة في أن يمتد نفوذها لتبسطه على قضاء البصرة وجنوب العراق وسائر مناطق الخليج العربية من جهة أخرى. والغريب أن «مكتب الهند» المذكور أعلاه كان يكاد يسبح ضد التيار.. كيف؟ كان توسيع النفوذ البريطاني الاستعماري من أصقاع الهند حتى بادية الشام وشرقي الجزيرة العربية بشكل إجهاد شديد وأعباء فادحة على عاتق الإمبراطورية البريطانية التي بدأت تنوء بعد الحرب العالمية الأولى بأعباء مالية أجهدت ميزانيتها وبعدها بدأت تتبخر أحلام عتاة الاستعماريين القدامى الذين كانوا يتطلعون إلى إمبراطورية واسعة الأرجاء تكرس نفوذ لندن الإمبريالية من نيودلهي في الهند إلى القاهرة التي تقع على مفارق طرق آسيا.. أفريقيا والشرق الأوسط( ).
محاولة إرضاء العرب
المهم أن تبادل أعضاء المؤتمر الآراء حول إنشاء عروش لحكام عرب ترضي المنطقة بحكاية الحكم العربي الذاتي مع استمرار الولاء لبريطانيا -إمبراطورية الماضي وحليفة المستقبل.. فعرش العراق كان متجهًا في البداية إلى عبد الله بن الشريف حسين ثم اتجهت الأنظار إلى فيصل بن الحسين ملكًا على العراق ولقي الاتجاه تأييدًا من سير بيرسي كوكس مسؤول مكتب الهند الذي ذكر أن مواهب فيصل خلال «الثورة» على الأتراك تؤكد قدرته على تشكيل جيش عراقي على وجه السرعة.
الغريب أن دوائر وزارة المستعمرات، وعلى رأسها تشرشل نفسه، كانوا ينظرون إلى مناطق بلاد ما بين النهرين وما جاورها على أنها مجرد «صحراوات ناكرة للجميل» من هنا كان تشرشل عازفًا عن تركيز الاهتمام بتلك المناطق، رغم أنه كان مدركًا -كما يقول تقريره إلى دوائر الحكومة البريطانية في لندن- أنها تقع عند الخط الجوي الواصل إلى الهند ومسار الطيران الدفاعي عن الشرق الأوسط. وربما كان اهتمام تشرشل منصبّا بالدرجة الأولى على مصير شرقي الأردن ومناطق فلسطين.. وقد أعرب عن هذا الاهتمام في مؤتمر القاهرة، حيث شهدته قاعات فندق سميراميس وبرفقته لورنس يتناقشان في هذه القضية( ).
في كل حال أيضًا فإنه في حال رسم صورة لمؤتمر سميراميس في القاهرة جاءت معالمها كما يلي: كان المؤتمر هو ذروة ما بلغته محاولات صياغة سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية (الأولى). والطريف أن تشرشل نظر إلى أعضاء المؤتمر نفسه.. وقد قارب عددهم الأربعين وكان منهم السياسيون.. والخبراء وأهل الاستشراق والمستعربون.. والجواسيس والمغامرون.. والوزراء والسفراء.. الخ: ساعتها كان ذلك الاستعماري العتيد على إدراك تام بأن هؤلاء القوم جاءوا من بلاد الإنجليز يتقاسمون الأقطار والساحات وكأنها الغنائم أو أسلاب الحرب( ).
ساعتها لجأ ونستون تشرشل إلى ثقافته الأدبية المنحدرة من أيام العصر الفيكتوري الذي نشأ فيه.. وربما تمثلت أمام خاطره حكايات الشرق العربية وفي مقدمتها ألف ليلة وليلة ـ والمهم أن تشرشل نظر إلى المندوبين الإنجليز أعضاء مؤتمر القاهرة.. فإذا به يصفهم قائلًا: إنهم الأربعون حرامي. وكأن فندق سميراميس تحوّل في لحظة إلى مغارة علي بابا.. بعد أن ساد المؤتمر تياران أساسيان وهما تيار يدعو إلى ضم الشرق الأوسط –العراق- شبه الجزيرة إلى حكومة الهند وكان يتزعمه كوكس وويلسون. وتيار المناداة باستقلال تلك المناطق أو على الأقل إسناد إدارتها إلى شخصيات عربية بحيث تتمتع بالحكم الذاتي الذي قد يفضي إلى درجة من درجات الاستقلال وكان هذا التيار يتزعمه لورنس والمس جبرترود بل( ).كان على المس «جيرترود مرجريت لوثيان بل» أن تواصل جهودها لترجمة هذا الخيار المريح إلى سياسة ومن ثم إلى حقيقة واقعة في بغداد- العراق( ).
