تكمن أهمية انتخابات جامعة بيرزيت في نقطتين، الأولى إجراؤها، أي أهمية تربية الطلبة على نهج الديمقراطية، وتشريبهم قيمها، وممارستهم الفعلية لفكرة تداول السلطة، والاحتكام لصندوق الاقتراع. وهذا الجزء تحقق تماماً، ليس في بيرزيت وحسب، بل وفي سائر الجامعات الفلسطينية (في الضفة الغربية) التي اعتادت تنظيم دوراتها الانتخابية بشكل دوري وشبه منتظم.
والثانية: تنشئة الطلبة على مبادئ الحوار العقلاني، والتعددية، وقبول الآخر (المختلف بالضرورة)، في أجواء تضمن حرية التعبير. وهذا الجزء تحقق نسبياً، ويحتاج إلى المزيد من الجهد والتنظيم، فالمناظرات التي سبقت الانتخابات (وإن كانت شكلاً متعارفاً عليه في العملية الانتخابية)، إلا أنها لم ترتقِ حتى الآن إلى المستوى المطلوب، وما زال يطغى عليها الجانب الشعاراتي والكلام الإنشائي، والنبرة الخطابية الهجومية، وما زالت تتضمن آليات التخوين والاتهام والحط من قيمة الآخر، بل إنها أتت وكأنها تكرس وتغذي الانقسام. وما زال طلبتنا (ومجتمعنا بشكل عام) غير متقبلين للآخر، ومتقبلين على مضض وبعقلية تبريرية (وأحياناً تشكيكية) لنتائج الانتخابات في حالة الخسارة، وبعقلية ثأرية انتقامية في حالة الفوز.
لكن انتخابات بيرزيت ليست أهم من انتخابات بقية الجامعات، ولا أكثر أهمية من انتخابات النقابات والبلديات، مع أن المجتمع يتابع كل سنة انتخابات جامعة بيرزيت بالذات باهتمام بالغ، والبعض يرى فيها انعكاساً لرأي الشارع الفلسطيني واتجاهاته، وكأنها استفتاء شعبي على قوة ومكانة الأحزاب والفصائل الفلسطينية على الساحة. وبرأيي في ذلك بعض المبالغة، وهي وإن كانت تعطي مؤشرات عامة، إلا أنها لا تعكس بالدقة المطلوبة الخارطة السياسية الداخلية، وحتى استفتاءات الرأي التي تجريها جهات متخصصة هي أيضاً تفتقر للدقة المطلوبة، وأحياناً تعطي صورة خادعة. فالاستفتاءات تكون دقيقة في المجتمعات المستقرة والتي اعتادت على الممارسة الديمقراطية والحياة الحزبية، بينما في مجتمع غير مستقر، وتحت الاحتلال، وذي طبيعة متحركة، وتلعب فيه فواعل دولية وإقليمية، تكون الأفعال وردات الأفعال والمواقف غالباً غير متوقعة ومفاجئة، ومتقلبة على الدوام، وهذه الظاهرة تكون أكثر إشكالية واضطراباً في مجتمعات الطلبة (أعمارهم بين 18 و23 عاماً)، ففي هذه المرحلة يتسم الشبان بالاندفاع والتأثر السريع (وجميعنا مر بتلك المرحلة، حيث كنا نظن أنفسنا حينها في قمة الحكمة، متوهمين أننا بلغنا ذروة النضوج).
وبرأيي كانت جنازات الشهيدة شيرين أبو عاقلة هي الاستفتاء الحقيقي على ما مثّلته شيرين واستشهادها من رموز ومعانٍ. واللافت للنظر أنها لا تلتقي كثيراً مع منطلقات ونهج قوى الإسلام السياسي، بل إنها في بعض مكوناتها تتعارض معها، بدليل ردات الفعل المتشنجة والسلبية على قضية الترحم عليها.
وحتى نكون واقعيين، وبعيداً عن الانفعالات العاطفية، فإن انتخابات أي جامعة لن تؤثر بشكل حقيقي وفعال على مجريات الصراع، ولن تغير موازين القوى، فسواء فازت «حماس» أو «فتح» سيظل الاحتلال جاثماً فوق صدورنا، وسيظل واقع الانقسام يشلّ أيّ محاولة للتقدم، ويعطل أي جهد للتغيير. عموماً هذه أساساً ليست وظيفة انتخابات مجالس الطلبة.
انتخابات مجلس الطلبة شأن يهمّ الطلبة والجامعة أولاً وأخيراً، ومن المفترض أنها تنافس على تمثيل الطلبة، وخدمتهم، والارتقاء بواقعهم، ومحاولة حل مشاكلهم ببرامج مطلبية. ومع ذلك من المستحيل تفريغها من مضامينها السياسية، وهذا ليس مطلوباً، وبنفس القدر ليس مطلوباً حصرها في الجانب السياسي فقط، وتحميلها أكثر ممّا تحتمل.
