قد يكون هنالك خلاف بين المحللين السياسيين ما إذا كانت الحرب الروسية على أوكرانيا حربا اختيارية أم اضطرارية، لكن الحقيقة وباعتراف الغرب نفسه أن تجهيز القوات الأوكرانية تدريبا وتسليحا بدأ منذ العام ٢٠١٤، وتحديدا بعد ضم روسيا لمنطقة القرم واعترافها بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك بعد انفصالهما عن أوكرانيا وبدعم عسكري روسي.
في استراتيجيات الأمن القومي الأميركي ظهرت روسيا والصين كخصوم رئيسيين للولايات المتحدة مع بداية عهد الرئيس أوباما، الذي رأى أن مصادر الولايات المتحدة المالية والعسكرية والدبلوماسية يجري تبديدها في منطقة الشرق الأوسط بينما المطلوب من أميركا وللحفاظ على تفردها في العالم عسكريا واقتصاديا وسياسيا إضعاف خصومها الذين بدأ نجمهم في الصعود في العقد الأول من هذا القرن وهما روسيا والصين.
ما تبع ذلك كان واضحا ولم يغيره تبدل الإدارات الأميركية لاحقا. بدأ الخروج الأميركي من الشرق الأوسط في عهد أوباما الذي أنهى الوجود العسكري في العراق. ولا يغير ذلك حقيقة أن أميركا أعادت إرسال بضعة آلاف من جنودها للعراق بعد ظهور داعش. تبع ذلك اتفاق وقعه الرئيس ترامب مع حركة طالبان على انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وهو اتفاق نفذه الرئيس بايدن قبل أسابيع من الموعد المقرر للانسحاب.
الانسحاب العسكري من الشرق الأوسط رافقه تكثيف أميركي عسكري للعمل على الجبهتين الروسية والصينية.
على الجانب الروسي، كان تسليح وتدريب الجيش الأوكراني إحداها، لكن الأهم من ذلك كان مطالبة أوروبا بزيادة إنفاقها العسكري على جيوشها لتصل إلى نسبة ٢٪ من ناتجها القومي (هذا المطلب ظهر في عهد أوباما وركز عليه ترامب لاحقا)، وتكثيف الوجود العسكري لحلف الأطلسي في البحر الأسود وبعض دول أوروبا الشرقية، والمحيط المتجمد الشمالي.
على الجانب الصيني، كان هنالك تكثيف في تسليح تايوان إذ بلغت قيمة الأسلحة التي سلمتها الولايات المتحدة لتايوان في العام ٢٠٢١ أكثر من خمسة مليارات دولار. بالإضافة لذلك، كثفت أميركا من وجودها العسكري في شرق آسيا وأرسلت غواصاتها وحاملات طائراتها لبحر الصين، وفوق ذلك كله قامت بتشكيل تحالف «كواد» المكون من استراليا واليابان والهند والولايات المتحدة.
تحالف «كواد» بدأ قبل سنة من ولاية الرئيس أوباما الأولى العام ٢٠٠٨، وكان قوة الدفع فيه رئيس الوزراء الياباني الذي دعا لاجتماع أمني بين الدول الأربع
وإلى تدريبات بحرية مشتركة. لكن استراليا خرجت منه بعد سنة لأنها رأت فيه تحالفا ضد الصين لم ترغب فيه في حينه، حيث كانت الأخيرة تستثمر عشرات المليارات فيها.
لكن وبضغط أميركي عادت استراليا إلى هذا التحالف في عهد الرئيس ترامب وانضمت إلى التدريبات والمناورات البحرية العسكرية المشتركة.
الرئيس بايدن، اعتبر مواجهة الصين على رأس أولوياته، لهذا قام بعقد لقاء قمة مع دول «الكواد» على الـ»زووم» بعد أسابيع قليلة من استلامه لمهامه في كانون الثاني ٢٠٢١، ثم قام بعقد لقاء قمة آخر بينهم في البيت الأبيض في شهر أيلول ٢٠٢١.
مما تقدم، تبدو الاستراتيجية الأميركية لاحتواء روسيا والصين كما يأتي:
توريط أوروبا في المواجهة مع روسيا وتوريط الهند واليابان وأستراليا في المواجهة مع الصين. أميركا قد تنفق بداية بعضا من مصادرها في المواجهة مع الطرفين، لكن عندما تحصل المواجهة فإن «الحلفاء» الذين تورطوا سيكون عليهم وحدهم تحمل تكاليف حروبهم بالقليل من الاسناد الأميركي.