لما كان فيصل الأول هو الحل الأيسر لمصالح بريطانيا فقد اقتضى الأمر مخططات ومؤامرات بعضها كان متدنيًا ولكن شاركت جيرترود بل في حبكها وتنفيذها.. كيف لا تكون المؤامرة متدنية المستوى عندما يتلقى الزعيم العراقي السيد طالب النقيب دعوة من ليدي كوكس لتناول الشاي حيث قامت «المس بل» بدور المترجم بين الطرفين.. ولدى عودة الرجل إلى بيته في بغداد يتم القبض عليه واختطافه في سيارة قائد الجيش الانجليزي ثم نفيه خارج العراق إلى سيلان (سري لانكا) في انتهاك صريح سافر لتقاليد الضيافة العربية والإنجليزية على السواء.
المهم أن أصبح فيصل بن الحسين ملكًا على العراق. والمهم أيضًا أن نالت «المس بل» لقب الخاتون وقبل أن تتصور أن دانت الدنيا لها: سمعة وشهرة ومساهمة في تعزيز صرح الإمبراطورية البريطانية فوجئت بأن الملك الجديد الذي مهدت له كل السبل في بغداد.. يعارض ما طرحته هذه الاستعمارية العتيدة من ضرورة التصديق على معاهدة تؤكد هيمنة انجلترا –بالانتداب- على مقاليد الأمور وترسخ حقوقًا لبريطانيا في العراق( ).
وسط ما كان يحدث على نيل القاهرة، لم يكن تحول شرقي الأردن من نظام القبيلة إلى نظام الدولة مجرد نزهة وإنما صاحبه عبر هذه المسيرة عناءً وجهداً مبذولاً من قبل الأمير المؤسس عبد الله بن الحسين( )، والنخب التي جاءت بمعيته من الحجاز إضافة إلى دور قبائل شرقي الأردن التي ما فتئت من استخدام الوسائل المتنوعة لتحقيق هذا المنعطف والتحول التاريخي في المنطقة –إقامة حكومة وطنية في شرقي الأردن برئاسة الأمير عبد الله– الذي بدأ بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها( )( )، وقد جاء هذا المنعطف تنفيذاً لبنود مؤتمر القاهرة( )، ومن بعده مقررات اجتماع القدس في مارس/ آذار 1921، التي استندت لجهود الأمير التاريخية وتكللت بتعديل صك الانتداب الخاص بفلسطين للنص على استثناء شرقي الأردن من أحكام وعد بلفور الشهيرة.
لقد كان لتأسيس إمارة شرقي الأردن الأثر الكبير في نفوس أهلها وذلك لتثبيت هويتهم الخاصة التي تأصلت في مبادئ الثورة العربية الكبرى، التي كانت قد انطلقت في العاشر من يونيو/ حزيران عام 1916 على يد الشريف الحسين بن علي الجد الأكبر للملك عبد الله الثاني ابن الحسين التي كان قد أعلنها ثورة نهضوية من أجل وحدة وحرية واستقلال للعرب.
بالعودة لبدايات تأسيس الجيش العربي، نعود إلى العام 1921( )، حيث كان قد شكل من رجال الثورة العربية الكبرى الذين خرجوا مع الأمير عبد الله بن الحسين من الحجاز إلى معان( )، حينما كان هم الأمير أن يكون لشرقي الأردن جيش يحمي ثغوره( )( )، وكانت نواته من القــوة العربية المحدودة التي جاءت بمعيته من الحجاز وكان ذلك في 10 أكتوبر/ تشرين الثاني 1923 عندما أطلق سمو الأمير على هذه القوات اسم “الجيش العربي”.