باتت «الأزمة الأوكرانية» أكبر من مجرد الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتي اندلعت في ٢٤ شباط الماضي، بعد أن عبرت القوات الروسية الحدود إلى أوكرانيا في ثلاثة محاور عسكرية. المحور الأول شمالاً هدفه مدينة كييف العاصمة، والثاني شرقاً إلى ميناء ميروبول على بحر «أزوف» المتصل بالبحر الأسود، والثالث جنوباً يهدف إلى فصل أوكرانيا عن البحر الأسود والاستيلاء على ميناء «أوديسا». المعركة كانت شبه محسومة لصالح الاتحاد الروسي تبعًا لتوازن القوى العسكري بين دولة عظمى لديها سبعة آلاف رأس نووي، ودولة أقل من المتوسطة وأسلحتها من بقايا حلف وارسو غير المأسوف عليه. المطالب الروسية من الحرب كانت تطاول السحاب ما بين نزع سلاح أوكرانيا إلى التخلص من القيادة «النازية» للدولة، مع تعهد ملزم ومكتوب من حلف الأطلنطي ببقاء أوكرانيا بعيدة عن الحلف. وقتها بدا موقف أوكرانيا نوعًا من المغامرة غير المحسوبة، التي سرعان ما سوف تنقشع عنها الغمامة الوطنية تحت وقع الأحذية الروسية. ولكن الآن- بعد قرابة ثلاثة شهور من بداية الحرب- تغير الواقع ليس فقط في توازن القوى الأوكراني الروسي، وإنما أكثر من ذلك على الساحة العالمية. ومن ناحية فإن الحرب طالت أكثر مما كان متوقعاً، وبات المتوقع أنها سوف تطول أكثر مما هو متخيَّل. ومن ناحية أخرى لم تنجح روسيا في تحقيق أهدافها، اللهم إلا، وبعد تكلفة عالية، نجاحها في الاستيلاء على ميروبول وأجزاء من إقليم الدونباس، الذي تشغله الأقلية الناطقة باللغة الروسية. لم يكن ممكنًا الاستيلاء على كييف ولا تدمير أوديسا، وبدلاً من عزل أوكرانيا عن البحر الأسود، فإن البحر الأسود صار مصيدة كبيرة لقطع من الأسطول البحري الروسي.
..وكانت النقطة التي غفل عنها الجميع أن المخابرات الأميركية عرفت بالخطط الروسية، وأعلنتها على الجميع لعل الإعلان يمنع الحرب، ولكن ما حدث أنها حدثت، بعد ثبوت اختراق القيادة العسكرية، وربما السياسية أيضًا، الروسية.
هذا الفارق المخابراتي لعب دورًا مهمًّا فى إحباط تنفيذ الأهداف الروسية لأنه كما تقول المعلومات التى حصلت عليها المخابرات المركزية بات متاحًا للقيادة الأوكرانية، التى كانت هى الأخرى واحدة من مفاجآت الحرب بصمودها، الذى سوف يتحول إلى ملاحم فى السينما العالمية. وعندما تجتمع المعلومات مع التكنولوجيا العسكرية الدقيقة فى اليد الأوكرانية فإنهما تولدان قدرات عسكرية كبيرة فى تخطيط الدفاع، وشنّ الهجمات، والتنبؤ بالتحركات العسكرية الاستراتيجية من جبهة إلى أخرى. ثلاثة أمور ذاعت حتى الآن فى قلب مسار الحرب المتوقع: أولها تحديد مواقع القوات الروسية وحجمها وما تواجهه من مصاعب لوجستية سبّبها طول خطوط الإمداد وعدم الكفاءة؛ وثانيها تحديد مواقع القطع البحرية الروسية- بما فيها «موسكوفا»- فى البحر الأسود وما تبعها من قطع بحرية وتدميرها؛ وثالثها تحديد مواقع ١٢ جنرالًا روسيًّا وتصفيتهم، ما كان سببًا في خلل قيادي أثناء العمليات العسكرية. خلاصة كل ذلك كانت تصاعد القدرات الأوكرانية ليس فقط على الصمود، وإنما دفع القوات الروسية إلى التراجع أو رفع تكلفة دخولها إلى بعض المدن، وفي بعض المواقع باتت القوات الأوكرانية على الحدود الروسية، والقيام بإحدى عشر عملية عسكرية عبر هذه الحدود دون إعلان.