النتيجة اضعاف روسيا والصين وجعل حلفاء الولايات المتحدة (أوروبا وأستراليا والهند واليابان) أكثر اعتمادا على الولايات المتحدة، وبالتالي تربع الإمبراطورية الأميركية على عرش العالم خلال القرن الحالي.
ما نكتبه هنا يعرفه الروس والصينيون والأوروبيون وحلفاء أميركا في المحيطين الهادي والهندي، وهذا بالطبع قد يدفعهم لاتخاذ مواقف مغايرة لما تريده أميركا. مثلا أن تعمل أوروبا بقوة على منع توسع الحرب في أوكرانيا، وأن ترفض الهند، وهي الدولة الأهم في المواجهة مع الصين، أن تكون طرفا في تحالف أمني ضد الصين.
لكن في السياسة لا يسير أي شيء بالنوايا، ولكن بالحقائق على الأرض. الحرب على أوكرانيا قد تتوسع إذا ما رأت روسيا أن الانتصار محكوم بوقف إمدادات الغرب للسلاح لأوكرانيا مثلا. والهند قد تجد نفسها مدفوعة لتعميق تحالفها الأمني مع دول «الكواد» لحسابات خاصة بها، مثلا تجدد اشتباكاتها مع الصين التي حدثت العام ٢٠١٩ في منطقة الهمالايا.
الأهم هنا هو ما يَحفره هذا السلوك الأميركي في الوعي الروسي والصيني.
روسيا اعتبرت تسليح أوكرانيا وتقديم الوعود لها بالانضمام للناتو تهديدا لمصالحها واجتاحتها قبل أن تتحول إلى دولة عضو في الناتو، لا تتمكن بعدها روسيا من المغامرة بإعلان الحرب عليها.
الصين قد تفعل نفس الشيء مع تايوان. الصين لا يمكنها أن تقبل باستمرار تسليح تايوان ولا يمكنها إلا أن ترى ما تقوم به الولايات المتحدة من تحالفات عسكرية ومناورات بالقرب من حدودها إلا تهديدا لأمنها وهي لذلك قد تلجأ إلى اجتياح تايوان وإعادتها إلى الصين.
والحقيقة أن هذا سيكون أسهل بكثير مما تقوم به روسيا في أوكرانيا.
على عكس أوكرانيا الدولة العضو في الأمم المتحدة، تايوان ليست دولة مستقلة ولا يوجد بينها وبين دول العالم علاقات دبلوماسية أو اتفاقات عسكرية حيث قطعت دول العالم العلاقات الدبلوماسية معها العام ١٩٧١ عندما اعترفت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بأن الصين الشعبية هي من يمثل الصين وليس تايوان التي كانت هي الدولة التي يتم التعامل معها باعتبارها من يمثل الصين. ولأن تايوان ليست دولة، فلا يسري عليها أي من قوانين الأمم المتحدة المتعلقة بالدول.
اليوم هنالك فقط ١٦ دولة تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان جميعها ممن لا يعرفه أحد مثل دولة بيلايز ودولة بالو، وأربع فقط يعرفها الناس وهي: نيكاراغوا، وغواتيمالا، وهندوراس، وهايتي.
وعلى عكس أوكرانيا التي لها حدود طويلة مع دول أوروبية تستخدمها الأخيرة لتوريد السلاح لها، تايوان جزيرة في البحر تبعد عن الصين الشعبية أكثر بقليل من مائة ميل وتبعد عن أقرب دولة يمكنها مساندتها وهي اليابان مثلا أكثر من سبعمائة ميل.
وفي حين أن الدول الغربية تعاني بعض الشيء من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها هي نفسها على روسيا، فإن هذه الدول لا يمكنها أن تحتمل فرض عقوبات اقتصادية على الصين، التي تسمى اليوم «مصنع العالم».
الصين هي الشريك التجاري الأول لأوروبا وأميركا وللعديد من دول العالم وأي عقوبات اقتصادية عليها المتضرر الأكبر منها ليس الصين فقط، ولكن الدول التي تفرض العقوبات.
وعالميا تتبنى الصين تجاه تايوان ما تسميه سياسة «الصين الواحدة» وهو ما يعني أن تايوان هي جزء من الصين الشعبية، وهذه السياسة توافق عليها جميع دول العالم وهي لذلك لا تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان.
الظرف بالتالي مُوات للصين لإعادة تايوان لها، وهو ما قد تفعله الصين استباقا لما تقوم به الولايات المتحدة من محاولة لحصارها بالتحالفات والتسليح لتايوان والوجود العسكري المباشر في مناطق تعتبرها الصين جزءا من نفوذها الحيوي.