سيفرح أبناء «حماس» ومؤيدوها ومناصروها بالنتيجة (وهذا حقهم)، وسيقولون: إنها استفتاء على شعبية الحركة وخيار المقاومة. وهذا الكلام يقولونه قبل الانتخابات وبعدها ومن دونها. وسيمتعض أبناء «فتح» ومناصروها، ومنهم من سيتقبل النتيجة على مضض، ومن سيبرر الهزيمة. وفي النهاية لن يطرأ أي تغيير على أعداد أبناء ومناصري الحركتين، وسيظل كل طرف متمترساً وراء قناعاته. «حماس» لن تغير موقفها المتعنت والمراوغ من إنهاء الانقسام، ولن تغير أسلوبها في حكم قطاع غزة. أما «فتح» فلن تتعلم من درس الهزيمة، لأنها لم تتعلم من الدروس السابقة القاسية، ولم تتخلص من كل الفاسدين. والأهم أن الفصيلين لم يُظهرا حتى الآن أيّ مؤشرات مقنعة على تغيير نهجَيهما، والاستفاقة من سباتهما، والخروج من حالة التكلس والترهل.
صحيح أن الانتخابات مهمة وضرورية (في الجامعات، والنقابات، والبلديات، والتشريعي، والرئاسة..) ولكن ستكون كارثة إذا صار هدف «فتح» الأول والأهم (أو «حماس») هو الفوز في الانتخابات.. وننسى أنّ هدفها الأساس هو التحرير، وتصعيد المقاومة الشعبية، والاشتباك مع العدو.. وما عدا ذلك تفاصيل.
هذا ليس تقليلاً من شأن الانتخابات، ولكنها دعوة لقراءة نتائجها بطريقة موضوعية، والاستفادة وأخذ العبر.
أغلبية المعلّقين على خسارة «فتح» قالوا: إن الشبيبة دفعت أثمان أخطاء السلطة (قتل نزار بنات، قمع التظاهرات، التعيينات، وتوزيع المناصب في السلطة بشكل فاسد، أخطاء فردية كثيرة وتصريحات غير موفقة لقيادات كبيرة، خطاب إعلامي هزيل، مواقف سياسية ضعيفة، التنسيق الأمني) وهذا صحيح، وهنا أطرح الأسئلة التالية: كيف فازت «فتح» في انتخابات بيرزيت في عدد من السنوات السابقة؟ وكيف فازت في انتخابات نقابة المحامين، وفي معظم وأهم البلديات، رغم وجود نفس الأخطاء؟
وأيضاً، لماذا لم يعاقب جمهور الناخبين «حماس» على أخطائها وممارساتها في غزة؟ والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا، ولكنها معروفة لمن أراد الحقيقة، وهي أخطاء كارثية ربما أسوأ وأخطر من أخطاء «فتح» والسلطة؟!
باعتقادي الإجابة في نقطتين، الأولى: الدعاية المدروسة والممنهجة التي نظمها خصوم «فتح» ومعارضوها على مدى السنوات السابقة، بمشاركة فضائيات عملاقة، وفيها تم التركيز على أخطاء السلطة، ولكن للأسف بمنهج مضلل وديماغوجي، تضمن الكثير من المبالغات والتزوير، مدفوعاً بثارات وأحقاد، وأيديولوجية حزبية إقصائية.
الثانية: تتعلق بالشريحة التي مارست الانتخاب، وهنا الحديث عن شريحة الطلبة، والتي تصفها الأدبيات الماركسية بالبرجوازية الصغيرة، باعتبارها شريحة استهلاكية، غير منتجة، وغير متحملة للمسؤولية، وتفكر بعقلية اليسار الطفولي، وبالتالي تتأثر بسهولة بالخطاب الانفعالي الشعبوي. هذه الشريحة مهمة جداً، وللأسف تخلى عنها آباء الحركة الوطنية، وصارت منفصلة عن الواقع، وساخطة. وعند الحديث بشكل خاص عن طلبة بيرزيت يتطلب الأمر فهم الكثير من التفاصيل والجزئيات والأحداث والشخوص وخصوصية الجامعة، والأخطاء التي مارستها الشبيبة. وهذا شأن آخر يحتاج متخصصين.
مبروك لكتلة «حماس» فوزها المستحق، ونتمنى عليها إجراء انتخابات مماثلة في القطاع. ومبروك لجامعة بيرزيت عرسها الديمقراطي.. وحظاً أوفر لمن خسر الجولة، على أن يحاسَب من تسبّب بالخسارة.