السلاح الاقتصادي وُضع في الاختبار، وبالطبع لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام هذا السلاح، ولكنها هذه المرة كانت من الشمول ما لم يحدث من قبل. لم تكن الولايات المتحدة وحدها، وإنما معها دول حلف الأطلنطي ودول الاتحاد الأوروبي ودول قريبة من المعسكر الغربي. هذا السلاح استخدمته روسيا هي الأخرى تجاه الدول الأوروبية، التي تعتمد على موسكو في مجال الطاقة، وكان ذلك سببًا في الصمود الروسي إزاء استخدام المقاطعة والعقوبات. وأكثر من هذا أن استخدام السلاح الاقتصادي سبّب أضرارًا فادحة للاقتصاد العالمي ورفع الثقة عن المبادلات الاقتصادية العالمية. وكان نتيجة ذلك أن دولًا رفضت الانصياع إلى ضغوط المعسكر الغربي واستمرت في التعامل مع روسيا، ومن بينها دول كبرى مثل الصين والهند، ودولًا أخرى استنكرت الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكنها استنكرت أيضًا التلاعب بالاقتصاد العالمي. وأكثر من ذلك فإن الأضرار الاقتصادية وصلت إلى الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، التي أُجبر فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي على مواجهة حالة التضخم الكبير عن طريق رفع سعر الفائدة، ومع الأذى الذي ألَمَّ بسلاسل الإمداد العالمية تعطّلت صناعات كثيرة، ومن بينها غذاء الأطفال.
ما لم يرد به قول قبل انتقال الأزمة إلى الحرب كان حدوث تغيرات «جيو استراتيجية» سوف تجرى نتيجة الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية ولم تتوقعها القيادة الروسية. كان الرئيس بوتين قد وضع قضية انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلنطي في مقدمة الأسباب الداعية إلى استخدام القوة العسكرية. كان استنكار ذلك ممتدًّا حتى الولايات المتحدة ذاتها حينما قام المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة بيرني ساندرز، الداعي إلى تفهم رد الفعل الروسي إزاء امتداد حلف الأطلنطي إلى أوكرانيا استنادًا إلى ما قامت به الولايات المتحدة عندما اكتشفت وضع الاتحاد السوفيتي صواريخ نووية فى جزيرة كوبا القريبة، فيما عُرف بعد ذلك بـ«أزمة الصواريخ الكوبية». ولكن ما لم يرد أثناء هذا النقاش أن العلاقات الدولية لا تُحركها فقط القيادات السياسية، وإنما أيضًا ما يرد فيها من أفعال لم ينتوِها أحد، على حد تعبير عالِم السياسة الدولية كينيث والتز. وجاء ذلك عندما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا ليس إلى التخلص من حلف الأطلنطي في دولة جوار، وإنما قيام دولتي جوار- فنلندا والسويد- بتقديم طلب إلى الحلف، في ١٨ أيار الجاري، بالانضمام. الدولتان أعلنتا «الحياد» أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما أخذت الدنمارك والنرويج من الدول الإسكندنافية جانب الحلفاء، فلم يمس دمار الحرب السويد، ورغم استيلاء روسيا على ١٠٪ من الأراضي الفنلندية فإن الدولة نفسها نجَت من بعض ويلات الحرب؛ بينما على الجانب الآخر سقطت الدنمارك والنرويج تحت جنازير الدبابات الألمانية. بعد الحرب انضمت الدولتان إلى حلف الأطلنطي، بينما التزمت فنلندا والسويد بالحياد، كل حسبما ذاق من ويلات الحرب. ولكن هذه المرة قررت هلسنكي وستوكهولم أنهما لن تتركا أقدارهما للمصادفات، وستنضمان إلى الحلف رغم المعارضة التركية، التى أرادت انتهاز الفرصة والضغط على البلدين للتخلص من المعارضة الكردية.
المُقدَّر هنا أن العقبة الكردية لن تكون عقبة أمام انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الأطلنطي، ولكن المؤكد الآن أن الأوضاع الاستراتيجية الروسية أصبحت أكثر سوءًا مما كانت عليه قبل الحرب. كانت الشكوى الروسية هي الخوف من امتداد الحلف إلى دولة وحيدة، وهى أوكرانيا، والآن سوف يكون الحلف على الحدود الفنلندية أو ١٣٦٠ كم مع روسيا، بينما السويد وراءها مباشرة؛ ومهما جرى من تسويات فإن أوكرانيا سوف تظل على عدائها.