لماذا لم تَرُد فصائل المُقاومة في فِلسطين وخارجها على مسيرة الأعلام؟

الأربعاء 01 يونيو 2022 05:44 م / بتوقيت القدس +2GMT
لماذا لم تَرُد فصائل المُقاومة في فِلسطين وخارجها على مسيرة الأعلام؟



كتب عبد الباري عطوان :

دعونا نعترف بأنّ مسيرة الأعلام الإسرائيليّة في القدس المحتلّة حقّقت مُعظم أغراضها، إن لم يكن كلّها، وأنّ المُقاومة لها، وللمُشاركين فيها (عددهم بالآلاف)، اقتصرت على أهل الرباط العُزّل، ولم تَفِ فصائل المُقاومة داخل فِلسطين المحتلّة، وخارجها، بوعودها بالرّد على هذا الاجتياح الاستِفزازي بالصّواريخ على غِرار ما حدث للمسيرة الأخيرة قبل عام، إيفاءً للعهد، نقولها وفي حلقنا مرارة.
أكثر عبارة تُصيب “الأغلبيّة السّاحقة” في الأمّة العربيّة والإسلاميّة، التي وقفت، وتقف، وستَظل مع محور المُقاومة، وفصائله، ودوله بالإحباط والانكِسار هي “الرّد في المكان والزّمان المُناسبين”، ومن المُؤلم أننا سمعنا هذه العبارة تتردّد على لسان قادة المُقاومة، والنّاطقين باسمهم في قِطاع غزّة، لتبرير عدم تنفيذ الوعود بالرّد التي تصاعدت بشَكلٍ كثيف قبيل انطلاق مسيرة الأعلام، وجعلتنا نعتقد أنّنا على حافّة نصرٍ قريب يَضَعُ حدًّا لغطرسة المُستوطنين وقادتهم ويؤكّد عُروبة القدس ويُحافظ عليها.
صحيح أن مسيرة الأعلام تمّت بحماية أكثر من ثلاثة آلاف جُندي إسرائيلي مُدجّجين بالسّلاح، وصحيح أيضًا أن هؤلاء اعتدوا على أهل الرباط الذين تصدّوا لها، واستخدموا العُنف والرصاص ممّا أدّى إلى إصابة 89 شخصًا واعتقال المِئات، ولكنّ الصّحيح أيضًا أن رئيس وزراء دولة الاحتِلال نفتالي بنيت خرج قويًّا، ووزير أمنه عومر بارليف أيضًا الذي قال مُتباهيًا “إن قرار المُضيّ في المسيرة كان صائبًا للحِفاظ على قوّة الرّدع، والاستِسلام للتّهديدات سيُؤدّي إلى مواقف أكثر خُطورةً”، وتبخّرت كُلِّيًّا أو جُزئيًّا انتِصارات وقواعد الاشتباك الجديدة التي فرضتها معركة “سيف القدس”.
***
لا نعرف حتى هذه اللّحظة لماذا تراجعت قيادة الفصائل في قِطاع غزّة، وحركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي” على وجه الخُصوص، عن تنفيذ تهديداتهما بالرّد بالقُوّة المطلوبة على هذه المسيرة على غِرار ما حدث في العام الماضي، وكُل ما سمعناه، وباقتضابٍ شديدٍ جدًّا على لسان السيّد إسماعيل هنية، رئيس الحركة والمتحدّث باسمها، بأنّ ما جرى في مدينة القدس والمسجد الأقصى “لن يُغتَفر وأن الرّد سيكون في المكان والزّمان المُناسبين”.
كلمة السِّر التي قد تُسلّط بعض الأضواء على أسباب عدم الرّد جاءت على لِسان السيّد طاهر النونو المتحدّث باسم الحركة في القِطاع عندما قال في تصريحٍ رسميّ “بعض الأطراف (لم يُسمّها) بدأت في الاتّصال برئيس الحركة (هنية) من أجل احتواء الموقف وعدم تدهور الأمور أكثر ممّا جرى حسب قولهم”، ممّا يعني، وحسب فهمنا، أن هذه الأطراف خاصَّةً دولة قطر التي يُقيم فيها السيّد هنية وبعض قادة الحركة، ومِصر المسؤولة عن معبر رفح، هي التي مارست هذه الضّغوط على حركة حماس بعدم الرّد تلبيةً لمطالبٍ أمريكيّةٍ وربّما إسرائيليّة أيضًا، ولكن لماذا لم يُسَمّ السيّد النونو هذه الأطراف؟
كُنّا وما زلنا نتمنّى لو أن السيّد هنية، وحركة حماس بشَكلٍ عام، قالوا للوُسطاء العرب لماذا تُريدوننا أن نصمت على الاعتِداءات ومُؤامرة تقسيم الأقصى زمانيًّا ومكانيًّا، ونحن الضّحايا ونُدافع عن كرامتكم ومُقدّساتكم، ولا تطلبوا من أمريكا ودولة الاحتِلال بإيقاف مسيرة الأعلام الاستفزازيّة؟ ولماذا نحن الذين يجب أن نتنازل دائمًا؟
أنتوني بلينكن طلب من بينيت إيقاف هذه المسيرة، وأصدرت محكمة إسرائيليّة حُكمًا يُؤيّد هذا الطّلب تَجَنُّبًا لمُضاعفاتها الأمنيّة، ولكن بينيت قاوم هذه الضّغوط حرصًا على حزبه وسُمعة أجهزته الأمنيّة، ومصداقيّته القياديّة، فلماذا لم يفعل قادة الفصائل في قِطاع غزّة الشّيء نفسه تمامًا وهُم الذين هزّوا أمن دولة الاحتِلال بصواريخهم، وعزلوهم عن العالم، وفضَحوا هشاشة جيشها ومنظومات القبب الحديديّة، وجعلوا نِتنياهو يهرع إلى أمريكا طالبًا الوِساطة، والتدخّل لدى القِيادة المِصريّة مُتَوسِّلًا لوقف إطلاق الصّواريخ.
السُّؤال الذي يطرح نفسه بقوّة وكُل ما يتفرّع عنه من تساؤلات عن الثّمن الذي حصلت عليه قِيادة الفصائل مُقابل هذا “التّجاوب” مع ضُغوط الوُسطاء العرب وعدم إطلاق الصّواريخ، وحتى لو لم يكن هذا التّجاوب مجّانيًّا وهو ما نُرجّحه، هل يستحق (الثّمن) خسارة المُقاومة لمِصداقيّتها وتدمير مُعظم إنجازات معركة “سيف القدس” العظيمة؟ وهل ننسى أن إسرائيل لم تلتزم مُطلَقًا بكُل شُروط الوِساطات السّابقة خاصَّةً برفع الحِصار وإعادة الإعمار؟
ربّما تكون قيادة حركة “حماس” نالت رضاء الوسطاء العرب، ولكنّ المُؤكّد أن خسارتها في أوساط نسبة كبيرة من الفِلسطينيين والعرب والمُسلمين من داعميها كانت كبيرة جدًّا، مثلما أثارت حالةً من الغضب في صُفوف محور المُقاومة ودوله وأذرعه، وخاصَّةً ذراعه القويّ في لبنان، ونحن نتحدّث هُنا عن معلوماتٍ مُؤكّدة في هذا المِضمار، ولكنّ المُتحدّثين في هذا المحور يلتزمون بفضيلتيّ الصّمت وكظم الغيظ كعادتهم دائمًا عندما يتعلّق الأمر بالمُقاومة الفِلسطينيّة، والأخطاء التي ترتكبها، وفي الفَمِ ماء.
توقّعنا أن يخرج علينا السيّد هنية، أو القائد يحيى السنوار، قائد “حماس” في قِطاع غزّة بخطاب، أو بيان رسمي مُطوّل يرد فيه على الكثير من التّساؤلات المطروحة حول أسباب عدم الرّد، وأُخرى تتردّد بقُوّة عن وجود خِلافات بين جناحين في الحركة: الأوّل أعدّ خطّةً للرّد بقوّة، وكان مُصِرًّا عليها، وآخَر كان يُطالب بتأجيله وحتميّة الاستِجابة لضُغوطِ الوسطاء، وكانت كلمة الأخير هي الفائزة في نهاية المطاف حمايةً لوحدة الحركة وتماسكها.
لا يُخامرنا أدنى شك بأنّ المُقاومة ما زالت قويّة وتتمتّع قيادتها بالحكمة والشّجاعة في الوقت نفسه، وأن مسيرة الأعلام الاستيطانيّة كانت حلقةً من حلقاتِ حرب تحرير ومُواجهات مُستمرّة، قد يتم تعويض عدم الرّد عليها بآخر أقوى، وأكثر فعاليّة، وإيلامًا، ولكنّ المُصارحة والشفافيّة مطلوبتان، فليس لدى المُقاومة ما يُمكن أن تخسره هذه الأيّام، حيث يعيش العدوّ الإسرائيلي أضعف أيّامه، وحُلفاؤه مُتورّطون في حربٍ وجوديّة خاسرة في أوكرانيا، ولا يُعيرونه ومُقامراته أيّ اهتمام.
***
مُشكلتنا الأزليّة كعربٍ وفِلسطينيين وحركات مُقاومة هُم الوسطاء من أبناء جِلدتنا تتحكّم بهم أمريكا، أو ما تبقّى من قوّتها، بـ”الرّوموت كونترول” وعن بُعد، وبات بعضهم أكثر حرصًا على إسرائيل وأمنها، وسلامتها من حرصهم على أشقّائهم العرب والمُقدّسات العربيّة والإسلاميّة في أكناف بيت المقدس.
فصائل المُقاومة في قطاع غزّة أخطأت في رأينا بعدم الرّد، أو حتى تأجيله، أيًّا كانت الأسباب، والاستماع إلى سماسرة أمريكا وإسرائيل الذين يستغلّون المُقاومة من أجل حماية مصالحهم وعُروشهم، وعليها (أيّ الفصائل حماس والجهاد تحديدًا) أن تُصَحِّح هذا الخطأ بأسرعِ وقتٍ مُمكن فهذا هو المكان والزّمان المُناسبين، وكلّنا ثقة أنها قادرة على ذلك لاستعادة قوّة الرّدع وبشَكلٍ أقوى من أيّ وقتٍ مضى، وصديقُكم من صدَقكم القول.